تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

جدل العلاقة بين الاستبداد والعبودية الطوعية

ليوصف بها نمط من الحكم المطلق، الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه بمثابة سلطة الاب على ابنائه في الاسرة، او السيد على عبيده.(1)

وفي القرن الثامن عشر جعل مونتسكيو (1689-1755) الاستبداد احد الاشكال الاساسية للحكم بموازاة الحكومتين الملكية والجمهورية. فبينما تسود المساواة في الحقوق بين الجميع في النظام الجمهوري الديموقراطي، تتفشى في الاستبداد مساواة من نوع آخر كما يقول مونتسكيو، اذ(يتمتع جميع الناس هنا بالمساواة، لا لانهم كل شئ، كما هو الحال في الديموقراطية، بل لانهم لاشئ. انه ازالة المراتب بواسطة التسوية العامة)(2). ويتمتع الحاكم في الاستبداد بحرية مطلقة، تتيح له التصرف بلا حدود او قوانين او قواعد، فيما تسري على كافة افراد الشعب عبودية تسلبهم ابسط الحقوق البشرية، ويخضع كل شئ في حياتهم لنزوات واهواء ورغبات المستبد، ذلك ان الدولة تختصر في شخصه، انه الدولة كلها.

 ان الحكم أو النظام الاستبدادي يمثل شكلا من أشكال الاحتلال الكامل للشخص، والاستعمار الداخلي للمجتمع، بنحو يستقل فيه فرد طاغية في التسلط على بقية افراد الشعب، من دون ان يخضع لقانون، ويتحكم في حياة المواطنين، ويحرص على صياغة وعيهم، وتكييف مشاعرهم، وتلوين احلامهم، بما يكرس سلطته ويمددها على كل شيء، من دون ان يستثني حقلا في البلد من هيمنته.

وتطغى في فضاء الاستبداد غلبة الفرد على المجتمع، وغلبة القوة على الاجماع، وغلبة الايديولوجيا على الواقع، وغلبة الكاريزما على المسار الموضوعي للتاريخ، وغلبة الواجب على الحق، وغلبة الحكومي على الاجتماعي، واتساع مفهوم الدولة واضمحلال مفهوم الحرية. وبكلمة موجزة يفضي الاستبداد الى اختزال الفرد في المجتمع، واختزال المجتمع في الدولة، واختزال الدولة في شخص الحاكم.

ويتغلغل الاستبداد في المجتمع، وفي العائلة، والجماعات والاحزاب، والمجتمعات، والدول، وان الخلاص من الاستبداد لايتحقق الا عبر تفكيك نسيجه الكامن في بنية العائلة، وكافة التنظيمات السياسية والنقابية والمهنية.

كما يتطلب التحرر من الاستبداد اكتشاف انماطه في السياسة والاقتصاد والدين والفكر، فالاستبداد السياسي وان كان ابشع ألوانه، لكنه يتوكأ على الاستبداد الديني والاقتصادي والثقافي، فلا خلاص من الاستبداد الا بالخلاص من ثقافة الاستبداد، والمعتقدات والمقولات والمفاهيم، ومجموع الروافد المعرفية التي يستقي منها، وتكمن في اللاهوت الكلاسيكي ابرز روافد ثقافة الاستبداد.

وتعود الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتفشى في الاجتماع الاستبدادي الى بنى نفسية واجتماعية كامنة وعميقة في حياة الناس، وهي تشكل مرتكزات واسس هذا النمط من الحكم، وحسب تعبير الكواكبي(المستبدون يتولاهم مستبد، والاحرار يتولاهم حر، وهذا صريح معنى: كما تكونوا يولَ عليكم)(3). ويرتبط الاستبداد ارتباطا عضويا بالعبودية الطوعية، واستعداد الناس للانصياع للطاغية، وتمجيده، وتبجيله، ورغبتهم في الخضوع له، واستعارة اسماء وصفات الله وخلعها على المستبد، وحسبما يراه الخبراء في الاسس السيكولوجية للسلطة، فان الجماهير هي التي ترضخ للاضطهاد وتطلب السيطرة عليها، وان الذي يقودها الى ذلك هو متعة الخضوع ولذة الانقياد الراسخة في النفس البشرية، اي ان الناس هم الذين ينذرون انفسهم للخدمة والعبودية الطوعية.

ويشدد الكثير من الباحثين والدارسين على ان الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، وانه ما من مستبد سياسي الا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، او تعطيه مقام ذا علاقة مع الله. ويحكمون بأن بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لاتنفك، متى وجد احدهما في امة جر الآخر اليه، او متى زال انتفى رفيقه. ويبرهنون على ان الدين اقوى تأثيرا من السياسة اصلاحا وافسادا، وان مامن امة او عائلة او شخص تنطع في الدين، اي تشدد فيه، الا واختل نظام دنياه، وخسر اولاه وعقباه(4). ويؤكد مونتسكيو على وجود بديل عن القانون الاساس في النظام الاستبدادي، وهو الدين، وانه بالفعل السلطة الوحيدة التي تقف فوق السلطة. وان(الدين في الاستبدادية هو بحد ذاته استبدادي، انه خوف مضاف الى الخوف)(5).

وطالما جرى استخدام التأويل التسلطي للنصوص الدينية في تبرير ذلك النمط من العلاقات بين السلطان ورعيته، (فكانت السلطة ــــ عبر العصور ــــ تحاول دائما استخدام الدين لتسويغ التصرفات السلطانية تجاه المجتمع. قال الأمويون إنهم من قدر الله، أو من أمر الله. وقال العباسيون إنهم أقرباء الرسول، وسيحفظون بالتالي دين الرسول أكثر إن وصلوا للسلطة. وقال السلاجقة إنهم ما حاولوا الوصول للسلطة الاّ من أجل نصرة ((مذهب أهل الحق)). وقال المماليك إنهم ماجاؤوا للسلطة الاّ ليردّوا عبّاد الصليب، والمغول عن بيت المقدس والحرمين.)(6)

ان الرؤية الكونية في اللاهوت الكلاسيكي المبنية على المفاهيم العبودية تغذي التصور الرأسي للعالم، الذي يؤسس لشبكة من مقولات الاستبداد، ويكرس التسلط في المجتمع. فقد ورثنا تصورا رأسيا للعالم، يتصور العلاقة بين الطرفين علاقة الاعلى بالادنى. ولما كان الاعلى اكثر قيمة من الادنى، واعلى رتبة وشرفا، فعلى الادنى طاعة الاعلى، وعلى الاعلى أمر الادنى. الاعلى هو الاكثر علما، الهاما وكسبا، والادنى اقل علما، ولاالهام له، وتحصيله محدود بالمهنة والحرفة. الاعلى معصوم من الخطأ، على صواب مطلق، في حين ان الادنى يخطئ، ويحتاج الى الهداية والرشاد.الاعلى مهمته النظر والتفكير والتخطيط والقرار، والادنى مهمته العمل والتنفيذ والتحقيق والاجراء. والياقة البيضاء بتعبير الاجتماعيين اعلى قيمة وفضلا من الياقة الزرقاء. الاعلى بالطبيعة والكسب، بالهبة والتعليم، بالاختيار الالهي، الفوري او التاريخي، والادنى ايضا فرضته الطبيعة، فكل ميسر لما خلق له. ومنذ خلقت الدنيا، الناس امام ومأموم، آمر ومأمور، قائد ومقود. نموذجها علاقة الله بالعالم كما تصورها المتكلمون، وعلاقة النفس بالبدن، كما تصورها الفلاسفة، وعلاقة النص بالواقع كما تصورها علماء اصول الفقه (7).

 كما ان العلاقات في هذا النوع من المجتمع هي علاقات عمودية، وليست افقية، بمعنى ان تصور العلاقة بين الله والانسان دائما يتخذ نمطا عبوديا، يكون فيه الانسان خانعا ذليلا، فيما يبدو الاله قهارا جبارا متكبرا، لاتحضر في هذه العلاقة صورة الله الرحمن الرحيم، الذي كتب على نفسه الرحمة، ووسعت رحمته كل شئ، وانما صورة السيد المتعالي المتمرس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب. ويجد هذا النمط العمودي للعلاقة بين الاله والعبد مدلوله الاجتماعي في مختلف اشكال العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فالحاكم غير المحكوم، الحاكم يأمر بما يشاء، وليس للمحكوم الا السمع والطاعة، من حق الحاكم ان يفعل مايريد في رعيته، ارادته ارادة مطلقة لايضبطها قانون او تقيدها تشريعات، هو في القمة والرعية في القاعدة، لايرتقي شخص الى مقامه السامي، الا حينما يفيض عليه بمننه وعطاياه، فيدنيه من قربه، ويمنحه من مكرماته. ذلك ان كافة رعاياه هم ممتلكاته يتصرف بهم بما يحلو له. اما العلاقة بين الاب والابن، والمعلم والتلميذ، والضابط والجندي، والتاجر والعامل، والاقطاعي والفلاح، والرجل والمرأة، فهي دائما علاقة تبعية وخضوع، علاقة امتلاك، الاعلى يمتلك الادنى، يدربه باستمرار على الانصياع والانقياد، ويتفنن في تربيته على الامتثال، ويتوسل بمختلف الاساليب من اجل تدجينه على التنازل عن حريته.

في فضاء الاستبداد يسود اسلوب التلقين في التربية والتعليم، ويجري التعامل مع الطفل في الاسرة، وهكذا التلميذ في المدرسة، باعتباره وعاءً نملأه بمصفوفة نصوص وشعارات، ونحرص على ان يستظهر هذه النصوص ويحفظ تلك الشعارات، من دون ان يبذل اي مجهود عقلي بتدبر او فهم مضمونها، حتى اضحى العلماء هم حفظة النصوص، وليس المجتهدون النقاد الذين يغربلون الافكار، ويقتلون القديم بحثا.

ويفضي اسلوب التلقين الى تدجين المجتمع وتتخذ العلاقات فيه شكلا عموديا، يمارس فيها الاعلى الاستبداد على من هو ادنى منه، ويغيب الشكل الافقي للعلاقات الذي يبتني على المساواة والحرية.

وتختنق الحياة السياسية بالاستبداد، بنحو يمسي فيه الكل اما مستبدا يمارس الاستبداد، او يقع عليه الاستبداد، ويصير الكل ممارسا للاستبداد على من هو ادنى منه، الزعيم السياسي على مرؤوسيه من وزراء وغيرهم، وهؤلاء يسقطون الاستبداد على من يليهم في مراتبهم الوظيفية، بنحو يُمسي التسلط نسيجا متفشيا في كافة طبقات المجتمع ومؤسساته، فالتسلط تنتجه السلطة المستبدة، وتصوغ شخصية رعايا واتباع مجردين من كل ارادة في الاختيار، الاّ ارادة التسلط التي يسقطونها على من هم دونهم، كما ان هؤلاء الأفراد الذين أنتجتهم السلطة المستبدة يمدون هذه السلطة على الدوام بحياتها وكيانها، الذي يفتقر وجودها واستمرارها عليه. فلو لم تصنع السلطة هذا النمط من الرعايا لما تواصل بقاؤها، بمعنى ان الاتباع تتشكل شخصياتهم في فضاء الاستبداد والتسلط، وهم أثر من آثار السلطة ونتيجة لها، مثلما هم المادة الأولى التي يشتق منها تسلط المستبد، وتتكرس سطوته، ذلك ان السلطة تشكل بنية عامة شاملة، يتشبع بها المجتمع بأسره، ويعاد تكوينها باستمرار، في اطار المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وحسب تعبير فوكو فان (السلطة ليست في مكان واحد، انها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد، في صاحب الفرن الذي يبيع الخبز للسجن، ويشعر بالفرح لان السجن موجود).

 ويسري التسلط من الحياة السياسية الى العائلة، فتتغلغل مفاهيمه في القيم الابوية وعلاقات القربى بين الزوج وزوجته والاب وابنائه، ويتفنن رب الاسرة في مهارات ترويض واخضاع افراد اسرته، حتى يمسخ شخصية الطفل، ويطمس مالديه من تلقائية وعفوية، ويقضي على روح التساؤل الفطري، والنواة الجنينية للنزوع النقدي في تفكيره، ويستأصل ممكنات الابداع والابتكار في عقله، وتتواصل عملية الترويض والتلقين متوسلة بشتى الاساليب، وطالما تتوكأ على العنف الجسدي، والعنف اللفظي، ومختلف الوان العنف الرمزي، ويستحيل الى وعاء معبأ بمقولات الخضوع والاستسلام، ورفض كل ماله صلة بالحرية، وتبني ايديولوجيا الاستبداد المناهضة للحرية والدفاع عنها.

تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل مالايتطابق معها، ويمثل نسخة مكررة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظاما ذهنيا، يتجلى في عقلية ونمط تفكير احادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معاقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق، والتهرب من اية مسؤولية، انها نفسية عبيد، ابرز سماتها الشعور بالدونية والحقارة، والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ اي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورا اخر في حياته، لايعبر عن شخصيته، ولايمثل ملكاته وامكاناته، وماأودعته الطبيعة البشرية فيه، وانما يعيش على غرار مايريده المستبد، وماجرى تدجينه عليه في الاسرة، ثم المدرسة والمجتمع. اذا ترسخ شعور الانسان بأنه بلا كرامة، وانه شخصية تافهة، فانه يعجز عن المساهمة بأية عملية بناء، او الاضطلاع بمهمة مميزة في الحياة، كما ينطفئ كل ما يمكن ان يحلم به، وتذبل كل امنية وامل يستشرف من خلاله المستقبل، والانسان كائن لايمكنه العيش والمشاركة في صياغة العالم مالم يحلم، ويتطلع الى غد بديل، ترتسم فيه صورة مغايرة لواقعه الراهن. وكما يقول ايريك فروم (لاشئ اكثر تأثيرا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من اقناعه بانه تافه وردئ).

يحرص الطاغية على تكريس ثقافة استبداد تكبل المجتمع، وتشل فاعليته، تتفشى هذه الثقافة في مقررات التربية والتعليم، ووسائل الاعلام، والخطاب السياسي، والهياكل الادارية في المؤسسات، والاداب والفنون، واللغة، وكافة الرموز والعلامات المستعملة في المجال التداولي.

 وتسود معظم كتب مرايا الأمراء أو نصائح الملوك والأحكام السلطانية، صورة مخيفة للسلطان، يقول الدكتور رضوان السيد: (ان السلطان عندهم ــــ بل السلطة ــــ أداة قهر، وقهر فقط. ولذلك كان رمزها الأسد والنمر والذئب، لما يتميزون به من قدرة على البطش، والاقدام غير المتردد...)(8) . الخوف هو العلامة الفارقة لثقافة الاستبداد، الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من الحداثة، الخوف من الاختلاف، ذلك ان الاستبداد يبحث دائما عن الاجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة، يكتب امبرتوايكو(في الثقافة الحديثة تطري التجمعات العلمية الاختلاف، وتعده طريقة لتطوير المعرفة، بالنسبة للاستبداد، الاختلاف خيانة. الاستبداد ينمو ويبحث عن اجماع عن طريق استغلال مشاعر الناس، وتكريس خوفهم الطبيعي من الاختلاف). الاستبداد مسكون بالآخر، مصدر الرعب الابدي، حيثما كان آخر لايهدأ ولايقر له قرار، الآخر هو الجحيم، هو السر، هو الظلام والموت. لاتولد هوية، ولاتتشكل خصوصية للامة مالم يكن هناك عدو، الوحيدون الذين بإستطاعتهم ان يمدوا الامة بهويتها هم اعداؤها، من هنا يغدو التفسير التآمري هو الاسلوب الوحيد لفهم كافة الخطابات والحوادث والمواقف والقرارات الصادرة من الغير، ولايقتصر هذا التفسير على ما يتبدى من الاجانب خارج حدود البلد، وانما يعمم لكل ما يحدث في المجتمع المحلي، ويصنف كل قول او سلوك لايروق للطاغية داخل البلد بانه مؤامرة، لاسبيل للتهاون او المهادنة حيالها، يظل المواطن محاصرا بتهمة المؤامرة، في يقظته ومنامه، وترتد تلك التهمة في نفسه الى حساسية فائقة وحصار ابدي على الذات، حذرا من المس بشئ يعود للطاغية او يرتبط به، مع ان كل شئ في الحياة الاجتماعية والفردية متصل ومرتبط به عضويا، عبر نسيج معقد، متوغل في السياسة والادارة، والتربية والتعليم، والاعلام، والاقتصاد، والثقافة، والاسرة.

يهتم الاستبداد باللغة اهتماما بالغا، ويحرص على افقارها، وتحويرها وتشويهها، ومدها بقاموس مفردات، وعبارات، وجمل، وشعارات، تغذي كراهية الاخر، وتثير الاشمئزاز والفزع منه، وتعطل الوعي النقدي، وتسد افق الرؤيا المتفائلة للكون والوجود، وتغرق الذهن بكوابيس مرعبة لاعداء مفتعلين، متربصين به كل حين، ويعمم مسخ اللغة وتشويهها الى المقررات الدراسية، فان(كل الكتب المدرسية للفاشية والنازية استخدمت طريقة في الافقار اللغوي، وافقار القدرة الابتدائية على بناء الجمل بطريقة صحيحة، هادفة من ذلك الى تحديد ادوات التفكير المعقد والانتقادي) حسب تعبير امبرتوايكو.

البيئة الفقيرة لغويا فقيرة عقليا، خصوبة اللغة وثراؤها بقدر ماتقتل التفكير الساذج البسيط، فانها تحيي وتنمي التفكير المركب، ولايمكن الوثوق بولادة افكار تنفتح على مايعاندها الا حين تغتني اللغة بمعجم يرفدها باستمرار بالفاظ ومصطلحات، تنفتح على فضاء عقلي، يتسع باستمرار لاستيعاب وتمثل كل ماهو جديد، في العلوم والفنون والآداب، ويواكب حركة التطور والابداع في مختلف مجالات المعرفة، ويساهم في رفدها على الدوام.

تطغى في قاموس الاستبداد القاب التعظيم، وعبارات التبجيل والتمجيد، وتتضخم الالقاب وتكبر، ولاتتوقف عند حد، ولا تقتصر على كلمات خاصة، وانما تواصل زحفها فتبتلع اسماء الله وصفاته، ذلك ان المستبد يتطلع دائما الى السماء، ويتوق الى انتزاع مكانة الاله والاستئثار بها، باللغة المشبعة باسماء الله يصطنع المستبد لنفسه عالما يضاهي العالم الربوي، ويوحي له عالمه اللغوي البديل بانه ارتقى الى مقام الهي متسامي، وتتعاظم قناعاته كل يوم بأنه تجاوز حالته البشرية، وانخرط في المتعالي، الذي لن يصل اليه احد سواه، ومن الطريف ان احد الطغاة في عصرنا اسبغ على نفسه تسعة وتسعين اسما، مثلما هي الاسماء الحسنى لله تعالى.

واثر حرمان الفقهاء من السلطة السياسية، استعار بعضهم القاب الخلفاء والسلاطين، بعداعادة انتاجها من منظور ديني، واستبدال شئ من كلماتها بالفاظ تشى بدلالات مقدسة، فخلعوا على انفسهم غطاء لغويا لاهوتيا، يرقى بهم الى مقامات ملكوتية عليا، تلحقهم بمراتب السلاطين، او تتيح لهم تجاوزها، والعبور الى مكانة لايرتقي اليها الا ملك مقرب او نبي مرسل.

ويغرم الاستبداد بالصور والتماثيل، والنصب التذكارية، والموسيقى والغناء، والشعارات والملصقات الجدارية، وكافة الرموز الفنية، فيعمل على توظيفها ببراعة ودهاء، فلا تجد ساحة عامة، أو حديقة، أو شاطئ يرتاده الناس، الاّ وزحفت عليه تماثيل وصور الطاغية، وهي تحكي بقسوة صرامته، وبشاعته، وفتكه، ونزعته الدموية، فتارة يتقلد سيفا، واخرى يحمل بندقية، وثالثة يتمنطق بمسدس، وربما يجمع بينها، مضافا الى انه على الدوام يرتدي بدلة القتال، وتصطف من حوله مجموعة من الاشارات والعلامات، الدالة على التأهب للحرب، والبطش بخصومه ومعارضيه.

ان المستبد ينشد حضورا مستفزا، يثير الفزع والرهبة باستمرار لدى الجماهير، ويطمح ان تنوب عنه صوره وتماثيله في الاماكن الغائب عنها، كيما يتحسس الناس وجوده الابدي بينهم، ويستشعرون سطوته الجاثمة على أرواحهم، ولا ينفك الناس عن الخشية منه، هو معهم حيثما كانوا واين وجدوا، في النهار والليل، في محل العمل والمنزل، في الشارع والسوق والمقهى، في المتنزهات والمنتجعات واماكن الاستجمام، توحي صوره وتماثيله بتعددحضوره وشهوده واطلاعه على الجميع، لا تترك شخصا من دون ان تداهمه وتهاجمه، وتغرق ذهنه في ضجيج وصخب متواصل، يغيب وعيه، ويحيل نفسه الى نفس مبتورة معاقة، أطياف المستبد واشباحه لاتبرح مناسبة او وقتا من دون ان تطارد المواطن، وتزعجه بكوابيس لا تنتهي ولا تتوقف، فتشعره بأن الطاغية كما الاله لايغيب عنه شيء، وكأنه بمثابة من يعلم السر وأخفى.

  

 ........................

الهوامش:

-     1) د. امام عبد الفتاح امام. الطاغية: دراسة فلسفية لصورة الاستبداد السياسي. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، 1994، ص52-57.

-     2) لوي التوسير. مونتسكيو: السياسة والتاريخ. ترجمة: نادر ذكرى. بيروت: دار الفارابي- دار التنوير، 2006- ص77.

-     3) عبد الرحمن الكواكبي.طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.بغداد:دار المدى، 2004، ص28.

-     4) المصدر السابق ص 29-31.

-     5) لوي التوسير.مصدر سابق. ص 76.

-     6) د. رضوان السيد. الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الايديولوجيا في المجال العربي الاسلامي بيروت: دار الكتاب العربي، 1997. ص384.

-     7) د.حسن حنفي. جذور التسلط وآفاق الحرية. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005. ص13.

-     8) د. رضوان السيد. مصدر سابق. ص159.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1226 الخميس 12/11/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم