تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

قراءة في قصيد نثري لأبي القاسم الشابي (بقايا الشفق)

والنهار فكأن هذه القصيدة إذن تعبّر عن فترة مهمة في مسيرة الشابي الشعرية ألا وهي اِنتقاله من كتابة الشعر العروضي إلى كتابة الشعر النثري !

 

القصيد موقف تأملي في الحياة والموت من خلال اِستبطان الذات عند مشهد الشمس وهي تغيب بآخر ضيائها فتنساب الخيالات والرؤى بين مُساءلات حينا وبين ذكريات حينا آخر لكأن الشاعر يواجه ذاته في لحظات الكشف والحقيقة حيث تبدو القصيدة تماما كالمرآة قائمة على مبدإ ثنائية التقابل والتناظر منذ البداية :

 

أين أنت؟

أيتها الأحلام العذبة التي كانت تبسم لي

من خلال الظلام

فتفعم آفاق نفسي

بأنوار الرجاء

وترفّ بسكون حول قلبي هامسة

في مسامعه أنشودة الأمل

في أي واد تلاشيت؟

وفي أي لحد ضّم صداك؟

 

فالتقابل واضح في هذه اللوحة الأولى على مستوى معاني الكلمات كما في ـ الأنوار ـ الأحلام ـ الرجاء ـ الأمل ـ من ناحية وكلمات ـ الظلام ـ الواد ـ اللحد ـ من ناحية أخرى، ويتواصل هذا التقابل على مدى اللوحة الموالية في مستوى الإسناد الإضافي كقوله أهوال الظلام وقطوب الأشواك من جهة وبين أنوار الصباح واِبتسامة الأزهار من جهة أخرى :

أين أنت؟

أيتها الأجنحة البيضاء المتألقة تحت أشعة الشمس

كعرائس الشعر

لقد طلبتك بين أنوار الصباح

فلم أجدك

وفتشت عنك بين أهوال الظلام

فما رأيتك فتشت عنك في ابتسامة الأزهار

وفي قطوب الأشواك

وفي كل أطواء الحياة

ومظاهرها

فما وجدتك

 

إنّ الثنائية في القصيد تتمثل كذلك على مستوى تركيب الجملة مثل قوله ـ أين أنت أيتها الأحلام العذبة ـ وقوله ـ أين أنت أيتها الأجنحة البيضاء ـ

و كذلك قوله ـ في أيّ واد تلاشيت ـ وقوله ـ في أيّ لحد ضمّ صداك ـ

ثم قوله عند آخر القصيدة ـ حتّام تنوحين وقد صُمّ مسمع الأيام ـ وقوله ـ إلام تسترحمين وقد اِنصرفت مسامع الليالي ـ

 

و في قوله ـ أيها الموت الأصم الأخرس وقوله كذلك ـ أيتها الشعلة المظلمة الملتهبة ـ

 

إنها ثناية الليل والنهار، وثنائية الظلام والأنوار، وثنائية العذوبة والمرارة، وثنائية الأزهار والأشواك، وثنائية الرجاء والأسى، وثنائية الأمس واليوم، وثنائية الحياة والموت، كما لاحت في القصيد عند مشهد الشفق .

 

القصيد إذن تعبير آخر جديد في غير الشعر العروضي الذي يُقيّده وزن وتحدّه قافية حيث راح الشاعر منطلقا في المعاني والصور والإيحاءات بترجيع وتكرار حينا واِنسياب واِنطلاق حينا آخر كأنه وهو يرنو إلى الشفق إنما يغوص في كنه ذاته يراجع نفسه بين الوجود والعدم فلا يقف على يقين فتراه يمضي مبحرا في المدى البعيد...

 

بلى...كتب الشابي نص هذا القصيد

و هو لمّا يتجاوزْ السنة السادسة عشرة !!

 

نحن إذا عدنا إلى القصائد التي كتبها الشابي في فترة كتابة هذه القصيدة ـ 9 أوت 1925 ـ نلاحظ أن تلك القصائد لا تكاد تخلو هي كذلك من نزعة التأمل ومن بعض معاني هذ القصيد النثري وصوره فالشابي يقول في قصيدة ـ من كلام الشيوخ ـ وقد كتبها قبل أيام قليلة وذلك

 

بتاريخ ـ 5 أوت 1925 ـ وهي ذات أربعة أبيات في ديوان ـ أغاني الحياة وذات ستة أبيات تحت عنوان ـ كَلِم الشيوخ ـ في قسم القصائد التي تنشر لأول مرة :

 

لقد خدعتني في الحياة شبيبتي

و لكنني قد حنكتني التجارب

فلقد كنت ألقي للدجى برغائبي

فأبصرها فوق الدُّنا تتخاطب

و لكن أحلام الشباب ضئيلة

تحطمها مثل الغصون المصائب

سألت الدياجي عن أماني شبيبتي

فقالت ترامتها الرياح الجوائب

و لما سألت الريح عنها أجابني

تلقفها سيل القضا والنوائب

فصارت عفاء واِضمحلت كذرة

على الشاطئ المحموم والموج صاخب

 

 

و نرى الشابي يقول في قصيدة له بعنوان ـ جمال الحياة ـ بتاريخ 19 جويليا 1925 وقد جعل من التأمل في الدّهر المحور الذي تدور حوله بقية المعاني والصور تلك التي تمثل ثنائية الظلام والضياء بدلالاتهما المتناقضة التي أورد الكثير منها في قصيد ـ بقايا الشفق ـ غير أنه عكس الإطار الزماني فجعله أول الصباح في قصيدة ـ جمال الحياة ـ حيث نراه يقول;

 

سرت في الروض وقد لاحـــــــــــــــت تباشير الصباح

و جناح الفجر يومــــــي   نحو ربات الجنــــــــاح

و الدجى يسعى رويـــدا    سعي غيـــــــداء رداح

 

إلى أن يقول:

هكذا الدهر بأزيـــــــاء    غُـــــــــــــــدوّ و رواح

و ضيــــاء وظـــــــلام    وسكون وصــــيـــــاح

و نشــــيد ونـــــــواح    واِنقبـــاض واِنشــراح

إنما الـــدهــر وميثــــــــــــــــــاق الليالي كســـــــجاح

 

إن الذي يمكن أن نستنتجه من خلال المقارنة بين هذا القصيد النثري الأول ـ بقايا الشفق ـ وبين ما قاربه في تاريخ الكتابة من القصائد الأخرى، أن الشابي قد اِنطلق فيها جميعا من نفس الحالة الوجدانية تقريبا وانتقل بين أرجاء نفس المعاني بما فيها من إحالات وأبعاد ورموز تتمحور كلها حول الإحساس القوي والمبكّر بالزمن وحول التأمل في الصراع الأبدي بين ثنائية الحياة والموت ممّا يؤكد أن الشابي ينسج من نفس اللحمة والسدى سواء في قصيده النثري هذا، أو في بقية قصائده العروضية التي كتبها في نفس الفترة أي صيف 1925

 

إن تعبير الشابي بالقصيد النثري يندرج ضمن بحثه عن التجديد في سياقات مجالات التجريب تلك التي مارسها في قصائده السابقة ولكن دون أن يخرج فيها عن الضوابط العروضية الأساسية أما في هذه القصيدة فكأنه يمرح في جنان الشعر بلا رقيب وبلا قيد ولا حد ! فراح على سجيته مرفرفا ومبحرا فإذا القصيد ينثال بالمعاني لوحات وصورا متوالية حينا وفي رتابة وعود على بدء أحيانا مما يمنحه تحررا واِنطلاقا أكثر فنراه يمضي إلى الأمام يكتشف الآفاق نحو الجديد أكثر ما يلتفت إلى الوراء على رجع صدى القديم ونلاحظ هذا التباين بوضوح في مستوى الكلمات وصياغة الجمل وعلى مستوى اللوحات والصور بل وعلى مستوى نبرة لغة الخطاب أيضا حيث أنهى قصيده الجديد بكثير من الجرأة والتحدي اللذين لم نعهدهما في شعره السابق :

 

أيتها الحياة الهاجعة

في كهف الأسى

حتّام تنوحين

وقد صُمّ مسمع الأيام

وإلام تسترحمين

وقد اِنصرفت مسامع الليالي إلى ضجات المظالم

وأضحت القلوب قاسية كالموت

صماء كآذان القبور

أيها الموت الأصم الأخرس

أيتها الشعلة المظلمة الملتهبة في صدر الحياة

ألا تخمدين ؟

حتى ترتل الحياة أنشودة الخلود العذبة

مكلّلة

بإكليل الأبد الرائع !

 

فهل أن تحرر الشابي من العروض جعله ينطلق بحرية أكثرفي خيالاته وأفكاره ؟

 

ـ4 ـ

نص القصيد

بقايا الشفق

 

 

أين أنت؟

أيتها الأحلام العذبة التي كانت تبسم لي من خلال الظلام

فتفعم آفاق نفسي بأنوار الرجاء

وترفّ بسكون حول قلبي هامسة في مسامعه أنشودة الأمل

في أي واد تلاشيت

وفي أي لحد ضُمّ صداك ؟

أين أنت؟

أيتها الأجنحة البيضاء المتألقة تحت أشعة الشمس

كعرائس الشعر

لقد طلبتك بين أنوار الصباح

فلم أجدك

وفتشت عنك بين أهوال الظلام

فما رأيتك

فتشت عنك في ابتسامة الأزهار

وفي قطوب الأشواك

وفي كل أطواء الحياة

ومظاهرها

فما وجدتك

فأين أنت أيتها الأشعة الفاتنة

وأين مأواك ؟

آه !

لقد اِضمحلّت تلك الأحلام العذبة الساحرة

ولم يبق لي من الأمس إلا المرارة

والألم

لقد توارى خيال الماضي الجميل

وراء ضباب الأسى

ولم يبق لي منه إلا قلب منتحب

يندب في عزلته القاسية

بما في أعماقه من مرارة الأوجاع

ونفس معذّبة حزينة

مضطربة بين عذوبة الأمس

ومرارة اليوم

والآن

وقد تقضّت أفراح الأيام

واندثرت أحلام السعادة

كما تندثر الزهور

غير تاركة على صفحة القلب

سوى ظل ضئيل لحياة قصية فاتنة

توارت مع أشباح الزمن

يثير في النفس هاجع التذكار

الآن

تقف نفسي على شاطئ الأحزان

حيث تتدفق أوجاع النفوس

وتتكسر أمواج الأسى

بسكون

هنالك

على ضفة تلك البحيرة الخرساء

أين يتردد صوت الكآبة الأبدية الكامنة في أعماق السكون

هنالك

تقف نفسي الحزينة، صارخة بما في صوت اليأس من الهول والألم:

أيها القلب المنسحق تحت سنابك الأيام !

النابض بأنّات الأسى

الناقم على موجة الدهر الغضوب المتراكضة في لجة الحياة

إن كان في اِستطاعتك أن تقف جبارا، قويا

أمام تيار الزمن

دون أن يجرفك إلى الهاوية

وأن تلقي بتلك الموجة العاتية في أحشاء الأبد

فاِفعل

أما إن كنت عاجزا

فليس بمجديك العويل

أيتها الحياة الهاجعة

في كهف الأسى

حتّام تنوحين

وقد صُمّ مسمع الأيام

وإلام تسترحمين

وقد اِنصرفت مسامع الليالي إلى ضجات المظالم

وأضحت القلوب قاسية كالموت

صماء كآذان القبور

أيها الموت الأصم الأخرس

أيتها الشعلة المظلمة الملتهبة في صدر الحياة

ألا تخمدين

حتى ترتل الحياة أنشودة الخلود العذبة

مكلّلة

بإكليل الأبد الرائع !

 

 

في 19 محـرّم سنة 1344

المـوافـق لـ 9 أوت1925

 

  .......................

تخريج القصيد

 الأعمال الكاملة لأبي القاسم الشابي ـ ج 2 ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس 1984 ـ ص 19

وهو منشور بالكراس الخامس من – المداد الحي – الدار العربية للكتاب – تونس2009 – صفحة 365

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1243 الثلاثاء 01/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم