قضايا وآراء

النشاط الذهني والمعرفة الجمالية في التصميم

والقابلة للتحقيق الموضوعي ويشكل هذا المبدأ منطلقا صحيحا في البحث عن النسق الذي تتسق فيه المعرفة بين فلسفة هربرت ريد وبين فلسفة التصميم .

والنشاط الذهني هو تلك الافكار والمدركات والرؤى التي يتجسد لدى المصمم وبصورة دينامية و تخضع للتحولات والتطورات لاجل بلورتها في صورها اللانهائية الصحيحة، وهو في طبيعته يعتمد العلة والمعلول " السبب والمسبب " وفي ذلك لا يختلف الفن عن العلم في كونها نشاط يؤدي الى المعرفة وتناميها . وارتبط النشاط الذهني غالبا بعملية التفكير كما ارتبط اتساع المعرفة بعملية التفكير المستمرة واعادة تنظيم الرؤى بصورة مستمرة .

" والمعرفة الجمالية في الفن عموما ليس فقط كما عبر عنها ( ريشنباخ ) بانها ( موضوعات جمالية لا تخرج عن كونها رموزا تعبر عن حالات وجدانية ) ذلك ان وظيفة الفن لا تنحصر في تزويدنا ببعض الانفعالات من اجل العمل على تذوقها والاستمتاع بها وامدادنا بالشحنات الوجدانية، وانما من اجل استخلاص دلالاتها والتعرف على معانيها، فذلك هو الذي نعني به النشاط الذهني الذي يؤدي الى المعرفة " .(2)

ان منطق المعرفة العلمية يؤكد على ان التراكمية وسيلة لنموها وتطورها، ولما كان النشاط الذهني يؤدي الى زيادة هذه التراكمية والمعرفة، فان الانسان في نشاطه هذا انما يؤكد البحث المستمر عن كل ما هو جديد، وان هذا النشاط يوفر له معرفة لم يسبق له التوصل اليها من قبل وهذا يعني ان النشاط الذهني في حالة اكتشاف مستمر، وهذا يتطابق مع نشوء فكرة التصميم كنشاط عقلي يبحث عن حلول فكرية وفي نفس الوقت يؤدي الى زيادة وتراكم المعرفة، ومعرفة الجديد في الفكرة التصميمية هي محاولة التوصل الى الحلول الابداعية الابتكارية . وسواء كان في العلم او في الفن فانهما يحملان نفس القيمة والاهمية . الا ان لغة العلم تقوم على العلامات ( Signs  في المناهج البرهانية بينما تقوم لغة الفن على الرموز ( ymbols) في المناهج التجريبية ويكون لها نسقا خاصا . اي ان العلم والفن يستعينان بمجموعة من العلامات والرموز لاجل توصيل المعاني وكل النشاط البشري .

واشكالية فن التصميم هو توسطها بين الرموز والعلامات من خلال استناده الى الحقيقة العلمية والمنهج التجريبي في مشكلة الجمال وتفسيرها فهو يؤسس لبنيته في جانبي العلم والجمال اتساق المبدأين معا في فكرة التصميم انما هو اضفاء وتأكيد على امكانية التوصل الى المعرفة الصحيحة القابلة للتحقيق وهذا هو جوهر الفكرة التصميمية تلك القيم الجمالية في المعرفة الفنية التي تتحول بفعل النشاط الذهني الى حقيقة موضوعية تؤدي الى الوظيفة . ومن المؤكد ان ما يحدد طبيعة وقيمة اي نشاط انما هو ما يتحقق من هدف او وظيفة .

من هذا المنطلق نستطيع ان نوضح ان دور فن التصميم هو تقويض الحقائق القائمة لضعفها او عجزها واحلال الفروض الموضوعية بدلها بعد تحويلها الى حقائق جديدة، اي ان اكتشاف الحلول في فن التصميم هي الحقائق الجديدة وليس هناك حقائق اخرى .

قدرة الفكرة في التصميم على التحقق

 

ويشترك فن التصميم في قابلية للتحقق مع مقومات المنهج العلمي، وفي الفن عموما فان قابلية الفكرة على التحقيق هي احد اهم العناصر الضرورية للابداع الفني . وفي عموم العملية التصميمية فان النتائج التطبيقية هي الحقائق الوحيدة التي تعمل على ادامة الصلة مع الحياة والبيئة والانسان .

ان خواء الفكرة التصميمية والسبب الاساسي في عدم تحققها هي افتقادها الى المقدرة الابداعية الخلاقة التي تتيح لها الولادة الطبيعية على مستوى الوجود. وقد ادت العلاقة الجدلية بين بزوغ الفكرة وتحقيقها الى اقتران فن التصميم دائما بالايدولوجية الابداعية التي تقرر حلول مستمرة وجديدة .

ان خلود الاعمال الفنية العظيمة في تاريخ الفن كانت تنطوي على احتواء هذه الاعمال على حقائق كلية وعظيمة ادركها كبار الفنانين وكانت الية هذه الاعمال ذات الطاقة الابداعية الخلاقة الناتجة عن الانفعال في صيغة تعبيرات مختلفة، وسر هذه التعبيرات هو تلك الاشكال القابلة للادراك .

اما في فن التصميم فاننا لا نتوقف عند عملية الادراك كمعنى وحقائق، رغم ان الادراك هو الحقيقة النهائية في قضية الجمال في الفنون الجميلة . ولكن في التصميم يتحول الادراك الى مرحلة لاعادة صياغة الحقائق مرة ثانية بطريقة تؤكد وجودها وتداوليتها في الوظيفة والمنفعة والاداء. فنحن ندرك العمارة والملصق والجهاز والقماش ولكننا لا نكتفي بهذا الادراك وانما بترسيخه لكونه جزءا من وجودنا وديمومتنا وحضورنا .

وفي عملية الانجاز في فن التصميم انما نضيف معنى جديدا للحياة، او نكتشف حقيقة لم يتم التوصل اليها من قبل، وهذه المعاني والحقائق هي من صنع الانسان وهي في عين الوقت موجهة للانسان وعندما اكتسبت هذه الاعمال والتصاميم الفنية قيمة الحقيقة من خلال ادراك شكلها وسر جمالها فضلا عن وظيفتها وادائها، اكتسبت صفة الخلود وديمومة التطور، وليس ادل على ذلك من العمارة على مدى التاريخ، ومنتجات الثورة الصناعية الحديثة كالطائرة والعجلة والكتاب وكل ما ينتمي للفنون التطبيقية .

ولم يسبق ان انقرض او اختفى ايا من منتجات العقل البشري وانما نمى وتطور واصبح اكثر نفعا وفائدة واداء . وفي خضم مناقشة سر خلود الاعمال الفنية ايا كان انتماؤها فان ما يؤشر بدقة ذلك الوعي المتنامي والخلاق الذي يمتلكه الفنان والمصمم في اكتشاف سر ذلك الخلود من خلال تحكمه في قدراته الابداعية التي يبنيها اصلا على قواعد صارمة ومحددة وهي وحدها التي تحول تلك الافكار الى حقائق وليس كما هو الحال في الاعمال الفنية اذ يجول الفنان بفكرة بحرية واسعة ولا يملي عليه احد طريقة انتاجه او اسلوب عمله .

ان المصمم غالبا ما يفقد تلك الحرية الخيالية في التعبير باحثا عن اي مسلمات موضوعية وواقعية تمنحه اواصر قوية بين خبرته الابداعية وامكانات الواقع الموضوعية، وهنا فالحرية في التعبير لدى الفنان التشكيلي هي متاهة كبيرة بالنسبة للمصمم ومن خلالها لا يستطيع التوصل الى حقائق التصميم وانجازاته . ومن هذا يتضح ان عمليتي البناء والتركيب في العمل الفني عموما يختلفان اختلافا كبيرا عن عمليتي البناء والتركيب في التصميم بانواعه .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1227 الجمعة 13/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم