قضايا وآراء

مناخ الحرية.. واستيعاب الآخر

بعالم/عوالم الطفل مزيدا من الأبحاث الميدانية والكشوفات العلمية والغوص في أعماق هذا المحيط غير الهادئ..

لا شك أن مرافقة طفل في نزهة يعد فرصة نادرة للاقتراب من ملكوته المليء بالأسرار والمشع ككنز خرافي.. فرصة تتيح لمن يغتنمها أن ينظر إلى الأشياء بعين الطفل وأن يلاحظ الكيفية التي تستجيب بها المؤثرات الخارجية ولما يعتمل في داخله من الدوافع والحاجات والرغبات الكامنة.. لعل القارئ الكريم يتساءل عن الغاية التي سينتهي إليها هذا الكلام والنتيجة التي ستخلص إليها هذه المقدمة خاصة وهي تأتي في غمرة أجواء الامتحانات والفحوصات والإصلاحات وقد اشرأبت القلوب والأعناق بحثا عن النجاحات التي تثلج الصدر وتقر العين ليهنأ بالحصاد الزارعون...

منذ أشهر أصبح ابني محمد العزيز يطالبني على طريقته بجولة كل يوم على الأقل.. أدخل البيت فأجده يذرع الصالون – أوسع غرفة في بيتنا – جيئة وذهابا محاولا في كل مرة فتح الباب الخارجي الذي أحكم إغلاقه لأجل سلامته وكأنه أسد في قفص.. وهو يصر على إظهار غضبه واحتجاجه من خلال الأصوات التي يطلقها والحركات المتوترة التي يقوم بها والأشياء التي يرمي بها هنا وهناك والضربات التي يوجهها إلى الباب أو الحائط تارة بيده وتارة أخرى برجله فضلا عن النظرات التي يرسلها في كل اتجاه والتي تعكس أنبل وأجمل إصرار: الإصرار على الحرية.. وبمجرد أن يلحظني يسرع نحو الكاسكيت فيمسكها ويضعها فوق رأسه ويمد لي يده معلنا انطلاق الرحلة الآن الآن وليس بعد دقائق ولا مجال للتأخير أو التأجيل فلا أملك غير الاستجابة له.. وهل يمكنني أن لا أفعل وفي عينيه ذلك النداء الصامت الهادر.. نداء المستقبل..

أول الأمر كنت أستجيب له شعورا مني بالواجب وتحقيقا لما يسعده.. أما بعد أن ترسخت هذه العادة وتحوّلها إلى ما يشبه الطقس فقد صرت أبحث عما يحركني ذاتيا للقيام بها حتى لا تتحول إلى روتين.. فليس أقدر منه على محو معالم الأشياء وطمس معانيها.. فصرت أنتبه إلى ما يثير اهتمامه والكيفية التي يتفاعل بها مع هذه المؤثرات والطريقة التي يسلك بها أثناء جولاتنا أو بالأصح جولاتي معه على اعتبار أني كنت اتبعه وأرافقه وأفعل جميع ما يطلب مني ويقتصر دوري على حمايته من الأخطار التي تعترضه أثناء هذه الجولات الطويلة المثيرة التي أعود منها مبللا بالعرق وكأني أعود للتو من مغامرة نحبس  الأنفاس ونحن نستمع إلى وقائعها؟!

أول ما لاحظته  أثناء جولاتي مع محمد العزيز أنه لا يحب المسالك الممهدة والطرق المعبدة والدروب التي استهلكتها الأقدام وانتهبت جدتها الأرجل.. وهو لا يبالي بالأخطار التي تعترضه والمتاعب التي عليه تحملها ويفتح لنفسه دروبا جديدة ويدشن مسالك لم يسبقه إليها إلا عشب  الربيع أو ضوء النهار!؟ فهذا غصن يريد أن يمسك به وهذه صخرة يريد أن يتسلقها وهذا حيوان يريد أن يلمسه أو يقترب منه على الأقل وإن وقع أو عثر سرعان ما ينهض وهو حريص على عدم إظهار أي شكوى أو أثر للألم الذي تحمله من جراء ذلك!؟

و كأنه يقول بلسان حاله: من يركب البحر لا يخشى من الغرق.. وهو حريص على التعارف والتواصل مع الآخرين.. فهو يحيي الكبار بحركة رشيقة بيده وهو يسرع الخطو كلما رأى طفلا ولا تسأل عن العناق والقبل والمسح على الرأس وكأنه يقدم البرهان على صدق مقوله بعضهم: "للصغار صداقات كبيرة وللكبار صداقات صغيرة".. من هوايات محمد العزيز التي يمارسها أثناء جولاتنا.. فتح الأبواب المغلقة ومعالجة الأقفال وكأنها تذكره بقفل غرفة الصالون أو كأنه يسعى لتكريس سياسة الباب المفتوح ومقولة "دعه يعمل دعه يمر"..  انتباهه شديد واستجابته تلقائية وتواصله بلا حدود، أما رغبته في الاكتشاف والمغامرة فحدث عن البحر ولا حرج.. إذا منعت عنه شيئا أو منعته من الوصول إليه  غالبا ما يحطمه أما إذا تركته مع الأشياء يلعب ويجترح الفرح ويتمتع بالاكتشاف فإنه نادرا ما يفعل.. يحب فتح الأبواب كما يحب تجاوز العراقيل والعقبات ويسعى دائما إلى لقاء ممكن مع أي شيء وكأنه علم أن الحياة/ الطبيعية أفضل مدرسة ولا أقول أفضل مدرس لأنها تقوم مقام كوكبة من أفضل المدرسين الذين لم تخرج مثلهم أفضل الجامعات ولا أظنها قادرة على أن تفعل... أدب النزهة أن تترك النفس على سجيتها تتأمل وتنظر وتشعر وتحس وتستقبل مالا يحصى من الانطباعات والمواجيد والمؤثرات وتتواصل مع كل شيء ولأجل ذلك كان المقدمة الضرورية لكل بحث ودراسة وثقافة وتأهيل...

صحبة محمد العزيز وأثناء جولاتي معه دشنت مناخا من الحرية واستيعاب الآخر كنت افتقده داخل مؤسسات أدمنت الطرق الممهدة إلى الحد الذي منعها من رؤية الأفق!؟

 

 محسن العوني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1234 الجمعة 20/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم