تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

“تبا للمتربصين”: في ضوء جدلية الموضوع والمرجع

القصص التي كانت تحكى على ألسنة البهائم و الوحوش والطيور قديما. فلقد كان القصاصون القدماء منذ “ألف ليلة وليلة” أو قبلها – كما هو معلوم- يحكون عن الحيوانات بأفعال بشرية. والأمثلة لا تعد ولا تحصر على ذلك إذ يكفي أن نعود إلى مجموعة “كليلة ودمنة” وما حدث بين القرد والغيلم وغيرهما مما وقع بين الأسد وصديقه الثور (شتربة) الذي حولته أنا بدوري إلى شخصية آدمية فكتبت عنه ثلاث روايات حتى هذه اللحظة.

كان القاص القديم يقحم السلوك البشري في أشخاص حيوانية. والآن- من خلال هذه الأقصوصة على الأقل- أرى عمران عز الدين أحمد- على سبيل المثال- قد بدأ يرد جميل ابن المقفع بالمقلوب* مثلا: كان القاص القديم يقود قطيعا من الحيوانات إلى المدينة=المدنية حتى تلعب له أدوار البشر، وعمران قد بدأ يقود قطيعا من البشر إلى الغابة=الحيوانية ليلعبوا له أدوار تلك الحيوانات! وهذا بالتحديد ما أعنيه بمفصلية هذه الأقصوصة. هنا لا أتحدث عن الأدب العجائبي Fantastic literature الذي بدأ مع سندباد في عالم الضاد. فهذه قصة أخرى. لأن ع.ع.أحمد لا يكتب الأدب الخارق حتى نقرؤه بما يناسب تلك العجائب. نعم كتاباته تروم الخروج من السياق الطبيعي ولكن من باب آخر.

في حين نجد القصص القديم- المشار إليه أعلاه- يستهدف (الحكمة= الجدية) نجد عمران يستهدف (اللاحكمة= السخرية) ! وانطلاقا من هذه (اللاحكمة) يؤسس لــ (لعبرة). ومن هنا يربط اتصالا بين أدبه الحديث والأدب القديم الذي كان ينطلق من هذه الــ (عبرة) ليؤسس (الحكمة). بمعنى أوضح أقول إن القصص القديم كان ينطلق من العبرة ليؤسس الحكمة. بينما نجد عمران عز الدين أحمد ينطلق من اللاحكمة ليؤسس العبرة ! ومن هنا تستمد قصته القدرة على التشويق. فإذا أردنا أن نقرأه كما نقرأ القصص القديم فعلينا- بكل بساطة- أن نقرأه بطريقة عكسية وليس إطرادية كما هو معهود (سآتي لا حقا إلى الحديث عن نتائج القراءة العكسية). من هذه الناحية فقط نستطيع التوصل إلى ما يساوي الحكمة من خلال لاحكمته!

إن عمران عز الدين أحمد لم يقد هذا القطيع البشري ليزج به في الأدغال ظلما وإقحاما. بل كان وفيا للرسالة الأدبية على مختلف مستوياتها المنبثق أهمهما من مراعاة التراكم الأدبي مما يعني أنه قد قرأ واستهلك الإبداع السردي بشكل لا بأس به. أعتقد- انطلاقا من هذه الأقصوصة- أنه كاتب كيفي عمودي وليس مجرد كمي أفقي. ثم إن القفز من مستوى الكتابة الكيفية إلى الكمية ليس- بالأمر السهل- متوقفا على قرار يتخذه الكاتب متى شاء. مثلا: لم نكن لنقبل أقصوصته “تبا للمتربصين” لو جاءت في زمن يسود فيه نوع من الجدية والمعقول. بل كنا سنكتفي بسؤال-تعجيزي- واحد وهو “..كيف يمكن لمجلس الدولة / الغابة أن ينعقد فيضم الوزراء برئاسة زعيم (الغابة) من أجل الإسراف (الاستتباع الفارغ) في تفاهة الحديث على حساب الخطة الواجب اتخاذها بغية التصدي للمتربصين؟ ! ثم ما دام الأمر يتعلق بالغابة فكيف يمكن أن نتحدث عن الوزراء !! و لكن بما أن هذه الأقصوصة مقبولة في نفس القارئ المعاصر- مع أنها لا يمكن أن تتحقق إلا على الورق- فهذا يعني أن الكاتب يعرف ماذا يفعل. ولقد استغل سيادة الجحيم البنيوي الذي أصبح- بفضل وسائل الإعلام والإعدام اللامحدودة- أبديا في بيت كل بشري ليكتب على إيقاعه. ليس على مستوى المضمون فقط بل حتى على مستوى الشكل أيضا.

صحيح أن وطننا قد لا يكون في حالة حرب. ولكن وسائل الإعلام والاتصالات لا تعطينا فرصة للابتعاد عن ساحتها. ومن المعلوم أن المأساة في الواقع كثيرا ما تترجم إلى السخرية في الأدب. والتفنن في التعذيب  /  المأساة يحدد- نوعا ما- طبيعة التفنن في إنتاج السخرية الأدبية. كل هذا مرصود ومأخوذ بعين الاعتبار في هذه الأقصوصة. فمع أنها كتبت بلغة بسيطة إلا أنها تحتاج إلى تأمل القارئ. وأهم ما أركز عليه هو أن الكاتب لم يمنعه أي حرج أو تردد حيث قال:

“تناهى إلى سمع زعيم الغابة أن جماعة من المتربصين تريد التخلص منه ومن حكمه” لو ترجمنا هذه الأقصوصة إلى لغة روائية (تقليدية) فسيكون علينا أن نغرق في توضيح الكثير من الإحداثيات والتبريرات والتفسيرات. لكن عمران قد فجر المسكوت عنه والمتردد في شأنه على رؤوس الأشهاد فانطلق يتحدث عن تفاصيل الخطة التي تقررت في هذا المجلس الغابوي الموقر مراهنا على أن القارئ يعرف جيدا هذه الغابة / الدولة بشكل مسبق- معتمدا على معلومات خارج الفضاء النصي- وذاك الزعيم بل حتى المتربصين.

إن رهانه على معرفة القارئ للجانب المحذوف من النص هو مدخل للبث في جدلية المرجع والموضوع التي تثيرها مثل هذه الأقاصيص في هذا الزمان. إنه يتحدث-من خلال هذه القصة- عن كل من ينطبق عليهم شيء من هذه الخصال. من هنا تستمد الأقصوصة تعريفها. وبالتالي فهي إنشائية أكثر منها خبرية. إن السارد يعرف أن القارئ لن يستغرب هذه المعطيات. لماذا؟ لأن شاشة الواقع / المرجع (التلفاز مثلا) مشغولة- بشكل شبه دائم- بالحروب والقتل والركل بحيث لم يعد الأمر يحتاج إلى التفريق بين ما يحدث في السودان وما لا يحدث في فلسطين وما ينفجر في أفغانستان وما يتقنبل في لبنان.

لقد أصبح التركيز على التبريرات والتفسيرات الأدبية- على مستوى الموضوع- مجرد إضاعة للوقت. فالطرق تتعدد والقتل واحد. لهذا فهو لم ير بأن القارئ سيطلب منه تعريف هذه المملكة الغابوية المجيدة. بل إن من يتوفر فيه شيء من هذه الخصال المنصوص عليها في هذه الأقصوصة هو من عليه أن يستمد تعريفه منها ! فالمسالة معكوسة، مثلا:

الأقصوصة تعكس حدثا يفترض أن له مرجعية خارج فضائها. إذا فهي ليست معرفة لأنها تعريف لهذا المرجع ! من هنا تلتقي شكليا مع كل ما حكاه بيدبا للملك دبشليم لكونها استباقية نظرية لما قد يحدث. وبالتالي الاستباق إلى أخذ العبرة من عواقب هذه الأحداث قبل أن تحدث. إلا أنه بحكم التراكم الأدبي الذي انطلق منه عمران عز الدين أحمد أرى أن هذه الاستباقات وتلك الحكم لم ينعكس في أقصوصته ما تيسر منهما إلا من أجل النيل الساخر حتى من جدوى هذه العبرة وتلك الحكمة نفسيهما ! إنها أقصوصة مبرمجة على إقصاء كل ما هو جاد ومفيد. ومن هنا تكون نكتة أدبية مائة بالمائة. ليس لأن الأدب الهادف منقوص، بل لأن هذه الأقصوصة لا تحمل إلينا سوى الأدب.

هناك نقطة أخرى وهي أن عناصر تعريف مثل هذه الأقصوصة ليست متضمنة داخل فضائها، بل اعتمد السارد على المرجع الخارجي الذي تمثله= يمثلها. مثلا: إذا كان السارد يذهب مباشرة إلى تفجير السخرية (داخل القصة=الموضوع) فنحن نرى فردا من أفراد المليشيات يذهب مباشرة لتفجير العبوة الناسفة (خارج القصة=المرجع) في أحد أوطاننا التي نخر جسمها الاستعمار. إذا فإن المرجع الخارجي مشارك في هذه القصة على حساب استيفاء شروط التعريف الافتراضي لها. وبالتالي فإن قراءتها الكاملة تعتمد على المزج القرائي بين المنصوص عليه داخل الأقصوصة والمنصوص عليه في الشارع ! وبما أن الأحداث والعلل التي تكون نسيجها مشطورة بين المرجع والموضوع فهذا مظهر من مظاهر الإضافة التي قام بها عمران عز الدين أحمد.

ولا ننسى أن الأقصوصة التي كانت تحكى على ألسنة الحيوانات كانت تتضمن ما يكفي من التعريفات والعلل المنطقية حتى وإن كان ذلك يتم من خلال ما يسمى التأنيس Anthropomorphism في حين نجد أن هذه المسألة قد تم إلغاؤها عند عمران عز الدين أحمد من أجل أن ينشطر نصه بين الفضاء النصي والفضاء المرجعي بطريقة رائعة. هذا مثل على البعد التبريري / التعليلي الذي يتم من خلاله تقسيم النص بين الموضوع والمرجع. الكاتب لم يشر-حتى منهجيا- إلى السبب في تفجير هذه السخرية لأن مفجر العبوة الناسفة-على سبيل المثال لا الحصر- لم يظهر السبب.

ملاحظة: أنا لا أعني أن هذه الأقصوصة تدور حول الحرب التي ذكرتها، بل كل ما في الأمر هو أنني أريد أن أبسط إلى أبعد الحدود وذلك بالأمثلة على ما يحكم القيمة المرجعية لموضوعها / مضمونها. مع العلم أن هذه الأقصوصة لا تحتاج إلى تلخيص أو ما شابه، فهي بسيطة على مستوى الشكل وما على القارئ إلا أن يقرأها حتى يفهم جيدا ما أتحدث عنه هنا. والذي أعنيه بكونها تحتاج إلى بعض التأمل ليس من أجل فهم الموضوع المباشر الذي تدور حوله، بل أعني استخراج قيمتها التاريخية وتموقها على السلم العمودي الكيفي للأدب.

بدأ السارد هذه الأقصوصة بإعلان زعيم الغابة استنكاره لما يحدث في هذه الأخيرة من محاولات اختراق أمنية على أيدي جماعة من المتربصين. وفي نهاية هذا الاستعراض المضحك لعضلات الدولة / الغابة أبدا الزعيم وثوقه برجالاته مع أنهم لم يقولوا ما يطمئن بل ما يمتع في غير محل المتعة إذ قال في نهاية القصة / المجلس: (..إذاً مازال أمني مستتبّاً، فتبّاً للمتربّصين) هذه العبارة في غاية الدقة من جميع النواحي إلا أن تصدر من زعيم دولة في نهاية المجلس الذي لم يتقرر فيه سوى التعبير عن أقصى آيات الغرور والعته.

يبدو أن الكاتب لا يخرج عن السياق المعهود للحكاية التقليدية التي تبلورت في الروايات والقصص حتى يكون لديه رهان / بديل. وهذا البديل يكمن في الانشغال بإعطاء حكمة / عبرة من هذه النكتة بالطريقة المذكورة أعلاه. إلا أن هذه النكتة (الحكمة) لا تستهدف العقل بل الوجدان عن طريق تهييج غريزة الضحك. وبهذا نسميها السخرية. فمن المعلوم أنه من المستحيل أن يكرس أحد- مهما كان تافها- هذه المجهودات الجبارة؛ الوزراء النواب المؤسسات القضاة من أجل حكم الغابة ! ومع ذلك افترض متربصين وأعد لهم ما استطاع من قوة ورباط الخيل. واستنفر الموارد البشرية والسياسية والاقتصادية والقانونية من أجل ذلك. من هنا جعل السارد قصته تحمل موضوعا هاما جدا يستحق أن يكتب عنه.

استدعى الزعيم أحد وزرائه المخلصين وسأله كالتالي (قل لي يا وزير… ما الشيء الذي يطربك ويجعلك نشوان فرحاً.؟)

الملحوظ أن الزعيم من شبراق غروره- المستمد أهم أركانه من السخرية التي أقامها السارد- لم يسأل عن أحوال المملكة الأمنية بطريقة مباشرة كما نفهم في نهاية القصة. بل قرر أن يتقاسم قلقه بطريقة رائعة (روعة السارد) بين الزعيم والوزراء بحيث تكتمل صورة المعلومة والسخرية والاستخفاف مع اكتمال دورة الحوار الدائر بينهم. نلاحظ أن الزعيم قد سأل عن الشيء الذي يجعل وزيره المخلص نشوان فأجابه الوزير قائلا (…منظر الفريسة وهي تتألّم وتستجدي الرحمة..) إن السارد يقرب إلينا- من خلال جواب الوزير- الترتيبات الأولية للتخلص من المتربصين. والملحوظ أن جواب الوزير يساوي سؤال الزعيم في كونه قد تفنن في الإجابة عن طريق تمديد الإفصاح عما يريد الزعيم الوصول إلى التصريح به وهو الاستعداد للحرب. إذا كانت العجرفة والغرور والاستخفاف بالعدو تتجلى في تفنن الزعيم وتطريزه المشهد بالسؤال عن الشيء الذي يجعل وزيره نشوان- في حين كان عليه أن يسأله عن رأيه في خطة الدفاع والتصدي للمتربصين- فهي تتجلى عند الوزير في حديثه عن تلذذه بمنظر الفريسة وهي تتألم. وهذا يوحي بالثقة المطلقة في النصر بحيث لم يبق إلا الحديث عن الكماليات = (التلذذ والنشوة).

إن السارد لم يترك من الإنسان في هذه الأقصوصة (الغابة) إلا باسمك اللهم! ففي الوقت الذي يستخف زعيم الغابة من هؤلاء المتربصين يسجل السارد أقصى آيات السخرية منه إذ أن المتربصين بالغابة أشرف بكثير من الذي يتزعمها ويكرس لها كل ما توصل إليه الفقه البشري من دستور وقانون ومجلس حكومي وغيره كما جاء في حديثه عن الوزراء واستشاراتهم في مسألة التصدي لهؤلاء المتربصين. شكليا يبدو كأنه على استعداد ليزج بجيش كامل في المعركة ضد المتربصين بهذه الغابة. إذا فهذا الزعيم أكثر جدية مما يبدو عليه في بناء دولته / غابته والدفع بها نحو التقدم و الرقي والازدهار إلا أن القصة مفخخة من ألفها إلى يائها بذخائر السخرية. وذلك يتجلى في تكريس هذه المجهودات الدستورية والسياسية والدبلوماسية من أجل الغابة كما أشرت أعلاه.

هذا بالإضافة إلى ما استشففناه خلال الأقصوصة من أخلاقهم (رجال الدولة الغابة) المقلوبة رأسا على عقب. بيد أن هذا الزعيم في الوقت الذي كان عليه أن يتساءل حول ما إذا كان حكمه لهذه الغابة مقبولا أم لا على الصعيد المنطقي، نراه يقحم نفسه في تفاصيل تافهة ليسرف في تسجيل تفاهة بعد أخرى. وهذا ما نجح السارد في الإلقاء به على وجه الزعيم بمهارة.

توجه الملك إلى سؤال الوزير الثاني فقال له الأخير (…أنْ تتوسّل تلك الفريسة إليّ، لأعفو عنها، فيقوم الجلاد بوضعها على الخازوق، دون أن يكلّف نفسه عناء سؤالي.)

هذا الجواب يعطينا فرصة لنعرف ركنا هاما في نفسية أهل هذه المملكة. وعلى رأسها مراعاة التسلسل الرئاسي المتناسبة مع التصوير الجمالي. وتلك الصرامة التي لبست ثوب الغرور شبه المطلق لدى هؤلاء. فها هو الوزير يتمنى أن يجهز الجلاد على الفريسة دون أن يكلف نفسه عناء سؤاله. يعني من جهة أخرى أن الوزير الثاني يصرح بأنه يتلذذ باستعطاف واسترحام الفريسة شريطة ألا يستجاب لها.. بل ينتشي أكثر في حالة ما إذا لم يكلف الجلاد نفسه عناء سؤاله. فأية قلوب هذه؟ الجواب:

لا ننسى أن السارد عندما اختار لهؤلاء الغابة كان مطلوبا منه أن يبرر للقارئ الافتراضي ذلك. وهذا ما فعله بالضبط من خلال جر انتباه وتركيز القارئ إلى أن هؤلاء جديرون بحكم الغابة ولا شيء آخر. بل يجب ألا يخرجوا منها إلى المجتمع البشري الطبيعي المألوف. لقد رأى الوزير الثاني في استشارة الجلاد له- بشأن الفريسة- نوعا من التكملة لاستعطافها إياه مثلا (استعطاف=سؤال الضحية) = (استشارة= سؤال الجلاد) يعني أن ما يجمع بين الجلاد والفريسة هو الـ سؤال) وتمجيدا لـ (سؤال) الزعيم المتعجرف الموجه إلى الوزير كان على الأخير أن يترفع عن كل من (سؤال ) الفريسة و(سؤال) الجلاد.

لننظر كيف أجاب الوزير الثالث على نفس السؤال حيث قال: (..أنْ تكشف لي تلك الفريسة عن أسماء جميع المتآمرين على أمنك وأمن الغابة، فأقطعها إلى قطع صغيرة، وأرميها في الصحراء طعاماً للذئاب.)

إنها طريقة رائعة ولقد استطاع السارد / الكاتب أن يعطينا معلومات أمنية واطلاعنا على خطة هذه المواجهة الكاريكاتيرية بشكل موفق أدبي /  نكتي أقصوصي مشوق. فمن خلال هذا الجواب النهائي نلاحظ أن هناك هرم يتكون من أربعة مستويات. في القمة يتربع زعيم الغابة (بشر) يليه الوزير المخلص فالوزير الثاني والثالث ثم يليهم الجلاد وهؤلاء كلهم (بشر) ثم تليهم الذئاب (حيوان). أعني بالتناسب القائم بين التسلسل الرئاسي والتصوير الجمالي أن الأجوبة التي تم تقسيمها على الوزراء جاءت من الليونة إلى الصرامة عبر خط تنازلي بدأ من مقام الزعيم لينتهي بالفريسة بين أنياب الذئاب في الصحراء.

والعلاقة الرابطة بين هذه المستويات ذات طابع تدرجي من الناحية الوظيفية. فرغم أن الجميع لا يختلف عن الذئب (قاعدة الهرم) – ابتداء من هذا الزعيم الذي بلغ ذروة الغرور والثقة الزائدة بنفسه ودولته وهلم وزراء وذئابا- إلا أن مرموز الرسالة كبير بعض الشيء. فالملاحظ أن الانفتاح على العالم الخارجي المتمثل في الـ (متربصين)- من طرف هذا المجلس الحكومي / الغابوي الذي يترأسه زعيم الأدغال- تم من خلال الشق البشري لقاعدة الهرم (الجلاد) وهذا يشير إلى التوفيق الجمالي والبناء السردي الذي يحكم الأقصوصة. مثلا:

كيف تقرر القيام بالإجراءات الأمنية أو العسكرية اللازمة لإيقاف المتربصين عند حدهم؟ لقد تم ذلك عندما انتهى النقاش إلى مستوى ما قبل الشق البشري لقاعدة الهرم، والذي يتمثل في الوزير الثالث لهذه الدولة. وذلك عن طريق وهم استنطاق الفريسة والكشف عن هوية المتربصين على لسانها وهي تحت التعذيب. هنا يفصح السارد عن لب القضية التي أشار إليها في بداية الأقصوصة، ألا وهي اجتماع المجلس الغابوي الموقر بغية وضع خطة أمنية لمواجهة ما جاءت به المخابرات إلى سمع الزعيم. لقد كان بإمكان الزعيم أن يتلقى هذه المعلومات كلها من الوزير المخلص الأول. ولكن لكي نفهم لماذا وزع السارد هذه المعلومات على هؤلاء الوزراء فلنقرأ الأقصوصة بشكل بنيوي محاولين تفكيك وإعادة إنتاجها بوزير واحد على سبيل المثال. لنفرض أن السارد يتحدث عن وزير الداخلية أو الدفاع أو قائد من قادة الأمن أو الجيش بدل الزج بالدولة أجمع في هذه القضية الـ (بسيطة). لكن لو كان الأمر بهذا الشكل لأصبح السارد على مقربة من المعقول والجدية -المرفوضين وفق التمفصل المتحدث عنه أعلاه، والذي يعطي الأقصوصة بعدها الكيفي كما أشرت كذلك-لكون قائد (بسيط) من قادة الجيش في مقابل هؤلاء المتربصين (البسيط) شأنهم حسب ما نستشفه من خلال الثقة الزائدة بالنفس التي دفنها الغرور في صدور هؤلاء ! إذا فإن تهويل أمر المتربصين- طبعا مع تنكير ذواتهم كما قلت أعلاه- واستدعاء مجلس الدولة / الغابة الموقر الذي يترأسه زعيم الغابة بنفسه- خصوصا والأمر لا يتعلق بالقبيلة لذكره الوزراء- هو تعظيم لشأن الدولة واستعراضا لعضلاتها المتمثلة في الوزراء والمجلس إلخ على أن هذا التهويل=التعظيم مؤقت ومغرض يؤسس لقساوة السخرية المختوم بها المطاف السردي. وهذا يعني أن وظيفة المتربصين مقتصرة على إعطاء فرصة لمملكة الغابة من أجل استعراض عضلاتها. وبما أن هذه العضلات لا يرام من خلال استعراضها أكثر من تسجيل السخرية=العبث، فمن هنا ندخل- مستعينين بتحليل سيكولوجي لهذه الجزئية- إلى مرجعة** الأقصوصة من طرف لا وعي السارد بحيث تكون تعريفا لمن تتوفر فيه الخصال المنصوص عليها وليس العكس كما قلت أعلاه. بوضوح أكثر أقول بأن الجانب المحذوف نسبيا والمتمثل في الـ(متربصين) هو الموضوع الحقيقي لهذه الأقصوصة وفق القراءة المعكوسة التي تحدثت عنها أعلاه. يعني إذا كنا نرى بأن البعد الإطرادي الحالي لهذه الأقصوصة يقوم على قلب الأمور رأسا على عقب فما علينا إلا أن نجعلها تدور حول الـمتربصين- وليس حول زعيم الغابة- حتى تبدو لنا منطقية وبعيدة عن السخرية / العبث !!

لقد غلب الجانب الغائي لدى السارد من خلال خوضه في استعراض عضلات المملكة المذكور والذي جعل جانب الأقصوصة الوسيلي عبارة عن أضحوكة مركزة. هذه العضلات تم استعراضها من أجل إبراز حقيقة هؤلاء الوحشية. والمثل يقول: ثلاثة أشياء تكشف جوهر المرء. المال والخمر والسلطة. والمقصود بهذه السلطة هو كشف جواهر هؤلاء ومن ثم الانتقال إلى انعكاسها في سلوكهم اللاهو بشري ولا هو حيواني. ثم إن الكاتب قد نجح في جعل هذه الحالة السلوكية الغريبة مناسبة لطبيعة الأقصوصة الشكلية.

إن هذا الزعيم قد حول الجاد إلى العابث عندما سأل وزيره عن الشيء الذي يجعله نشوان علما بأن الموقف يستدعي الحديث عن محل الاطمئنان من الإعراب في ظل تهديد هؤلاء المتربصين. نرى كذلك وزيره الثاني قد أجابه بأنه يتلذذ بمظهر الفريسة عندما تتلقى التعذيب إلى آخره مما يجعل هذا القوم في منزلة بين الوحوش والبشر. فالمانع من الإشارة إلى أكل الفريسة يصب في توكيد السارد على أنهم من طينة البشر. ولكن علامة الاستفهام تكمن في الانصراف إلى التلذذ بتعذيب الفريسة من أجل التعذيب وهذا هو بيت القصيد. أي أن جوهر الموضوع هو أن هؤلاء جاؤا إلى الغابة لفتح قوس جديد تشيب له الولدان. فالملاحظ أن هناك تلذذ بتقطيع الفريسة إربا ومن ثم إعطائها للذئاب.

أية دولة هذه؟ إذا وجدنا الحاكم فأين المحكوم؟ إن مهمة هذه الدولة هي إطعام الذئاب والوحوش بلحم الإنسان لا أكثر ولا أقل. ومن هنا نرى أن إشراك المرجع الخارجي في نسج الموضوع داخل هذه القصة له انعكاس حبكي أيضا يتجلى في تنكير البطل الحقيقي في هذه الأقصوصة وإقصائه من التركيز السردي ألا وهو (المتربصون). إن اللامقبول الأخلاقي والمنطقي والسلوكي الذي ألبسه السارد لأفراد هذه الدولة / الأدغال يعني أن البطل الحقيقي هو (المتربص) الذي يستهدف التخلص من هذه الدولة ! إذا فعدم التركيز على هذا البطل الجماعي (المتربصين) قد حصل نتيجة تفويض السارد ما هو قابل للقراءة في الشارع إلى هذا الأخير=المرجع.

ثم إن صرف النظر عن سبب هذا التربص- على مستوى الموضوع- يعني أن حكم الغابة بهذا الشكل غير مقبول إطلاقا، وتنكير الـ(متربصين) يعني أن هناك معارضة مطلقة لا تعارض الحكم فقط بل تريد التخلص من شخصية الزعيم قبل حكمه. من هنا يتصل اللامسرود الموضوعي باللامقبول المرجعي. فالأول يكمن في غض النظر السردي عن المتربصين مع أن هدفهم منطقي؛ ألا وهو التخلص من اللامنطقية التي تحكم الغابة. أما الثاني فيكمن في أن مجلس الدولة / الغابة لم يفلح إلا في الإفصاح عن كونه غير جدير لا بحكم هذه الغابة ولا بالبقاء على قيد الحياة !

 

سعيــد بودبــوز

المغرب / مكناس

 

..............................

* “تبا للمتربصين” أقصوصة للكاتب السوري عمران عز الدين أحمد منشورة بموقع دروب.

*أعتقد أن ابن المقفع لم يكتف بالترجمة بل أضاف من عنده لأغراض قد تكون سياسية

** مرجعة: يعني جعل شيء مرجعا

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1224 الثلاثاء 10/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم