قضايا وآراء

الذات والآخرون.. صورة لإدوارد سعيد..

القراءة والموسيقى ويعزف على البيانو.. يؤمن بأن طرح الأسئلة والإزعاج والإثارة وتحريك الساكن الثاوي.. من مهام المفكر.. كذلك بعث الأمل (HOPE ( وتجاوز الظاهر والمتاح واختراق الواقع الماثل.. لم يفارقه الإحساس بالنفي واللجوء.. أصيب فى بداية التسعينات باللوكيميا  وهو مرض إبيضاض الدم الذى

كان يحرمه من 60% من حياته وكان يتحدث عن مرضه بلا عقد كتعبير عن اجتماعيته وليثبت لنفسه أنه مازال فردا من العالم.. لم يكن يفكر في المستقبل وكان يعيش الحاضر إلى أبعد الحدود.. يقرأ ويكتب ويسافر ويحاضر ويناقش ويحضر المؤتمرات ويسمع الموسيقى ويعزفها ويحيا بالطول العرض أفقيا وعموديا.. كان يقول: "جميعا سنموت...لن أسأل متى.." مريض اللوكيميا إما أن يشفي أو يموت.. هو لم يشف وقرر أن لا يموت وصنع بطولته الخاصة.. بطولة حقيقية..

علاقته بالمكان كانت ملتبسة على اعتبار أن من يعيش في أماكن عديدة ينتفي لديه المكان والحنين وتصبح الهوية لديه غامضة ويغدو انتماؤه إنسانيا عالميا ومن هنا منبع أنسنته.. كان يقول: "العلاقة بين الأنسنة والمعرفة تقض مضجعي" "المعرفة ليست شيئا جامدا كرفوف الكتب مثلا.. بل شيء متحرك ودينامي والقيم الإنسانية لا خلاف حولها مثل: الحرية والكرامة والرحمة والحب.."

شغلته قضايا الاختلاف والدونية  والسيطرة والخضوع والإستقواء وكان يعتقد أن الغرب كتب الشرق كما يحلو له أن يراه ويتصوره ودعا العرب إلى كتابة أنفسهم وتاريخهم بمجهودهم ورؤيتهم وهو ما لم يرتقوا إليه تصورا وفكرا وقد كان تلقي الهنود والأفارقة لنظرية الاستشراق أفضل من تلقي العرب لها؟!..

الاستشراق لدى ادوارد سعيد محكوم بالمصلحة والاستعمار والانحياز والأحكام المسبقة التي تبحث عن مبرراتها لدى الآخر الذي يظن بإنسانيته النقص.. كما أن الغرب والشرق ليسا جوهرين منفصلين.. وموضوع الاستشراق ليس تحديد الغرب للشرق وإنّما هو تحديد الغرب لنفسه ومن هنا نفى تشيؤ البشر.. وضرورة النظرة الإنسانية الرحبة التي تنطلق من أن المعرفة نتاج هذا العالم وهو صنع البشر ووجوب تحرير المعرفة من الاعتبارات الأخرى وكان يشعر بالحرج لأنه مناصر للجبهة الخاسرة والأقل شأنا وهي من مظاهر نضاليته التي وضعته في فم الحوت باعتباره عربيا يعاني صعوبة الانتماء لفلسطين وللعالم المضطهد ويفرض عليه الالتزام على كل الجبهات ويضع مشاكل العالم على كاهله.. يقول في ذلك: "ينبغي عدم الحديث عن الحوار والسلام... نحتاج إلى التعايش والاستقلال وأن نناضل من أجل المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة وحرية التعبير والتي يعتبرها أمرا أساسيا حتى في الولايات المتحدة التي تعاني من الإعلام المنحاز لإسرائيل إنحيازا أعمى.. يقول في ذلك: "صرت أرفض المقابلات على اعتبار أن أطول مقابلة لا تدوم أكثر من ثلاث دقائق.. هل تدين الإرهاب؟! لماذا تعلمون الأطفال الفلسطينيين كره اليهود؟!..هم يضعونك في وضع اتهام منذ البدء وما عليك إلا أن تقول ما يرغبون فيه ولذلك علينا أن نناضل في سبيل حرية التعبير والإعلام في الولايات المتحدة!؟.. إنه الوجه الآخر للمسألة.." وطن المثقف أفكاره ورؤاه وادوارد سعيد لم يكن من هؤلاء الذين يرون أن البيت أجمل من الطريق إليه.. فللطريق حسناته وجمالياته وأبعاده المتصلة بأعماق الإنسان الذي ترك فيه بعضا منه.. من كبده ودمه الحار ونور بصره وتوهج أحلامه وآماله وأشواقه وكان يقول: "تجاوزت اهتماماتي العالم العربي وأشعر أن الأمر حررني أيضا ومع ذلك فإنني مخلوق الدرب الذي سرت عليه.. مخلوق تاريخي واللغات والثقافات التي اشتققت نفسي منها ولكنها لم تعد بالنسبة إليّ العلة الرئيسية لوجودي..إنها جزء من هذه الصورة الشاسعة التي أسميها المنفى الذي بات عندي حقلا كريما بعض الشيء في منح الفرصة".

 

.........................

من مقابلة أجراها صبحي حديدي مع إدوارد سعيد في باريس يوليو 1994 ونشرت بالانجليزية في مجلة Jussour  (واشنطن) وبالعربية في مجلة "الكاتبة" وصحيفة   "القدس العربي" لندن في مطلع عام 1995.  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1237 الاربعاء 25/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم