قضايا وآراء

كان لي أستاذاً

وبعد أن يترجّل يبدأ بتوزيع مُزحهِ الذكية ومداعباته الأبويّة على الطلبة الذين يبادلونه فوراً محبتهم .

كُنّا نرى (أبو سعيد) مدرّسنا لمادة الفيزياء فارع الطول رغم قصره الواضح، إذ كان مليئاً بالعنفوان، طافحاً بالبشر والتفائل، يدعو للحيرة من شدّة ذكائه، فمثلاً كُنّا نظنُ خطأً في بداية تعارفنا إنه لا يرى شقاوتنا من خلف نظّارته الطبيّة أو حين كان يستدير نحو السبورة، فنتمادى في اللهو الصموت حتى يفاجئنا بمناداتنا واحداً واحداً، حتى دون ان يستدير، فألتزمنا بأحترام حصته إكراماً لنباهته وفطنته .

لم يكن (أبو سعيد) مدرّساً كفأً فحسب، بل كان تربوياً من طراز فريد، لم أذكر طيلة السنتين التي قضيناها بالتلمذة على يديه، إنه زجر أحّدنا أو عاتبه على امرٍ ما أو حثـّه على الدراسة، كان يعطينا الحصة بطريقة تفصيلية محببة مدعومة بالأمثلة التوضيحية لتسهيل عملية إستيعابها، ويترك لنا كامل الحرّية في أن نختار طريق النجاح او طريق الفشل، وبسببه كان الجميع يختار الطريق الأوّل .. أتذكّر مرّة إن أحد الطلاّب شكى له من خوفه وفزعه من مادة الرياضيات التي أضحت هاجسه المقلق طول حياته الدراسية وإنه عاجز عن حل أيّة مسألة منها مهما كانت، أبتسم بعد ان أقترب منه :

ـــ شوف كل المسائل الرياضية هي عبارة عن حزّورات .. فهل تخاف من الحزّورات؟

والغريب إن هذا الطالب  أصبح نهاية تلك السنة من المتفوقين في كل الدروس العلمية التي تعتمد في حل مسائلها على الرياضيات ومعادلاتها بعد ان أصبحت في نظره نمطاً من الحزّورات ليس الاّ !!

كان (أبو سعيد) ببشرته التي صبغتها شمس البصرة بسمرة محببّة، وبحبّة بغداد التي طبعت خارطتها بوضوح على إحدى وجنتيه، يمتلك قدرة فائقة في الترفّع عن صغائر الأمور ومواجهة التهديدات بالأستخفاف منها .. أتذكّر في يوم من أيام المواجهات العنيفة بين قوى اليسار وقوى التحالف العروبي والرجعي، وكُنّا قد عرفنا بأنه صحفي وقيادي شيوعي، قامت مجموعة من الطلاّب المحسوبين على التيّار القومي بعمل جبان مستغلّين خلو الساحة والشارع من المارة، بتهشيم مصابيح سيارته الأمامية وإحداث أضرار في مقدمتها، وحين أكتشفنا ما حصل وأخبرناه ونحن يعتصرنا الآسى والحيرة كيف ستكون ردود أفعاله .. فوجئنا بأبتسامته حين رأى حطام مقدّمة السيارة وأستدار علينا وقال :

ـــ ياجماعة .. السيّارة مو طلعت أحلى ؟!!

هكذا كان (أبو سعيد) نبيلاً من النبلاء رغم ما في هذا التشبيه من طبقية واضحة، لكنّها الحقيقة .. إذ لم نكن قد أعتدنا على مثل اخلاقياته من قبل .. كان إنساناً إستثنائياً في كل شيء، جمع كل الفضائل في كفيّه، وتعشـّقت روحه بحب الناس وحب الأرض وحب الكلمة الشريفة المسؤولة .

قبل أمتحانات نصف السنة وقعت بين يدي صحيفة (إتحاد الشعب) وكان حجمها كما أتذكّر بنصف حجم جريدة، قرأتُ كلمة (أبو سعيد) في الصفحة الأخيرة التي ذكر فيها حكاية يخاطب فيها الزعيم عبد الكريم قاسم الذي عزل نفسه في وزارة الدفاع بعد أن تخلّى عنه الجميع بسبب سياساته التناورية غير المستقرّة بين الأتكاء على اليسار مرّة وعلى  اليمين مرّة اخرى، كان مفادها إن الرجل الأعمى إذا بقي لوحده على سطح بناية لا بدّ ان يقع في يومٍ من الأيام، لكنّه إذا نزل الى الشارع فسيجد الألاف من بين الناس من يأخذ بيديه ويوصله الى رصيف الأمان ..

والعجيب إنه كان دقيقاً في نبؤته وتشخيصه للحالة .. فبعد نهاية العطلة الربيعية مباشرة، سقط الأعمى وأستبيح الدم العراقي الطاهر وأصطبغت أرض العراق بلون النجيع .. وبعد حركة معسكر الرشيد في 30 تموز سال دم عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) وكان فائراً حارّاُ أحرق أيادي قاتليه .. وحين أعلنت إذاعة القتلة خبر إعدامه أنهدّ صرح العفّة الذي شيدته بذاكرتي الفتيّة وأنتهى في يقيني الى الأبد كل شيء جميل، ولم تعد لمادة الفيزياء من يوصلها بيسر الى أذهان الطلبة، وأصبح الحقد الأسود المريض الذي أستيباح دمه الطاهر عصيٌّ على الفهم كأصعب حزّورة ممكن ان تمرّ في بالنا .

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1223 الاثنين 09/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم