تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

الأزمة الاقتصادية الأمريكية ومستقبل أمريكا

adnan oayeedكثرت في الآونة الأخيرة التساؤلات والاستفسارات حول الواقع الراهن للولايات المتحدة الأمريكية ومستقبلها الاقتصادي، خاصة بعد امتناع الكونغرس الأمريكي عن التصويت على ميزانية الدولة وتوقف الكثير من أنشطتها الاقتصادية والإدارية بسب عدم وجود السيولة النقدية القادرة على تسيير شؤون الدولة بسبب هذه الممانعة، التي وقفت في نهاية المطاف حائلاً أمام عدم مقدرة الرئيس أوباما الذهاب لحضور مؤتمرا لتعاون الاقتصادي (إبيك) في بالي.

من هنا ارتفعت أصوات الكثير من المحللين السياسيين والاقتصاديين التي تقول أو تتنبأ بانهيار الدولة الأمريكية، وبالتالي فقدانها لدورها ومكانتها الاقتصادية والسياسية على مستوى العالم، وهي المكانة التي بنتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل عام، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية بشك خاص. وأن سبب هذا الانهيار يعود بنظر البعض إلى السياسات الخارجية المسلحة وبخاصة في أفغانستان والعراق.

عموماً إن المتابع للدور المتنامي للولايات المتحدة الأمريكية في قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية بستطيع القول: إن هناك دولتين أو بالتعبير الأدق، هناك حكومتان في الولايات المتحدة الأمريكية، الأولى ممثلة بالرئيس وطاقمه الوزاري والدبلوماسي والإداري. وهي الحكومة التي تهتم بشؤون مصالح الشعب الأمريكي وأمنه الوطني والقومي. والحكومة الثانية، هي من يهتم بمصالح الشركات الاحتكارية التي غالباً ما تلعب الدور الكبير في اختيار الحكومة الأولى، وهذا ما تؤكده طبيعة الشخصيات الحكومية المختارة هنا، حيث نجد أن قسماً كبيراً منها، إما شريكاً لأصحاب هذه الشركات، أو هو أحد مدرائها أوموظفيها الكبار. وبالتالي فإن قسماً كبيراً من القرارات الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية للحكومة الأولى يجب أن تصب في مصلحة الحكومة الثانية، وهي الطبقة الرأسمالية الاحتكارية، ثم أن التحام الحكومتين مع بعضهما (الحكومة المباشرة وحكومة الظل) شكلا مفهوماً جديداً للدولة الأمريكية سميي بـ (الدولة الرأسمالية الاحتكارية)، هذه الدولة التي اشتغلت منذ نهاية الحرب العالمي الثانية بشكل فاعل على تجذير نفسها كدولة قادرة على الاستمرار والفاعلية في المحيط الدولي لفترات زمنية طويلة لا يمكن لأية دولة أخرى منافستها بسهولة، وإن شاءت الظروف وحصلت هذه المنافسة فلا بد من تغيير حقيقي في بنية المجتمع الدولي، كأن تحدث تكتلات اقتصادية جديدة قادرة أن تنهي او تنافس هذه المكانة.

إن مسألة الأزمات الاقتصادية التي تحدث أو حدثت مؤخراً في أمريكا إن كان على مستوى البنوك أو الميزانية، فهي قضايا ثانوية أمام قوة وعظمة أمريكا الاقتصادية والسياسية في العالم. فأزمة البنوك تحلها الدولة على حساب ضرائب الشعب لمصلحة حكومة الظل كما جرى للأزمة الاقتصادية للبنوك العقارية بعد انسحاب أمريكا من العراق. ومسألة العجز في الميزانية تحلها الدولة عبر الصرف بالدين، وذلك من خلال طرح السندات، وأن المتابع لهذه المسألة (مسألة العجز في الميزانية)، يجد أن أمريكا قد وقعت فيها منذ سبعينيات القرن الماضي بسبب حربها على فيتنام والتكلفة المالية الضخمة التي استهلكتها هذه الحرب، الأمر الذي دفع نيكسن آنذاك بإصدار قرار بفصل الدولار عن الذهب، وبفصلها امريكا الدولار عن الذهب أعطاها القدرة على التحكم في سعر الدولار، بل وحتى طباعته دون رقابة، وهذا ما أعطاها أيضاً استمرارية القوة والهيمنة الاقتصادية على العالم، ولم تزل هذه القوة قائمة حتى هذا التاريخ رغم الأزمات التي مرت بها مؤخراً.

والسؤال المشروع هنا، من أين تستمد أمريكا قوتها واستمرارية هيمنتها على العالم؟.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت كل الدول الأوربية ولاسيما الدول العظمى منها خاسرة في مفهوم الحرب. وكان من أهم عناصر خسارتها، هجرة الكثير من رؤوس الأموال والمعادن والخبرات الفنية من بلدانها أو دولها إلى أمريكا، على اعتبار أن الرأسمال ليس له وطن، ولكون أمريكا كانت الأبعد عن شرور الحرب، فقد كانت المستقر لهذه الأموال والخبرات معاً، الأمر الذي ساهم في تنشيط الحياة الاقتصادية والعلمية / التكنولوجية بكل مستوياتها، مما زاد من قوة أمريكا الاقتصادية، حيث أصبح لديها فائض كبير جداً من الأموال لم يجد له مجالاً للتداول أو العمل داخل أمريكا، بسبب الأزمة الاقتصادية التي انتابت أوربا، وفرضها للحمايات الجمركية على البضائع والصناعات الأجنبية المنافسة لما تبقى لديها من صناعات، أو ما ترغب بإعادة تأهيلها، وهذا ما دفع أصحاب رؤوس الأموال الفائضة هذه في أمريكا أن يدفعوا بهذا الفائض من رؤوس الأموال إلى سوق (وول ستريت)، حيث خسرت الطبقة الرأسمالية الأمريكية في يوم واحد عام 1939 أكثر من عشرين مليون دولار كما تذكر المصادر، مما ساهم في خلق أزمة اقتصادية داخل أمريكا ذاتها من جهة، كما كان لهذه الأزمة تداعياتها أيضاً على دول أورباً، حيث أثرت تأثيراً واضحا على تنامي دور الفاشية والنازية (ألمانية هتلر، وإيطاليا موسوليني)، التي عجلت بقيام الحرب العالمية الثانية.

بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، تكررت مأساة أوربا ثانية، رغم أن أمريكا دخلت الحرب وهي من قام بإنهائها، إلا أن قوتها الاقتصادية والتكنولوجية لم تسمح للحرب أن يكون لها ذاك التأثير السلبي عليها كما أثرت على أوربا التي خرجت مدمرة في كل شيء، وكان لا بد من إعادة إعمارها.

هكذا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجدنا العالم أمام معادلة تقوم على الشكل التالي: أمريكا القوية جداً ومعها أوربا المنهارة في كل شيء والمهددة بنظامها الاقتصادي والسياسي من قبل الفكر الاشتراكي الذي راح يجتاحها بسبب نجاح الثورة البلشفية في روسيا من جهة. والإتحاد السوفيتي الذي راح يتشكل كدولة عظمى تنافس النظام الرأسمالي وتهدده في معاقله.

أمام هذا الواقع راحت أوربا ترتمي في أحضان أمريكا كقوة عظمى قادرة على حمايتها والحفاظ على نظامها الرأسمالي من الانهيار، وإمام هذا الضعف الأوربي أيضاً، راحت أمريكا بدورها تستغل هذا الضعف لتحقيق مكاسب لها أعطتها من القوة ساعدتها في الهيمنة على الكثير من دول العالم ولم تزل حتى هذا التاريخ.

ما هي هذه المكاسب إذن؟ .

أولاً: دعت أمريكا، والدول المشاركة في الحرب العالمية الثانية إلى عقد مؤتمر في مدينة (بريتون وودز) الأمريكية عام 1946، استطاعت أمريكا من خلال هذا المؤتمر أن تستغل ضعف الدول الأوربية وتحقيق ثلاثة إنجازات تاريخية أعطتها من القوة والسيطرة على العالم اقتصادياً لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ وهي :

1- الموافقة على اعتبار الدولار والذهب عملة احتياطية في العالم، وبذلك أصبح الدولار إضافة لمساوته بالذهب، عملة وطنية ودولية في الآن ذاته، وعلى الرغم من أن امريكا قد فصلت الدولار عن الذهب عام 1971 للأسباب التي أشرت إليها سابقاً، فقد ظل الدولار محافظاً على ميزاته الاقتصادية وقوته. ولكونه كذلك فقد سُخر كثيراً من قبل أمريكا وطبقتها الرأسمالية الاحتكارية في التلاعب بأسعار العملات العالمية وأسعار بضائها من خلال لعبة فوائد البنوك والبورصات النقدية،الأمر الذي جعل أوربا كثيراً ما تطالب الحكومات الأمريكية برفع سعر الدولار أمام العملات الأخرى، كون هذا الرفع في سعره يساهم في دفع العلاقات التجارية للتعامل بالعملات الأخرى على رفع قيمة عملات الدول الأخرى من جهة، والتوجه لشراء سلعها من جهة أخرى. هذا مع تأكيدنا على أن هناك وسائل كثيرة تلعب في تحديد سعر الدولار، أبسطها مثلاً أن يصرح الرئيس الأمريكي بأن أمريكا ستضرب سورية مثلاً، لوجدنا في ليوم الثاني ارتفاع سعر الدولار أو النفط أو انخفاضهما. هذا إضافة إلى أن الولايات المتحدة تقوم بطبع ترليونات الدولارات دون الرجوع إلى صندوق النقد الدولي، وتذكر المصادر في العقد التاسع من القرن الماضي أن أمريكا تطبع يومياً /7/ مليون دولار للتداول اليومي فقط.

2- تمت الموافق في هذا المؤتمر على إيجاد مؤسستين هما : صندوق النقد الدولي، وصندوق البنك الدولي للإعمار والتنمية. وكان من الشروط التي وضعت، هي أن رئاسة الصندوق والتحكم في آلية عمله وبخاصة منح القروض للدول الأعضاء، تكون للدولة التي تساهم أكثر في تمويل هذين الصندوقين، وبالتالي كون أمريكا هي الأغنى، فقد تحكمت في رئاستهما لفترة طوية، ولم تزل تتحكم حتى هذا التاريخ في آلية عمله ومنها منح القروض لهذه الدولة او تلك. وهذا أعطاها قوة التحكم في الكثير من دول العالم التي تحتاج للقروض وعلى رأسها الكثير من الدول الأوربية كاليونان واسبانيا وغيرهما، أما دول العالم الثالث، فحدث ولا حرج.

3- إن أمريكا بعد انتهاء الحرب الثانية راحت تدوس على أذيال حلفائها الأوربيين في مناطق نفوذهم الاستعماري السابق، وبخاصة في الشرق الأوسط، حيث استطاعت أن تحل بدلاً عنها وبخاصة في مسألة السيطرة على النفط عبر شركاتها. لذلك استطاعت الشركات النفطية الأمريكية خلال فترة وجيزة أن تسيطر على 80% من النفط العالمي، وهذا ما أعطاها قوة كبيرة في السيطرة على الدول غير المنتجة للنفط . أي التحكم بسياسات هذه الدول وإدخالها ضمن محورها، ويأتي في مقدمتها اليابان مثلاً.

4- إن أمريكا التي خرجت من الحرب منتصرة وأكثر قوة اقتصادية وعسكرية، من الدول الأوربية المنهارة، ساهمت بشكل فاعل في مؤتمر بريتون وودز بالموافقة على ما سمي مشروع إعادة إحياء أوربا، عن طريق الرأسمال الأمريكي، الأمر الذي دفع الأموال الأمريكية للتدفق إلى أوربا ضمن شروط وضعتها أمريكا بالذات على أوربا، منها أن تبقى الدول الأوربية تعطي أمريكا في علاقاتها الاقتصادية ما يسمى بـ (الدولة المفضلة)، كما أن أمريكا أخذت تتحكم في نوعية المشاريع التي يجب أن تقام في أوربا وبخاصة المشاريع الاقتصادية منها بحيث لا تشكل عامل منافسة للصناعات الأمريكية. هذا عدا الفوائد المترتبة على القروض. كل ذلك جعل أوربا بيد أمريكا كالسوار في المعصم، وهي لم تزل حتى الآن على هذه الحالة، بالرغم من أنها حاولت في معاهدة (ماستريخ) في تسعينيات القرن الماضي أن تتمرد على أمريكا في مسألة العملة الموحدة، إلا أنها لم تفلح. وهذا الأمر ينطبق في الحقيقة على مشروع (ترومان) أو النقطة الرابعة، التي قررت فيه أمريكا أن تقدم مساعدات للدول القريبة من حدود الاتحاد السوفيتي بغية تحويلها إلى سياج يحمي مصالحها في تلك المناطق، ويحول دون تقدم الفكر الاشتراكي، وهذا تطلب السعي الدائم لمحاربة كل حركات التحرر ووضع أنظمة رجعية موالية لها في تلك الدول، ودفعها لإقامة تحالفات مع بعضها كحلف بغداد والحلف الإسلامي وغيرهما. أما المساعدات التي كانت تقدم لهذه الدول فقد وصفها احد وزراء الزراعة في أمريكا بقوله : (إن كل المساعدات التي تقدمها أمريكا لأصدقائها هي ليست أكثر من طلقات بيد أمريكا ضد كل من يحاول أن يهدد مصالحها) .

5- مع التحام الرأسمال الصناعي بالرأسمال المصرفي وتشكل ما سمي (الرأسمال المالي)، الذي دفع باتجاه تشكل (الشركات العابرة للقارات (الكونسيسريوم)، ومن ثم تشكل الشركات المتعددة أو المتعدية الجنسيات، سيطر الرأسمال الاحتكاري الأمريكي على أكثر هذه الشركات، وبالتالي راحت أمريكا تتحكم في سياسات الكثير من دول العالم الاقتصادية والسياسية، بل وتفرض عليها انماط اقتصادية محددة تخدم مصالحها أولاً.

6- تعتبر أمريكا أقوى دولة صناعية في العالم، فهي تستهلك يومياً نصف الإنتاج اليومي من النفط العالمي، وهذا ما جعلها في الحقيقة مركب صناعي ضخم وبخاصة في الصناعات العسكرية. فأمريكا دائما ما تقوم بعسكرة اقتصادها من اجل تجاوز أزماتها الاقتصادية، فعسكرة الاقتصاد، تعطيها القدرة على تشغيل مصانعها، وتوظيف عمالتها، وتحريك دوراتها الاقتصادية، إضافة إلى حصولها على الأموال من خلال بيع منتجاتها العسكرية، وما شراء الأسلحة وتكديسها من قبل دول الخليج إلا تأكيداً على ذلك.

7- كل هذه الميزات والخصائص التي تتمتع بها أمريكا، أعطتها قدرة السيطرة أيضاً على منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وتسخيرها لمصلحتها تحت يافطة الحفظ على الأمن والسلم الدوليين والديمقراطية، وبالتالي فإن أية دولة لا تسير في خط المصالح الأمريكية هي دولة مارقة، وتهدد الأمن والسلم الدوليين، وغير ديمقراطية، وتهدد الأمن القومي الأمريكي.

إن كل ما جئنا عليه يؤكد أن مسألة انهيار أمريكا في الوقت الحاضر، أو حتى على المستوى المنظور هي تكهنات لا طائل منها. فأمريكا الإمبراطورية لن تتهاوى إلا إذا كانت هنات تحالفات دولية متماسكة وفاعلة في قراراتها الاقتصادية والسياسية أن تكسر شوكة امريكا وتجعاها تتراجع عن الواجهة.

كاتب وباحث من سورية

 

.......................

ملاحظة: للاستزادة في هذا الموضوع راجع:

1- كتابنا (رأسمالية الدولة الاحتكارية). إصدار دار التكوين . دمشق. 2006 .

2- مجلة النهج الصادرة عن مركز الدراسات الاشتراكية في العالم العربي (دمشق) العددان /23 و24/ صيف /2000/ دارستنا حول (رأسمالية الدولة الاحتكارية).

3- مجلة النهج أيضاً العدد /17/ شتاء /1999 /. دراستنا حول : (الدور المتنامي للولايات المتحد الأمريكية).

 

في المثقف اليوم