قضايا وآراء

"الأشكال تفقد هويتها"(1) للناصر التومي

مرحلة موالية بداية من منتصف الثمانينات، نظرا لطغيان الاهتمام بالمواضيع المتناولة واستقطاب الهموم الفردية والاجتماعية لمواقف الكتاب وتركيزهم عليها مما يجعل البحث عن الشكل يتحول في نطاق القصة التونسية إلى الرواية التي بدت مشغولة أكثر من القصة القصيرة بالجانب الشكلي " (2)، وكان الناصر التومي من هؤلاء الذين جربوا كتابة القصة في حين أنه كان يدرك بأن الرواية هي الأقدر لديه على استيعاب تقنيات القص وتحليل الشخصيات، ويؤكد نفسه هذه الحقيقة في حوار صحفي بقوله : " كانت بداياتي مع القصة القصيرة لكني وفي نفس عشرية السبعينات التي برزت فيها، حاولت كتابة الرواية، فكانت " ليالي القمر والرماد " التي فازت بجائزة بلدية تونس سنة 1979، أي قبل صدور حتى مجموعتي القصصية الأولى " كل شيء يشهق " سنة 1982، ورغم مواصلتي لكتابة القصة القصيرة والتي بلغت خمس مجموعات، فإن الرواية كانت دوما حاضرة لدي سواء كانت كتابة أو هاجسا ملحا، مفرزا أربع روايات تحصلت ثلاث منها على جوائز . وشيئا فشيئا أحسست أن دافع كتابة القصة القصيرة  بدأ يفتر لدي ليحل مكانه هاجس كتابة الرواية، ويأخذ حيزا كبيرا من تفكيري . فهيمنت شخوصها وأحداثها على ملكة الإبداع لدي مبعدة ومقصية دافع كتابة القصة القصيرة دون إرادة مني . وأن إصداري لآخر مجموعة قصصية " حدث ذات ليلة " كان القصد نشر ما تبقى لدي من قصص لم تصدر ضمن المجموعات الأربع الأولى حتى أتفرغ لكتابة الرواية التي ملكت علي ملكتي الإبداعية ." (3)

 

  " الأشكال تفقد هويتها " إقرار واضح بأن تركيز الكاتب في هذه المجموعة القصصية سيكون على المضمون . فالنص القصصي في هذه المجموعة التي تتركب من قصص عشر يحمل بين طياته عقد الشخصيات المهمشة ومحرمات المجتمع، وملامح البيئة التي نشأ فيها الكاتب وارتأى أنه ككاتب شاهد على أحداث قادته لرسم صور لشخصيات عبر الذاكرة البصرية، ليتعاطف معها وهو يعكس معاناتها " إن تجربتي الحياتية شهدت عن قرب هذه الفئات، ولعلي كنت منها، فأنا أميل إلى هذه الشريحة، فإحساسي بها قوي إلى درجة الذوبان فيها، لذلك وأنا أخط نسيجها داخل رواياتي أجدني أتعاطف معها إلى حد كبير في حميمية دافقة، وأحاول أن ألفت إليها الأنظار، وهذا في نظري دور الروائي بأن يسلط الأضواء على النقاط السوداء في مجتمعه ليكون شاهد عصر بأمانة، لا خارج عصره بخيانة" (4) . وبما أن النص القصصي هو مرآة للواقع فإن الخاتمة لن تكون مباغتة للقارئ ولسقف توقعاته .

 

ففي قصة "نشيد الخلاص" يصور الكاتب المرأة من خلال الوصف المادي لها " هي عجوز في العقد السادس من عمرها ولها مع هذا قوة جسدية لامراة في الثلاثين، دائمة التنقل تنشد عطاء يقيها وزوجها الكسيح شبح الجوع . كانت الشقوق تمسح كامل قدميها في أشكال الديدان السوداء . تسرع الخطى رغم أن كيسا يرزح به كاهلها أجهل محتوياته، ولعلها كانت بقايا أرغفة أو شيئا من الدقيق، أما القفة التي لا تفارق يمناها فتحتوي غالبا على شيء من الخضر والغلال التي تجمعها من الأسواق " ص109، وهو يصف الملامح المعنوية لهذه المرأة ضمنيا فهي تواجه الحياة بطريقة المتسولين الذين يقتحمون المجتمع طالبين العون، ثم إنه يخفف من عتمة الفقر وما يخلفه في النفس البشرية من ألم ومرارة وشقاء، فالمرأة وهي تبكي كانت تغني وكأنها تغمس بياض الروح في اللوحة السوداء وتغني لهذا العالم الجحيم، والراوي الذي ما انفك يتابعها لم يتوان في العطاء حين سألته ما يقدر عليه ، وحين مسك معصمها وجوبه بارتعاشتها ردد : " لقد صدق حدسي فيها، أصبح أمثالها لدى الناس زعانف إنسانية، وخارجين عن الدائرة البشرية المعترف بها لهذا نبذوا وأهمل شأنهم " ص110 . ولما علم الراوي أن البيت الذي كانت تأوي إليه سقط على ساكنيه، وأخرجها من تحت الركام بمعية المتطوعين ليدرك أن رجلها قد بترت فالنغم الشجي المنبعث من حنجرتها ما انفك يردد أغنية الحياة المغموسة بالشقاء لتعبر عن إرادة البقاء .

 

في قصة " اعترافات محمومة " فالفتاة التي تعرضت لمحاولة اغتصاب من قبل زوج "أختها العاقر" وأغمي عليها صارت تعيش وهم اللحظة المظلمة، فهي تسترجع تلك الواقعة في حين نفى الأطباء فقدانها لعذريتها . وفي يوم الزواج فقدت الوعي لتفقد البصر وإثر استدراج لوضعها النفسي من قبل الطبيب النفساني نظرا لغياب سبب عضوي لفقدانها البصر، فإنه لم يتوصل إلى إضاءة المنطقة المظلمة في الأعماق . فعاد للاستماع إلى شهادات أختها وزجها ليقر هذا الأخير أنه عجز على مراودتها حين فقدت الوعي وفقد عنصر الصد . القصة لا تخلو من التيار الاسترجاعي الذي أضاء الكثير من المناطق المجهولة في القصة . واستحالت الأصوات إلى اعترافات تدين شهوات النفس وعجزها على الانجراف إلى شهواتها عند استبدال المشاعر المقدسة بالمشاعر المدنسة لتنتهي القصة بعودة النور للفتاة . واستفاقة الجانب اللاواعي هو عودة إلى منطق العقل في إنارة الحقائق من جهة وعودة لمنطق العقل الذي يمنع وقوع المآسي، ولعل النزعة الإصلاحية في كتابات الناصر التومي ومعالجته للقيم في الكثير من أقاصيصه هي التي لا تجعل من مصائر شخصيات قصصه شرا مطلقا بل وظيفته ككاتب أن يبحث أحيانا عن منافذ لاستبدال الألم بالأمل .

 

لا تكتفي البنية القصصية هنا بإعلان الخبر، بل تقوم القصة على تراجعية نفسية هي بمثابة فضاء للظلال أو الأوهام أو الأحلام تكشف عن ذلك المكبوت، العالق في المنطقة المظلمة العصية على الوعي والتي توجه الشخصية لترصد أفعالها وحركتها تجاه واقعها . والعودة هنا هي عودة إلى الذاكرة لاسترجاع ما وضح وما خفي من أحداث الماضي لتضيء القصة الفراغ الكامن في الشخصيات وهي تعيش حالات الهلوسة والجنون والانشطار النفسي .

 

في قصة " العسل المر " فثمة معاودة لغمس ثنائية الحلاوة والمرارة، فالعسل حلو المذاق ولكنه يستحيل علقما إذا غالبت المرارة البهجة في الحياة . لذلك تبنى شخصية الفتاة بطلة القصة على ثنائية ضدية مع العالم الخارجي فهي شقية جراء الفقر وصديقاتها ينعمن بيسر العيش، وهي منبوذة ومنكمشة وهن منطلقات، وهي تقطع طريق الذهاب والعودة للمعهد على قدميها بين الوردية وبن عروس وهن ينعمن بالركوب في وسائل النقل، وهي تعاني من الخصام المتكرر بين والدها السكير وأمها الحانقة على وضعها، وهي تضرب وتعنف بكل أشكال العنف المادي واللفظي والآخرين ينعمن بحنان الأبوين . إنه عالم يغزوه الصقيع والبرد ويعوزه الدفء وقد افتتحت القصة بصورة الفتاة وهي تفكر في سلك طريق العودة للمنزل تحت وابل المطر " وتحققت أن المطر لن يكف عن النزول، وعضت على شفتيها، وغارت عيناها، ولمع فيهما بريق الضعف والمسكنة، وبانت في مقلتيها حبتا دمع لم تستطيعا النزول، ورفعت بصرها إلى السماء، ولم تتمتم بشيء، إنها تعلم أن خالقها أدرى بها من نفسها " ص62 . فالقصة مأسوية تجعل القدر في صورة مفجعة، صورة لا يعيشها إلا ذوي الفاقة الذين يتعاظم ألمهم لتنتهي القصة بتعنيف الأب للبنت وبضربه بكرسي من طرف الأم . ورغم تسلط هذا الأب، فقد انتحبت الفتاة وهي تشعر بفراقه وللأبد . ومن ثمة يحجب الواقع المزري طعم العسل لكنه يترك المشاعر الإنسانية باقية ومتجذرة .

 

فالقصة هنا تخضع إلى المرجع الواقعي سيما في القصص الاجتماعية، فهي تبدو بسيطة البناء إذ تنقل الخبر ثم سرعان ما ينغمس الراوي في ولوج بواطن الشخصية بطريقة موازية لمعاناتها الاجتماعية لكي يكثف من حدة المأساة ويوجد شخصية إنسانية تثير تعاطف القارئ وهو يكتشف مظاهر الشقاء في المجتمع . فهي لا تعد شخصية قصصية فحسب بل هي انعكاس لأنماط ونماذج بشرية، وهي حالة يمكن تعميمها لتعكس بيئة يعشش فيها الفقر والشجن . وهذه الشخصية التي يتحكم الراوي في بنائها سواء توخى الحياد وأعلى صوت الشخصية، أو تراءى في صورة الراوي العليم بحدسه وتخميناته ليترك الحدث هو الذي يفجر الأزمة من خلال شخصية سلبية وهذا ما يحول دون تطور الشخصية في النص رغم أن الحدث يقوم عليها ومن خلالها .

 

في قصة " التائه الذي لم يصدقه أحد " فهي انعكاس لرحلة التيه التي تسطرها الحياة في غياب إرادة الإنسان وبما أن الرجل الذي فقد أخاه ووجد نفسه يساند زوجة أخ وكوم من الأطفال بذهن حانق على الصورة المزرية التي انعكس عليها وضع العائلة والصورة التي لا تقل مسخا وهو يرى نفسه عاجزا عن مساعدتهم، وحين يهم باستخلاص حوالة بريدية بقيمة ثماني دنانير فإن خطأ العاملة ما جعلها تصرف له ثماني آلاف دينار، وحين تصرف في تلك الأموال انتهى به المصير للتعذيب عند استنطاقه وحمله للسجن . ليخرج منه فاقدا لوجوده مختل المدارك العقلية، وليعلو صوت الكاتب وهو يفسر المآل الذي انتهى إليه " وكنت لا تفتا تردد بأن ليس الموت والجنون وحدهما يفقدان الإنسان وجوده، بل كذلك الخيبة والحاجة " ص60

 

إلا أن تعدد النماذج القصصية والروائية التي انتهى بها الكاتب في مصحة الأمراض العقلية لجنونها واختلال مداركها العقلية ما يجعلنا نرى في بطل رواية الكاتب " الصرير"، وبطل "حكايات من زمن الأسطورة" في قصة " عاشق العظمة " و " التائه الذي لم يصدقه أحد " والكاتب الذي صار يحدث نفسه بصوت عال في " حدث ذات ليلة " أن تكرر هذا الأنموذج هو قياس" للانفجار في وجه الكبت" . وهذا الانفجار يخلف حالات مرضية لا تملك السند العقلي الكافي لمجابهة أوضاعها . ولتبقى الكتابة القصصية هي مرآة للمجتمع ولا يعبأ الكاتب فيها لا بالتجريب ولا بالتلاعب باللغة وإنما يوجه الحدث وجهة درامية تفضي إلى الانفراج أو الانفجار.

 

وفي قصة " عندما تفقد الأشكال هويتها " أو عندما تفقد شخصية الشاب بعدها الروحي، ويتحول إلى أسير الشهوات المدنسة، فإن شيطان الشهوة يستحيل إلى لعنة تلازم علاقته مع المرأة، فكل امراة يقيم معها علاقة غير شريفة يموت شقيقها . وكل العلاقات المحرمة التي قام بها فهي محرمة في شكلها أيضا، فمرة يقيم علاقة مع شقيقة صديقه المسافر، ومرة يقيم علاقة مع امرأة تبادل أصدقائه الغرام، ومرة يقيم علاقة مع مبدعة تكتب بجسدها، لينتهي الأمر بالشاب بالتنصل من أي علاقة خوفا من رجس الشيطان . وكأن المحرمات تنذر بالشهوة في واقع صار مفتوحا على مصراعيه للعلاقات المحرمة، وكأن دودة النحس هي التي تلتهم الجانب السليم والصحي في المجتمع، وكأن الكاتب يلقي الستار على هذا الجانب المظلم في الحياة بحثا عن رؤية أكثر إشراقا : " أيعقل أن أكون علة هذا الخراب، اللعنة، أو التابعة أو الشيطان " ص13 . وتقوم القصة على إعلاء صوت الراوي عبر الخطاب الباطني وكأن المكاشفة النفسية هي التي ستفضي حتما إلى التفصد من الطريق القديم، كما أن دوائر الاسترجاع للحوادث ظلت متناسلة لتحريم الشهوة المدنسة عبر تبعاتها على واقع الأحداث . ولئن أضاء التيار الاسترجاعي النص، فقد ظلت الأحداث قاتمة .

 

والحياة قاتمة في عدة أوجه في هذه المجموعة القصصة، فالأشكال تفقد هويتها لأن الشخصية تحولت إلى هيكل بشري في قصة " نزيف الديدان " فالشاب المنبت الذي عاش دون لقب يسنده وفي غياب الجذور الأبوية التي تثبت وجوده في المجتمع كان يعيش حيرة نفسية واجتماعية في آن حيث يتمزق بين إنسانيته كمخلوق آدمي، وبين غياب الإنسانية التي جردها منه المجتمع، لتنتهي القصة بهجومه على والدته وهي نائمة لتهرع هاربة وتسقط من السلم وتموت وليعلق على رؤيته السوداوية للحياة بأنها " جثة متعفنة تنزف ديدانا " ص 21 . واستبطان الكاتب لشخصية القصة التي عاش دون هوية ما جعل التاريخ مجرد مغالطات لا تقرها الوقائع، وما جعل شكل الشخصية مجرد شكل يعاني الخواء والفراغ الروحي لأن مشهد محاولة الانقضاض على الأم كان يعبر على أقصى درجات المسخ . ليكشف الكاتب عن تلك الزاوية الدنسة في نفس الإنسان وليصور لحظة شاذة هي نتاج لعدم تجذرها في بيئة سليمة .

 

في قصة " راقصة المأتم " فالفتاة حليمة التي شبت في قرية عند أم ولا يعرف أصلها ولا فصلها، حليمة التي نمت وشبت على ايقاع جسدها المبتهج بالحياة وهي ترقص في أعراس القرية وتثير شهوات الرجال، كانت طرف لثنائيات شتى، طرف مع التقاليد التي تجرم الرقص في القرية، طرف مع ذاكرة القرية التي تعتبرها بنت حرام، طرف مع النسوة اللاتي صرن يحاولن الرقص بدلها دون أن ينجحن في ذلك، طرف مع العجوز "تبر" التي تؤلب النسوة عليها وتستفزهن للانتقام منها بطرق شتى وهي "عجوز الشؤم والبوم" كما يطلق عليها رجال القرية . ومن ثمة تستقطب حليمة تفاصيل الحدث وهي تحولها إلى نواة هشة يسهل التخلص منها في مشهد تراجيدي لا يخلو من رعب المشهد " كان المشهد رهيبا، النار تلتهم المحصول من كل جانب . السعير الملتهب يسمع له حفيف الحيات وحمرة مهيبة أحالت المحيط غلى بقعة ضخمة من الدم . كانت البنت حليمة ترقص بأعلى كومة من البيدر وقد لفها دخان وشرر . الرقص تعبيري مصحوب بمعاناة الاحتراق البطيء . بهتت معالمها وهي تتخبط بين حمرة وسواد، وانبعثت فجأة من الهب صرخة دوى لها المكان " ص32 . ومن ثمة يبحث الكاتب عن اللحظة المظلمة في ذاكرة القرية وفي تقاليدها البالية التي لا تقبل بزرع بذرة منبتة عن جذورها .

 

في قصة " عندما يقذف الملاك " فهي لا تخلو من نهاية مأسوية أيضا، فالزوجة الثانية البسيطة والتي تحمل صفات ملاك، والرجل الذي يقدر هذه الصفات، ولكن بمرضه السرطاني حاول أبناؤه إلصاق تهمة الخطيئة بها من خلال تلفيق علاقة مدنسة بينها وبين الطبيب . المرأة الملاك التي لم يفقد زوجها الثقة بها رمت بنفسها في البئر لكي لا تجابه بنظرات الشك . القصة تبدو بسيطة من حيث عدم الغوص في النفس الإنسانية والاكتفاء بالتعليق الظاهري ورسم الجمال في الصورة التي توحي به وفي الاخلاق التي تسمو به . فالجمال فن وأخلاق، والطبيب صاحب المعرفة العلمية لم يشيئه الكاتب أمام الجمال الذي يقع الإحساس به بالعين وبالقلب . " حقا كنت معجبا بزوجة أبيكم إعجابا غير خسيس، هو إعجاب الرسام بالمناظر الطبيعية الجميلة، وهل يعبث الرسام بما سحره من المشاهد " ص 107 . فالشكل حين يطعن في جماله الروحي يتنهي به الأم إلى الفراغ الذي يتجسد في الانتحار في هذه القصة وكانت المفاجأة أن الطبيب قد اكتشف أن المرأة ما زالت عذراء . فالسمو يقترن بعذرية الجسد والروح على حد السواء .

 

وفي قصة " صرخة في مذكرات فتاة " فإن نمو شخصية الفتاة في القصة أشبه بنمو الحشرة، حين تفقد الأب، فحلول زوج الأم وتمثله الدائم في ذهن الفتاة وهو يحل في فراش أبيها . أضف إلى ذلك ملامح القبح التي بدأت ترتسم على وجهها وهذا الانهيار فسرته على حساسيتها المفرطة وتعلقها بصورة الأب الغائبة . وهذا الانهيار ما سبب الصرخات الخامدة في الأعماق ترتسم شروحا على الروح ونتوءات على الوجه وخلل سريري في البدن . وتحليل الفتاة الراوية لنفسيتها وهي تستعرض أسباب ما حل بها من وهن ما جعلها تميل إلى المعالجة النفسية، فإذا بصورة الطبيب بعيدة كل البعد عن الصورة المرتسمة في ذهن الفتاة فهو فظ وأسئلته لا تشخص أزمتها . فالأزمة النفسية قائمة في غياب العلاج النفسي  في استفحال مشاعر الفراغ والغربة . وعند الاستنجاد بمشعوذ لتخليصها من الجن، كان ذلك المشعوذ من فقدها عذريتها وهو يجثم عليها متظاهرا بالقيام بحركات علاجية، وكان خروج الدم الذي شبهه بالدم الفاسد، المأساة الأكثر مرارة في واقع الفتاة . ويدين الكاتب عبر هذه القصة الشعوذة التي تلتهم براءة الأشياء وتدنس الروح . ويجعل مأساة المرأة مفتوحة على مصراعيها في هذه المجموعة القصصية التي قامت على تحليل الشخصيات لأحلامها المكبوتة، وبالتالي اعتمد التحليل النفسي كآداة لعدم تجسد الأحلام .

 

في قصة " إني حامل .. اتصدق هذا " فالمرأة التي أنجبت بعد سن الأربعين وبعد عملية جراحية على الظهر لتجسم صورة للإعجاز العلمي، المرأة التي أنجبت ثلاث أبناء دفعة واحدة، وأحسنت تربيتهم رغم صحتها المنهارة، والأولاد الذين كبروا واشتغلوا وتزوجوا ونسوا أوليائهم في الكبر إنما يتركون نقاط استفهام عن العلاقة الضدية بين أولياء يضحون بكل شيء من أجل أولادهم، وأولاد ينسلخون عن جذورهم ولا يسألون عن والديهم رغم ظروفهم الصحية الصعبة . في القصة تداخل بين الماضي والحاضر . وتلعب الذاكرة دورا كبيرا في تجسيم معاناة الأم، ولكن دون تبرم وذلك أمر معروف عن الأم .

 

فهذه المجموعة القصصية تفحص لواقع الشخصيات من الداخل لتبرر سبب السلبية في هذه الحياة التي فقدت فيها مشاعر المحبة والألفة والطمأنينة معانيها . وينتقي الكاتب شخصياته من الواقع الاجتماعي ولكنه يعكس التراجعية النفسية انطلاقا من استبطان باطن كل شخصية .

 

 

........................

(1)الأشكال تفقد هويتها، م ق للناصر التومي، صادرة عن دار سحر للنشر 1995، ط الأولى

(2) مفاهيم الكتابة السردية من خلال القصة القصيرة التونسية، أحمد ممو، مجلة قصص التونسية أكتوبر-ديسمبر2003، العدد 126

(3) حوار في الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية، 2 ديسمبر 2005، العدد 512، ص 3

(4) حوار في الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية، 2 ديسمبر 2005، العدد 512، ص 3

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1235 السبت 21/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم