قضايا وآراء

مكانٌ ليس كباقي الأمكنة .. (أيــام عمرها 41 عام)

كان عمري 21 عاماً حينما باشرت عملي ككاتب في هذه الشركة، وفي المساء كنتُ طالبا في المرحلة الثانية من كلية الأدارة والأقتصاد .. منذ اليوم الأوّل تعرّفتُ على الكادر ..

 

المدير العام: د. حمدي التكمجي ... شخصية علمية مرموقة يساري النزعة يتمتّع بروح الفكاهة أثناء قيادته الأدارية، رغم صرامة قراراته .

 

المحــامي: علي ياسين (أبو سعاد) الكادر الشيوعي القديم والمسؤول الرفيع السابق فيى مصلحة السكك الحديدية قبل أنقلاب 1963 الفاشي .

 

مدير الحسابات: د. فريد هرمز دلو خريج الأتحاد السوفييتي وكادر شيوعي متقدّم وقريب الشهيد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي جورج تلـّو .

 

المحاسب: محمد الجزائري الكاتب والناقد البصري المعروف، يساري الأنتماء ومحرّر الصفحة الثقافية في جريدة (التآخي) ذلك الوقت.

 

المحامي: سالم المندلاوي كادر شيوعي له علاقة نسب بالشهيد د. صفاء الحافظ أعقب علي ياسين في الأمور القانونية للشركة .

 

في يوم شتائي ممطر، تجرّأتُ وسألتُ مالك الشركة (عبد العزيز الأعرجي) الذي تجاوز عمره ذلك الوقت السبعين عام، وقد شجّعني على ذلك العلاقة القديمة جدا التي تربطه بوالدي، ولم يمض عليّ في المباشرة بالعمل سوى أيام:

 

ـــ هل كانت مصادفة أن كل العاملين في الشركة يساريون وبعضهم قيادي في الحزب الشيوعي العراقي .. أم أن الأمر مقصود من قبلك ؟!

 

أستدار نحو مصدر الصوت ــ كان يشكو من صعوبة بالغة في البصر ــ وأجاب بخنّة في صوته نعرفها عن بعد، وقد شخّصني فوراً إذ كان يتمتع بذكاء حاد:

ـــ أكيد مقصود، ليش انت متعرف ذوله ميبوكون .

ثم  تلمّس كرسياً قريباً منه ليضمن سلامة جلوسه بأمان وأكمل:

 

ـــ شوف مرّة، سألوا الباشا (نوري السعيد) المعروف بعداءه الشديد للشيوعية .. باشا شلون تعيّن (نعيم بدوي) مدير عام المستوردة وهو شيوعي نشط ومعروف .. جاوبهم .. لأنّه شيوعي عيّنته بهل المنصب حتى أرتاح، لأن دائرة المستوردة اكثر الدوائر تجري فيها رشاوي وسرقات وبمبالغ كبيرة .. والمشكله أن ذوله الوحيدين اللي ميبوكون .

 

هذا الحديث الذي جرى بيني وبين مالك الشركة، أكّد قناعتي بصواب الفكر الذي تتبناه الشيوعية، فرغم أن نظريتها هي نظرية إقتصادية بالمرتبة الأولى حسبما درسناها خلال تلك السنة  ولكنيّ عرفتُ إنها تصب بالتالي في دعم الجانب التربوي لدى الفرد وتنقية سلوكياته اليومية من الشطط بحيث يكون متصالحاً مع ذاته ومع محيطه ويكتسب غنى في كل شيء ممّا يجعله محصّنا من الخطأ وإغواء النفس ومغريات الترف، ومنذ ذلك الوقت أنتميت فكريا لليسار حيث لم أقوى على الأنخراط تنظيما في صفوف الحزب، إخلاصاً للقسم الذي أديّته أمام والدي بأن لا أدخل فعليّاً ضمن اللعبة السياسية، وأن أكتفي بالتعاطف والتأييد وأن اكون صديقا مخلصاً لهذا الفكر.

 

توثقّت علاقتي بالأستاذ (محمد الجزائري) ــ كنا نشترك في غرفة واحدة ــ حيث كنتُ شديد الأعجاب بأسلوبه الشعري في كتابة نصوصه الأدبية المنشورة قبل أن ألتقيه، ومن خلاله تعرّفتُ على (فخري كريم) الذي كان زائراً نشيط الحركة ودائم الحضور للشركة، وكذلك بالأستاذ الناقد المرموق (فاضل ثامر) الذي هو الآخر كان دؤوباً على زيارتنا، وكنتُ مبهوراً بسعة إطلاعه على المدارس النقدية والأتجاهات الأدبية، وحين قدم الى العراق الأستاذ الروائي الكبير (غائب طعمة فرمان)، أصبح مقر الشركة هوالمكان الأرحب والأكثر أماناً له، فأصبحت زياراته دائمية، حيث لا زالت شخصيته الخجولة وحياءه السمح ونظّارته التي تشفُّ عن عوالم مفعمة بالبراءة والنقاء كانت تغور في أعماق عينيه الكليلتين، عالقة في ذاكرتي حتى اليوم وكان يصطحب أحيانا معه صديق عمره الأستاذ الصحفي الديمقراطي المعروف (عبد المجيد الونداوي) الذي كان يصرّ على ممارسة عادته الغريبة، وهي أنه لا يحمل علبة كبريت في جيبه أبداً، حيث كانت جمرة سيكارته التي توشك على نهايتها هي بمثابة عود كبريت للسيكارة اللاحقة، لذا لا يمكن مشاهدته دون أن تكون سيكارة في فمه، وأظن أنها كانت السبب في الأجهاز عليه وهو في منتصف الأربعينات من العمر.

 

وبعد الأنقلاب البعثي في تموز 1968، وأثناء ما كان الجو السياسي مشحونا إذ تم القضاء على الجناح المنشق من الحزب الشيوعي (جماعة القيادة المركزية) وأنهيار قيادته العليا التي ظهرت أعترافاتها المخجلة من على شاشة التلفزيون، أصبح مقر الشركة وكأنه مقراً للحزب، حيث أصبحت الأجتماعات تجري يومياً فيه وكأنها كونفرنسات تنظيمية، ولن أستبعد أن قرارات مهمة أتخذت فيها، لها علاقة بطبيعة التعامل مع الحكم الجديد، فكان يتردد علينا بين يوم وآخر نوري عبد الرزاق حسين ومهدي عبد الكريم وكاظم حبيب ومهدي الحافظ والمهندس عيسى العزاوي وآخرون لم تسعفني الذاكرة بهم .

 

ومن الأسماء التي علقت بذاكرتي أيضاً والتي كانت تتردد علينا،(كليبان صالح عبلي) شقيق الشهيد (محمد صالح عبلي) وكذلك (سعود الناصري) الذي دعانا الى بيته لأقامة حفلة وداع للشاعر الكبير (مظفر النواب) الذي غادر بعد يومين الى بيروت كما أظن ولم يعد حتى الساعة .

 

وفي يوم زارنا شاب في الثلاثينات من عمره أشقر الشعر أزرق العينين يتمتع بوسامة واضحة، حظي مقدمه بأحترام الجميع، وكان يتحدث بهدوء عن الأفكار التي جاء بها غارودي والتي كان ينشرها على صفحات اللومانتيه وعن المقالات التي تمثل رأي الحزب الشيوعي الفرنسي إزائها على صفحات نفس الجريدة وكانت هي الحدث الأهم في داخل البيت الشيوعي الكبير ذلك الوقت ..وبعد يومين من تلك الزيارة، وأثناء دخولي الى مكان عملي، شاهدت  وجه (الجزائري) وقد أمتقع لونه ودمعتان تنزلان على وجنتيه من خلف نظارته، ولمّا استفسرتُ عن السبب في كل ما رأيت، عرفتُ ان الشاب الوسيم الأشقر الذي كان ظيفنا قبل يومين او ثلاثة هو الكادر الشيوعي المعلّم المناضل (محمد الخضري)، حيث تمت تصفيته يوم امس بصورة وحشية .

 

إن الثلاث سنوات التي عملتُ فيها  موظفاً في هذا الشركة منحتني فرصة أن أكون شاهداً على أخطر فترة مرّت على شعبنا وعلى الحزب الشيوعي الذي أضحى ذلك الوقت بين كماشتين أو بين المطرقة والسندان، فإمّا يستمر بالنضال ضد حكم البعث الجديد فيتعرّض بذلك الى تصفية جماعية كاملة لا ترحم أحداً، أو أن يستفيد من الأجراءات الأيجابية التي أتخذها الحكم في إطلاق سراح السجناء السياسيين وإعادة كافة المفصولين الى دوائرهم وغلق سجن نقرة السلمان الرهيب ورفع شعار الجبهة الوطنية والدعوة لأقامة علاقات وطيدة مع الأتحاد السوفييتي، فأختار مجبرا الأقتراب والمشاركة في الجبهة لعلّ البعث قد رمى من حزامه خنجر الغدر وثاب الى رشده، وندم على شنه حرب الأبادة الجماعية على كل التنظيمات الشيوعية قبل خمس سنوات أي بعد انقلابه المشؤوم في شباط 1963 .. الاّ أن الأيام أثبتت أن الشيوعية وحزبها وأصدقائها كانت مستهدفة في كل الأحوال .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1235 السبت 21/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم