قضايا وآراء

منامات ابن سيا بين الأدبية والواقعية

مكمنه ورفعه عنوة أمام الأنظار لكي يؤدي رسالته المرجوة من وراء كتابته، ولاسيما أن الكوميديا السوداء على خلاف ما معروف عن الكوميديا بشكل عام تنبع عادة من معاناة الناس وهمومهم بوصفها موقفا ساخرا من هذه المعاناة. ومع أن هنالك من يرى فيها الكثير من الاعتباطية ويعدها من صنف الملهاة العابثة، إلا أنها بالتأكيد ليست ترفا فكريا ولا استغلالا لمعاناة الناس للترويج لمفاهيم يؤمن بها الكاتب بقدر ما هي أحد أنواع العلاج لهذه المأساة.

 فالكاتب لا يحمل عصا سحرية لتغيير ما مطلوب تغييره ولا يملك ميليشيات أو مقاتلين لكي يحمل الناس على إتباع الصحيح وترك الخطأ، وعليه يلجأ عادة إلى قلمه وعصارة فكره لكي يشخص الخطأ بأسلوب ساخر ويضع التشخيص على مائدة الطعام الفكري ليتناول منه من تصل يده إليه. وهذا هو ديدن المصلحين والمتنورين على مر التاريخ.

فحينما يرى بعض المتنورين اعوجاجا في فعل أو سلوك مجتمعي  يصيبهم الغثيان، ويخرجون من طباع واقعيتهم الإنسانية ليحلقوا في دنيا الأحلام الأثيرية، هذه الدنيا الساحرة الساخرة التي يصبح المستحيل فيها ممكنا والممتنع سهلا،وتكون مطواعة في الثني والحني والتلوين والتشكيل، علَّ القدر يمنحهم قوة التغيير؛ تغيير ما أعوج من الأمور، وإعادة الشارد إلى نصابه، لأنهم في دنيا الواقع لا يملكون أداة تعينهم في تنفيذ مشروعهم البنائي وعملهم الرضائي، هذا لأنهم بطباعهم الحساسة ونهجهم النظيف يريدون للإنسان أن يبقى إنسانا ولا يتحول إلى حيوان ناطق كما يحلو لبعض المتفلسفين أن يسموه، فالحيوان حيوان والإنسان إنسان وما بين الاثنين كما بين الأعمى والبصير والظلمات والنور والظل والحرور، بل كالليل والنهار يسعى كل منهما خلف صاحبه ولا يلحق به أو يجانبه. سنة الله التي سنها للحياة، وبها استقامت لتعيش كل هذه السنين، ولولاها لما بقيت الأرض دائرة والأفلاك زاخرة والحياة سائرة.

وقد تأثر الدكتور محمد تقي جون وهو المفكر والمؤرخ والشاعر مرهف الإحساس بما يحدث اليوم في العراق فوظف خزينه الفكري المتأتي من دراسته للتاريخ والأدب معا وتخصصه بهما سوية، لكونه يحمل درجة الماجستير في الأدب والدكتوراه في التاريخ ليرسم رؤاه على لسان شخصية خرافية ابتكرها من العدم وسماها (ابن سيا) ليروي على لسانها حكايات جادة في زمن الاعتباط  بناها بأسلوبه (السهل الممتنع) على شكل (منامات) قد تبدو قريبة من (مقامات) الموروث العربي في التسمية ولكنها بعيدة عنها في المنهج. يصحو منها ابن سيا  فلا يبحث عن مفسر للأحلام ولا يلجأ لطبيب أو حجام ولا يزور العرافين ليخبروه عن السر الدفين .... يصحو ابن سيا ليجلس في صومعة التهذيب ويبدأ التشذيب فيحضر القرطاس ويبري الأقلام  ليكتب ما شاهده من حقائق كالأحلام ويبثه بين الناس من مختلف الأجناس بلا تقية وبلا  قياس، مستعملا كل وجوه الطباق والجناس. إذ يكفي في بعض الأحيان أن تداعب نشوة الخيال أهداب الإحساس لترتخي الأمور وينكشف الأساس وتدخل الرؤيا قلوب الناس.

 فهلموا ننظر ما في جعبة ابن سيا من آهات، وسحر المترادفات، وقصص العقارب والحيات التي لم تخش سلطة القانون ولا بطش السماوات، فعاثت في الأرض فسادا، وقتلت أصغر الأمنيات ... هات يا بن سيا ما عندك من منامات هات، فنحن لسنا بأموات، ونسمع حتى همس الريح إذا مرت بالذكوات، ألسنا الأمة التي أدمنت رواية وسماع القصص حتى بات فن القصة يتربع على قمة اهتماماتنا ويتقدم سبقا على  أولياتنا؟ أولسنا  رواة وسماع مطارحات قيس وليلى وعنتر وعبلة الغرامية؟ أولسنا لم نبرح مسحورين حتى هذه اللحظة بمغامرات عمر بن أبي ربيعة وفلسفات رهين المحبسين؟  السنا لا نزال نتغنى بما قاله طرفة بن العبد في معلقته منذ مئات السنين؟ السنا الأمة التي تطربها القصيدة وتسحرها في الفرح والحزن معا؟

هات يا بن سيا ما عندك عن قصص الخيانات التي روتها لك الجنيات، وتواريخ الفتن  وحكايات المفسدين ومن هموا بلا ذمم، الضاحكين على الذقون ليملأوا البطون من شدة النهم.

لكن أهذا وقت ملائم لرواية المنامات؟ وبعد الذي حدث وبعد الذي صار هل ما زلنا مولعين بفعل الأقدمين الأخيار منهم والأشرار؟ وهل يوجد بيننا من أهلنا وناسنا من له قدرة اجتراء المعجزات لكي يلفت انتباهنا المشدود نحو صوت تفجير دموي مرعب إلى عمل أدبي ساخر أشد ما فيه من سخرية أنه يتناول عين التفجير الذي أرهبنا وقطع أوصالنا ونثر أشلائنا على الطرقات، ليروي لنا ما شاهدته أعيننا قبل لحظات؟ وهل في حياتنا المكتظة المزدحمة فسحة لتقبل تناول الكاتب أشد المواضيع حساسية بهذه السخرية؟

هذا ما يحاول ابن سيا فعله في مناماته المبحرة في محيطات الأدب وبحار الواقع لكي يخفف عنا هول الصدمة ويوصلنا إلى حالة استرخاء قد يكون لها فعل السحر على حالة التنافر والشد التي تطغى على مجمل سلوكنا.

وقد ناء الدكتور الشاعر محمد تقي جون بهذا الحمل الثقيل فأرسل منامات ابن سيا  لترتع في دنيا الأدب كما رتعت في دنيا الواقع رغبة منه أن يكون للأدب اثر في ساحة اضطربت فيها الأصوات وخفت صوت الأدب وعلا صوت المفخخات والتفجيرات، واشتبكت حوابلها ونوابلها كشبكة صياد مهمل، ولهذا نزل ابن سيَّا الجوال من حماره المتعب فحل في مرابد الشعر ومهرجاناته ليخطف جائزة الشعر وسط التجريب الذي أثخنوا به جسد الشعر.. البساطة والتعبير والنفاذ إلى عمق الإحساس والضمير العراقي، ليصنع جملة وبيت شعر مجبولين بدم ساخن نابض، وبكل هذه الدماء لابد أن تكون منامات ابن سيَّا حية جداً..

خمس وعشرون منامة كانت البداية، أصبحت بعد المستجدات خمسا وثلاثين.. ثم ازدادت اثنتين فصارت سبعاً وثلاثين تحكي عن حينين وزمانين وعهدين لهما مساس بحياة الكثيرين من البشر المساكين. وسجل في مناماته السبع والثلاثين كل ما حصل في عراق الأكرمين قبل التغيير وبعده بست سنين، ليضعه أمام أنظار الجياع والموسرين، عله يحفز كوامنهم لتفيض ببعض الحنين والعشق الدفين لوطن لا يسمع منه سوى الأنين، بعد أن تكاثرت عليه سكاكين الجلادين من أهله والآخرين.

عندما عطلت البلدية آمال الناس بشارع بسيط كطموحات العراقيين البسيطة ، انبرى ابن سيا من مخبئه ليروي لنا قصة هذا المطمح اللابدي، كما هي الناس في هذا الكوكب المترامي...لم يسكت ابن سيا لأنه ليس مجرد شارع بل ركام من العجز النفسي والاجتماعي الذي أصاب الكثيرين، فصارت الأنانية تتفوق، والفضائل تتعوق، والأمة تتخندق وبالباطل يتشدق، حتى تعاور إصلاح هذا الشارع البسيط مقاولون كثر خمسة أو سبعة ولم ينجز شيء. وتساءل بمرارة وحسرة: أيضر المحافظة والدولة أن توفر شارعاً سليما معافى لأهلنا الطيبين بعد كل هذه السنين؟.

 ولما حدثت التفجيرات الدامية، كان على ابن سيَّا الشعر والشاعر الحاضر دوماً أن يغطي هذا الحدث اليومي (مناماتيا) فيحدد العلة وينبه الملة بعبارة لطيفة خفيفة خفية وسهلة.. وليكشف عن مواهبه ويفضح مآربه.

إذا ابن سيا شاعر يصر على الأدب بكف ويصر على الواقعية بكف أخرى، ويصر عليهما معاً كما يصر الفقير على عجوات من التمر خوف الضياع، فهو قبل كل شيء أديب يهمه أن يقدم أدباً صادقا لا سفاسف أو كلاما لا يرتفع عن كلام الحكاية والخبر، وهو أيضاً يريد أن يكون واقعيا جدا لا فنتازيا. وحسبي هاتان المنامتان (البلدية) و(الإرهاب) إشارة إلى الأدبية والواقعية في منامات ابن سيَّا الشاعر الجوال في أزقة الواقع والخيال بحثاً عن الشخصيات والحالات التي استجدت في عراق الحضارات.

 

المنامة السادسة والثلاثون

البلدية

لا تزال البلديات (بلاءً ودياتٍ)، ومجالسها أمانات تخون الأمانات، والمسؤول الجديد لص جائع شره، هكذا تدور الأيام والليالي.. ولا جدوى أو جديد، إن عليك حتماً الآن أن تثور على نفسك، فحين تركت الثورة على طاغيك، جاء لاغيك، ثر على نفسك بنفسك..

أتذكر أيام صدام؟ ..كان للبلدية مهرجانات دورية، تقطع فيها الأرزاق، ويشده الباعة والناس في الأسواق، ويَجرد البلديون على كل شيء أخضر، فيفزع الفقراء والمساكين كأرانب يجتاحها ورد. وبعد أن تمتلئ جيوب قديمة، يفتح الجدد جيوبهم للجياع ليملؤوها لهم قبل أن يملؤوا بطونهم الغرثى.. فما أشبه الليلة بالبارحة!!

كان ابن سيَّا يقلِّب كلمة (بلدية) على وجوهها، باحثاً في مخارج حروفها عن تخاريج لتبريرها: (بَلَدِيَة = بلد + ية) (بلْدية) (بلادة) (بِلادِيَه) (بلا دِيَةٍ).." إنني اصطدم بجدار اللغة فعلا، إذ لم أجد ما يدل على معناها الذي تجسده في الشارع.."

الشارع الذي تعاوره خمسة مقاولين أو ستة، وصرف عليه ملايين بل مليارات الدنانير والدولارات ولم ينجز بعد.. فيوماً يُنقر ويوماً يُبقر ويوماً يحفر ويوماً... انه لن يكتمل أبداً، على الرغم من كثرة المقاولين والمليارات!

وإذا لم يجد الشارع بلدية تريحه، فانه سيجد في كلمات ابن سيَّا راحة ما حتماً.. كلماته التي ستأخذ على عاتقها ذلك رغماً:

 

بلدية تبني فينهدُّ

               ومقاول (متنافع) وغدُ

والناس بينهما وتحتهما

               فرط اللهاث كأكلبٍ تعدو

وأراهم ركضاً وأرجلهم

               كوجوههم من حزنها خدُّ

لعنوه لما اسودَّ (بارحه)

               ما بال هذا اليوم يسودُّ

يوم غدا كالحشر من نحسٍ

               ولقد يكون بحشره السعدُ

هذا (البليديُّ) الجديد أتى

               ليجدَّ فيما فيه قد جدُّوا

ستعود للسلطان هيبته

               ويزوره في داره المجدُ

ويكون (توريق) و(بخششة)            ولبدء سوق الرشوة العَودُ

وتقوم أبطال الفلوس به

               فيترُّ من أسيافها الحدُّ

دوامة أنت الغريق بها

               ترخى بآونة وتشتدُّ

وأراك مضطجعاً على ضعةٍ

               بلدي مهادٌ ذاك أم لحدُ

     

هيا قم فما عاد حتى الكي يفيدك علاجاً كي تبلّ، قم فزلزلْ وازّلزلْ، أعد خلقك أعِدكْ، انصهر فيك وانصهرْ، وكفَّ عن الجلوس تنتظر، گودو لن يأتي فكن أنت گودو الذي تنتظرْ.. كان ابن سيَّا يذهب بعيداً في الزمن حتى يمسَّ زمن آدم ونوح، ويعود مسرعا ليصطدم بقوة بالحاضر لان المستقبل لا يلغه ولا يبلغه أحد، فيدور كالمجنون في هذه الدائرة باحثاً عن شيء.. عن كلمات شافيات وليست مسكنات..

كن كبيراً كما عرفت كبيرا

               لا صغيراً كما غدوت صغيرا

يا خضمَّاً يا مزبداً.. أيها البحر غضوباً طغى فغطَّى البحورا

ليس بدعاً في أن تثور ولكن

               كان بدعاً في أنه لن تثورا

أنت يا ابن العراق يا ابن الحضارات..بنت نينوى وشادت أورا

(أنا آتٍ) أضججْ بها سمعك المنقوع صمتاً وهزَّ منك الشعورا

(أنا آتٍ) قلها فقد سئم الحق اصطباراً.. أما سئمتَ صبورا

فتزلزلْ وازلزلِ الأرض من تحتك..تحي الموتى وتذرُ القبورا

وتُعِدْ في أتُّونها مستكيناً

               ليس يقوى فذاً قوياً قديرا

المنامة السابعة والثلاثون

الإرهاب

وقف ابن سيَّا في مشهد من مشاهد الموت تلك: لحم يطير كالعهن المنفوش..أحمر شفافاً يقطر دماً، أو يمطر الأرض فيفتح أفقاً على الآخرة والعالم السفلي الذي فغر فاه كصحراء تلتهب!

كان خطباء كثر خفيون في المشهد: خطيب يقرأ أسماء الضحايا، فكلما قرأ اسماً تطاير شخص، وخطيب يدفع أصحاب الأيدي الملوثة حمرة فلا يترك لهم مهرباً للتردد، وخطيب ينتحب بقوة هو ضمير العراق..الأب الحاني على أبنائه.. وثمة خطيب علني يأتي متأخراً دائماً (يستنكر الحادث!!)

يا لها حلقة حمراء أو سوداء مفرغة، ودوامة موت مغلقة، وأبداً لا يريد أن يقف.

سيظل هؤلاء يقتلون وأولئك يمهدون.. سيضل هؤلاء وأولئك، فلن يشده الفكر كثيراً ويتحير، ولن يطول زمن ارتج على اللسان فما عبَّر، ولن تتوقف الحياة إلا هنيهات.. فسرعان ما تجلو الحقيقة ويظهر مضببوها وهم أغبى الأغبياء.

سيبقى العراق وأبناؤه الخلَّص، وسيركب الأهوال من أراد أن يركبهما، فيصل إلى المحال. هذه الدموع التي تذرف بل تنضح بل تنضخ بل تشخب بل تطفح بل... جد أي ألفاظ تصاعدية تصل الى غمر الوجود كله بالحزن المبلل.. دموع المشاهد تلك تمتزج بدموع العراق، ولكن حزن العراق مثمر وايجابي ودموعه تدر شموس أمل واثق بالغد، وستكون باردة مثلجة للنفوس والقلوب. إلى هذا انتهى ابن سيَّا.. ثم انطلق يقول شعراً مختلفاً.. وما الضير؟ فانه لم يلزم نفسه بقالب أو شكل بل ألزم نفسه بحمل عبء والوطن وهمومه وهذا حسبه.

 

ماذا سيقول الشعرُ

ليصبح شعرا

حساً تحمله الكلمات وفكرا

ما جدوى الكلمات؟

ما جدوى الجدوى؟

إنَّ مصيرك.. (مات)

متهماً (بالكفر) ومحكوماً (صبرا)

الكلماتُ ستذهبُ (بوش)

يا شعبي يا (لحم الدوش)

***

منذ البطل الأرذل

ونبو خذ فشل الأول

والشعب يموت

بالحرب وبالقوت

يموت يموت

يا شعبي الأعزل

عوّدك الموت

بالشيب وبالشوش

الكابوي (راعي الهوش)

 

يا أم الدنيا

وعروس الأمجاد

يا عاصمة القتلى

يا بغداد

يا ثكلى

دوماً ثكلى

لا تصرخ يا شعبي (الداد)

الموتُ غزاك بعقر (الحوش)

هذا فاشوشُ (قراقوش)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1233 الخميس 19/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم