قضايا وآراء

الخلاف على معرفة الله

إلى أصل الخلاف بين طرائق الوصول إلى حكم الله ودينه، والقواعد المطلوبة في ذلك. يتصل هذا الأمر بخلافين أساسين، الأول صحّة الاستعانة بالمناهج المكوّنة من خارج السّياق الحضاري الإسلامي، والثاني إمكان اللّجوء إلى المنهجيّات من خارج الامتداد النصّي، أي بما لا ينحصر بعالم المصادر النصوصيّة المقدّسة. بسبب التنازع على ذلك، تولّد منذ القرون الإسلاميّة الأولى الخلافُ المذكور، وبدأت تلك التنظيرات المتتالية لما يُعرف بالطريق، أو الطّرق، الصّحيحة إلى الله وأحكام شريعته.

في مجال التجربة الدّينيّة، أو معرفة الله تعالى، كان النقاش حول العرفان والتصوّف شديد الضّراوة، وكلّ الاتجاهات المتعارضة في الموقف منهما؛ تستند إلى قواعد متشابهة من حيث الإسناد النصوصي، والرّغبة في تحقيق الأصالة، وتسلم المعنى السّليم للمعرفة الدينية. لا يختلف ذلك بين مدرسةٍ وأخرى، فإذا كان العرفان موضع الاشتباك الشّيعي، فإن حقل التصوّف يمثل موضوع التنابز السّني. على أنّ كلا الحالتين تعبّران، في العُمق، عن إشكالاتٍ متشابهة، وكذلك الهواجس تبقى مشتركة بين الفريقين. أوّلُ الإشكالات أنّ إدارة الخلاف كانت سيئة جدّاً، ولم تستطع النخبة الدّينية في المجتمع المسلم، عموماً، أن تُقدِّم للأفراد نموذجاً يُقتدى في ذلك، وهذا الأمر لم يكن مجرّد سوءٍ إداري في الحقيقة، فآثاره طالت مع الزّمن طريقة التفكير والصّياغات المفهوميّة المستخدمة، كما نلاحظ مثلاً مع ما يُعرف بكتب الضّلال ومنهجيّة التعامل معها، فمن الظّاهر أن طبائع الخلاف الجارية، ونقْص الأدوات الحجاجيّة بين الأطراف، أو أحدها، دفعَ إلى التنظير لمثل تلك الأفكار الدّاعية لتضليل الآخر وتكفيره ومنْع كتبه من التداول العام. انعكسَ ذلك أيضاً على السّلوك الحضاري للمتديّن، والذي أضحى يعاني من الازدواجيّة في نظامه السّلوكي الخارجي، ففيما تحضُر عنده قوائم النبذ، والاتهام بالبدعة والضلالة وما هو أكثر؛ يعلو صوته بذكْر الله والدّعوة للتخلّق بصفاته والتشجيع على حُسن القول والفعل، وهي صورةٌ نشاهدها عند الفقيه المتشدّد ضد الفلسفة والعرفان والتصوّف، وعند أتباع الاتجاهات الأخيرة ممنْ يُظهِرون حماسة مضادة تدفعهم للاستخفاف بالفقهاء؛ أصحاب العقول المتحجّرة والقلوب المغلقة! حدثَ ذلك في الماضي، ولازال يتكرّر اليوم، وفي حواضر العلماء وحوزاتهم وجوامعهم. أحدهم يصف كتاب محمد تقي المدرسي «العرفان الإسلامي» بـ«الخرفان الإسلامي«؛ لا لشيء إلا لأن المدرسي يختلف مع الفلاسفة وأهل العرفان ويُفنّد آراءهم من منظوره القرآني، وآخرُ لا يبْعُد نسباً عن المدرسي؛ لم يدّخر كلمة نابية وتوصيفاً نافياً وتعبيراً نافراً إلا واستخدمه في بيان معارضته للفلاسفة أتباع العرفان، وبلا استثناء، وبالأسماء الصّريحة، وعبر الهواء المفتوح! وليس ببعيدٍ منْ اتهم أتباع مذهبه بالانحراف العقيدي لمجرّد اتخاذهم سلوكاً صوفيّاً، في مقابل جماعة دينيّة تمنح هذا اللّون من السلوك نحو الله قيمة مرجعيّة مطلقة، وغير مقرونة بمرجعيّات أخرى. على كلّ الضفاف ثمّة مشاحنات مملوءة بالقدح والذّم المتبادل. وسوف يكون من المستغرب أن ذلك كلّ ذلك الغلوّ الفاحش يحدث في إطار إثبات وجود الله، أو بيان صفاته، أو طُرق الوصول إليه والتعبّد بأحكامه! فالله هو هدفهم، ولكنهم يُغيّبونه.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1227 الجمعة 13/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم