قضايا وآراء

"مفهوم الحرية" وقصورهُ الدلالي في ثقافتنا العربية

علما أن المعطى الدلالي لأي مصطلح هو الذي يشكل العمود الفقري للباحثين والدارسين في مختلف المتون المعرفية، وأصبح معروفا، أن من دون هذا العمق يصبح المصطلح حبرا على ورق، ولا يشكل بعدا مفهوميا، ولا يؤدي مفعوله البحثي الرصين، ومن هذه المصطلحات التي يتداولها المثقفون العرب بكثرة ويحملها السياسيون كشعار لحداثويتهم: مصطلح (الليبرالية) بمدلوله العربي، والذي يقابله كلاما وترجمةً (مفهوم الحرية) الذي ليس فيه شيء من مدلولات الليبرالية التي يعيشها الآخرون، بسبب النقص التطبيقي أو التجسيدي لهذه المدلولات في ثقافتنا !.

فمفردة الحرية في لغتنا العربية والتي يحاول البعض أن يُضمّنها دلالات أكثر مما تحتمل في حقيقتها الثقافية، ومحاولة جعلها مفهوميا تضاهي الليبرالية في حراكها الثقافي داخل مناطق : السياسة/ الاجتماع/ الاقتصاد، فقط لأجل أن يقال بعدها إن عندنا مثل ما عند الآخرين معرفة!.

فحقيقة الحرية عندنا تختلف مفاهيميا في مضمونها الدلالي عن مصطلح الليبرالية اختلافا تاما، فتشكلها في الذهن دلاليا، تشكلٌ محدود، تناولته وبشكل أساس كتب الفقه واللغة ، ففي الفقه أعطيت (الحرية) دلالة فقهية تعبدية محددة: " (حرر)قال تعالى: فتحرير رقبة، أي عتق رقبة، ويقال حررت المملوك فتحرر، أعتقه فعتق والرقبة يراد بها الإنسان" * .

وتحرير الرقبة مداره وموضوعه في الفقه قائم على حكمين؛ فتارة يكون الحكم واجب، كأن يأتي الإنسان بذنب مثل عدم صوم شهر رمضان فيجب عليه تحرير رقبة ، حتى يُكفر عن ذنبه، وتارة يكون الحكم مستحبا ، مثل أن الدين يحث مالك العبيد أو مشتري العبيد على عتق بعض عبيده أو كلهم حتى يحصل على الثواب الأخروي ؛ وعتق العبيد هذا كان سائدا ومتحصلا في زمن الرق، وكان الحث على عتقهم من قبل الدين يمثل خطوة مهمة آنذاك، أما اليوم فليس هناك عالم للرق، وعليه حتى هذا المضمون الدلالي في الفقه قد انتفى وأصبح الأمر لا يخرج عن إطاره ألدرسي الغير فاعل في الحياة الثقافية السياسية والاجتماعية.

أما في اللغة فلم تأتِ شروحات الحرية مخالفة للمضمون الدلالي في الفقه، ففي لسان العرب لابن منظور تأتي مفردة الحرية بهذا الشكل :

" وقال ابن الأَعرابي: حَرَّ يَحَرُّ حَراراً إِذا عَتَقَ، وحَرَّ يَحَرُّ من الأَصل الحُرَّية، وحَرَّ الرجلُ يَحَرُّ ؛

وفي حديث الحجاج: أَنه باع مُعْتَقاً في حَرارِه؛ الحرار، بالفتح: مصدر من حَرَّ يَحَرُّ إِذا صار حُرّاً، والاسم الحُرَّية ."

إذن، فاسم الحرية وبمختلف اشتقاقاته الفقهية واللغوية يتناول موضوع محدد وهو موضوع الرق وكيفية انتهاءه، وحتى المقولات التاريخية كمقولة الخليفة عمر بن الخطاب" متى استعبدتم الناس ولقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" لا تخرج عن هذا الإطار اللغوي والفقهي للرقية والتحرر منه.

وعليه ليس هناك تشكل مفهومي لاسم الحرية أوسع مما في (الفقه واللغة) في ثقافتنا العربية، ومفهوم الحرية عندنا لا يعادل مفهوم الحرية في الثقافات الأخرى حتى بالنزر اليسير.

فمفهوم الحرية في الثقافات الأخرى والأوربية منها على وجه الخصوص مشتق من مفردة: الحرية (liberté ) أيضا، لكن هذه المفردة اختلفت دلاليا عن مفردتنا – الحرية – بسبب القدرات التعبوية التي راكمها النضال الوطني الأوربي في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما أعطى نضال هذه الشعوب دلالات أوسع لمفردة liberté من وضعها الأولي الذي كان أيضا يتناول موضوع الرقية وبشكل محدد تقريبا.

فبعد تثبيت الحقوق المدنية لهذه الشعوب في عملية التنظير ألاستشرافي من قبل مفكريها والنضالات التي خاضتها هذه الشعوب دخلت دلالات جديدة على تشكل (liberté) اللفظي والكتابي ، فأصبحت تعني : العتق/ الصراحة/ الحقوق/ التسامح/ الحرية الفردية/ الكريم والسخي/ مرتاح الضمير، فكل هذه المصاديق الدلالية لمفردة الحرية (liberté) شكلت عنوانها الاصطلاحي المفاهيمي النهائي (libéralisme / الليبرالية) أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وتحول هذا المفهوم الفكري والسياسي إلى منظومة تقوم على أساسها الدول وتنظم على وفقها التعاقدات الوطنية والاجتماعية وتكتب وفق معطياتها الدساتير، وأصبح هذا المفهوم سائدا في الحياة الثقافية الأوربية بشكل طبيعي ، وتأتت على أساسه فيما بعد كل الحقوق المدنية للأفراد والجماعات، وأصبح حق الاختلاف بالأفكار والمشاريع أيا كان شكلها السياسي والاجتماعي من ميزات المفهوم الليبرالي الذي يحكم أوربا لهذا اليوم .

إن التعددية والديمقراطية القائمة على الحياة الحزبية والنقابية هي من أهم الآليات الصميمة والفاعلة لإدامة هذه الليبرالية في هذه الدول التي تريد أن تبقي هذه المفاهيم هي المحركة لحياتها ، أما في الجانب الاقتصادي، فأن الملكية الفردية واقتصاد السوق الحر وإبعاد هيمنة الدولة على الاقتصاد هي من أهم ركائز الليبرالية في المجال الاقتصادي، مع تأكيد هذه الليبرالية وعدم إهمالها لحقوق الطبقات الوسطى والدنية من الخدمات الاجتماعية والصحية والإسكانية والتعليمية، فلقد فرض المفهوم الليبرالي في هذا الجانب: الدولة والنقابات، ليكونا الحاميين والحارسين لهذه الفئات من تعسف أصحاب رؤوس الأموال والشركات.

أذن، فبرجوع إلى مفهوم الحرية في الثقافة العربية، كمفهوم يختزن كل هذه الدلالات والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموجودة في ثقافات الشعوب الأخرى، نجد أن هناك قصورا كبيرا في هذا الجانب داخل منظومتنا الثقافية، لان هذه المنظومة بقيت راكدة غير متحركة وجامدة بشكل ينبئ بموتها، خصوصا في هذا التحول العولمي / الكوني، وهنا لابد أن لا يسئ الفهم بين اللغة بوصفها كلاما وقدرات إنشائية وإخبارية، وبين اللغة بوصفها معبرا عن ثقافة امة ما؛ فالعربية قدراتها الكلامية والإنشائية من منظور علم اللغة، عالية ومتينة وفيها الغزارة الكبيرة، لكن العربية كمعبر ثقافي فهي تعد عاجزة اليوم أن تنتقل بنا بسلاسة وثقة داخل المفاهيم الحديثة : السياسية والاجتماعية والفلسفية، ولا يقع في هذا الجانب اللوم على اللغة ، إنما اللوم يقع علينا كشعوب وجماعات ناطقة بهذه اللغة؛ فالتطور الدلالي لكل لغة يأتي كصورة ومرآة عاكسة للحياة الثقافية لهذه الأمة أو تلك ولنضالاتها السياسية والاجتماعية، ونحن لهذا اليوم امة جامدة يأكلها الاستغراق في التراث ويهرسها هرسا ولا نعرف إلى أين ستؤول بنا الأمور بكل هذا الاستغراق التراثي! .

فالحرية، واشتقاقاتها في اللغات الأوربية ومفهوم الليبرالية الناتج عنها، لم تتعدد ولم تتوسع دلالاتها إلا بقدرة هذه الشعوب الناطقة بهذه اللغات،على ان تكون شعوب حية تعيش الحاضر وتطوره وتستشرف المستقبل برؤى معرفية متنوعة، وكل هذا قائم على قاعدة: أحقية التفكير والاختلاف بين الناس كأفراد وجماعات، وهذه (الأحقية) لم تُعط من المؤسسات الفوقية، سواء كانت مؤسسات حكومية أو دينية، وإنما هي حقوق انتزعت انتزاعا بسبب نضالات الحقوق المدنية التي خاضتها هذه الشعوب الليبرالية.

أما نحن وثقافتنا العربية بمعطياتها الاجتماعية والسياسية، لم نثبّت لحد هذه اللحظة أحقية الناس في حرية التفكير ونتائجهِ، وحرية الاختلاف والاعتقاد، وتحويل هذه الأحقية إلى ميثاق تعاقدي اجتماعي ووطني تقوم على أساسه الدول، وعليه فلن نستطيع أن نقول إننا امة عندها مفهومها الخاص للحرية الذي يضاهي مفاهيم الحرية عند الآخرين، أو إننا امة شريكة في إنتاج مفهوم الحرية الذي يعيشه العالم بأجمعه اليوم تقريبا، لأننا امة ما زالت مختلفة على نفسها، ومختلفة في أهمية إحقاق (الحقوق المدنية) ونحن امة ما زال يستغرقها مفهوم الفرقة الناجية وتحركها روح التكفير في ما بينها؛ فكيف لنا ندعي بأمور هي ليست متوفرة عندنا لحد هذه اللحظة ؟! .

أنا لا أريد أن أقول هنا إننا كأمة لم نعش البتة حقبة حلمت بتحقيق (مفهوم حرية) متقدم؛ ففي التاريخ العربي الإسلامي يمثل المعتزلة فيه شريحة متقدمة سعت في أن تتم مشروعها حول مفهوم الحرية حتى وان أتى هذا المشروع بغير اسم الحرية؛ فمواضيع مثل (القدرة والاختيار والجبر) التي تناولها المعتزلة في علم الكلام كانت قيل ألف ومائة سنة، تمثل ثورية فكرية حاولت أن تنتج تراكمها المعرفي الذي يحقق عقدا اجتماعيا متطورا فيما بعد، لكن القطيعة التي أنتجتها السلطة السياسية آنذاك وحليفها الديني استطاعت أن تقضي على المعتزلة ومشروعهم الفكري .

إن حاضرنا ومستقبلنا يلح علينا أن نعيشه أسوياء ، وان نحقق فيه قدرتنا في أن نكون شركاء حقيقيين في توجيه هذا العالم، وكل هذا لا يتحقق ما لم تتم تسوية الحقوق المدنية القائمة على معطيات (مفهوم حرية) الكامل الدلالة، مثل ما عند الآخرين، لا على مفهوم الحرية الملفق والقائم على التوسل اللغوي أو التغني بأمجاد الماضي أو التخويف بفقدان الخصوصية التي يخاف عليها من الاختراق كما يحاول أن ينظر لها دعاة الأصالة، ومتى ما تم انتزاع الحقوق المدنية وقتها سيتحرك كل شيء؛ نحن سنكون أكثر فاعلية على المستوى العالمي ولغتنا العربية ستكون متحركة في دلالاتها ومخترقة وتستحق أن تنافس في بعث مفاهيمها الخاصة، ومن وراء كل هذا فنحن بشر نستحق أن نعيش الخير كما يعيش الآخرون هذا الخير .

 

.................................................

*الشيخ عبد الله عيسى الغديري(القاموس الجامع) للمصطلحات الفقهية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1219 الخميس 05/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم