قضايا وآراء

فن التصمـــــــيم والاتساق بين التوافق والنتيجة

ولعل ابرز هذه القيم هي التوافق بين رغبة الفنان في الابداع من جهة والنتيجة المتحققة من جهة اخرى" .

واذا كانت هذه القيم على اشد وضوحها في الفنون الجميلة فانها ذات الية مختلفة في فنون التصميم وهذا يدعونا الى مقارنة العملية الابداعية في الفنون الجميلة بالعملية الابداعية في التصميم ، فبينما تعتمد الاولى نزعة ذاتية محضة لدرجة اعادة صياغة صورة الحياة وفق رؤية الفنان الباطنية والداخلية حيث الذات على اشدها في الانفعال والتعبير مقارنة بتلك النزعة الموضوعية لدى المصمم التي قد تصل الى غياب الذات في التعبير لاجل اعادة صيغ القيم الجمالية في الشكل بما يجعله نافعا ومفيدا.

من خلال ذلك تتضح مساحة الحرية التي توفرها الفنون الجميلة مقارنة بالقيود التي يعانيها التصميم والمصمم .

ان الوعي بضرورة تلك الحرية سواء في التعبير او الاداء في فن التصميم يؤشر بشكل واضح نضج العمل الفني على اساس من احساس الفنان بالموقف والسياق والبناء ، وادراك المصمم لنفس الموقف والسياق والبناء .

ويبرز في العملية الابداعية للتصميم ثلاثة مفاصل اساسية:

 

1-الموقف (situation):

وهو المناخ والتفاصيل التي تشخص فيها الاشكالية الفنية والعملية والعلمية بكل تركيبها والياتها بل تفرض طبيعة المعالجة فيها من تكون اشكالياتها . ودون شكل فان واقع حال المشكلة الفنية وهي ليس وليد هذا الموقف وانما هو حصيلة تاريخ طويل من التطبيق والممارسة على محك الاداء والفائدة والوظيفة وهذا يعني ان لكل موقف ظروف خاصة به في طبيعة المعالجة الابداعية نظرا لطبيعة اختلاف تلك الاشكاليات الفنية وظروفها وخصوصية الموقف تدعم بشكل كبير مقدرة المصمم على البحث عن حلول ملائمة لذلك الغرض .

2-السياق (context):

وهي ان يجيء العمل التصميمي متفقا مع ظروف الاشكاليات الاخرى المحيطة به وبالتالي فان عملية الادراك والتفسير لذلك العمل تاخذ طابعا منهجيا لانها وليد نظام معين يحمل نفس الظروف والمتغيرات ، اي ان الانجاز التصميمي لابد ان يكون ضمن سياق البيئة المحيطة بكافة معطياتها كاتجاهات التصميم والقيمة  الفنية والجمالية واسلوب الحياة السائد ، ولاشك ان التصميم الذي لا يعمل ضمن ذلك السياق فانه يبقى قاصرا امام تداوليته ونفعيته .

 

3-البناء (structure):

لا يخلو عمل فني من مجموعة العناصر والاسس والعلاقات التي تنتظم في بناء محكم يتناسب مع الفكرة ودور البناء يبدأ لحظة بنائية الفكرة وفق منطقها الصحيح ، لتكتمل مع بنائية التكوين ولتتضح قيمة العلاقات والعناصر والاسس القائمة مع فكرة العمل .

والبناء في التصميم ليس عبارة عن تجميع العناصر الملائمة مع بعضها وانما خلق علاقات صحيحة تفاعلية من ا لناحية التناسبية لاداء افضل وظيفة ممكنة ولا يتم ذلك الا باعتبار ان العناصر المجتمعة في العمل التصميمي وبصورة بنائية وتركيبية انما يكمل العنصر فيها قيمة العناصر الاخرى بل ويضيف لها قيمة جديدة سواء على مستوى الفكرة او التطبيق ، وعلى قدرا ستحضارهذه العلاقات الصحيحة ، يعد البناء صحيحا .

ان حساسية المصمم بالموقف والسياق والبناء يمنح العمل التصميمي واقع جمالي يستمده من القيمة الموضوعية من صميم الواقع وبالتالي يكون جزءا منه وينتمي اليه . واننا حين نصل بالعمل التصميمي الى هذا المستوى الذي يقوم على الرموز (symbol) من شانه ان يتحول ذلك الى لغة تؤدي الى وظيفة خاصة في مضمار التواصل الاجتماعي ولشد ما يحتاج التصميم الى دراسة الجانب الاجتماعي ، لان طبيعة المصمم في معالجاته الابداعية انما يخاطب شريحة اجتماعية لها كل الخصائص والمميزات . وان ذلك لايعني ان التصميم كفن عبارة عن انماط لغوية جديدة من التعبير او السعي الى تقوية دلالته التأويلية من الناحية المفاهيمية ، وانما ان يكون للمصمم اسلوبا مميزا من اساليب التواصل يمكنه من اكتشاف مجالات جديدة من المعرفة والقيم الابداعية غير تلك التي اعتدنا الحصول عليها في المجال التنظيري او اللفظي .

وفي ذلك يقول فيدلر وكاسيرر : " ان الفن ليس مجرد تكرار لحقيقة جاهزة او ترديد لواقع ، بل هو اكتشاف لحقيقة جديدة – فرضية متحققة – " . وهذا ما اكدنا عليه في ان عملية التصميم تقتضي تحويل فرضيات المصمم الى حقائق وازاحة الحقائق السابقة التي اصبحت قاصرة في ملاءمتها للمتغيرات الجديدة .

ان اشكالية فن التصميم التي تتوسط العلم والفن تستمد خصائصها التجريبية من كليهما مما يجعله اكثر قدرة على اعادة صياغة الحقائق القديمة بطريقة اكثر دقة وموضوعية ، وبينما يمنحه العلم سيطرة فكرية على الحقائق القديمة من خلال ادائها البرهاني يمنحه الفن سيطرة ادراكية عليها من خلال الممارسة التجريبية ، وكلا السيطرتين هما طاقتان تعبيريتان هائلتين تجعل من فن التصميم فنا ذو معالجات شمولية وعميقة .

" ان عموم التجربة الجمالية في الفنون تجعل من الفنانين يتوقفون في مرحلة الادراك الحسي معتقدين ان هذا النوع من الادراك يكفي للوصول الى المعرفة الحقيقية طالما ان المتلقي تصله كافة الانفعالات التي يعبر عنها الفنان في تجربته الفنية عبر هذا النشاط من الادراك" .

ولكن فن التصميم والمصممون لايستطيعون التوقف عند التجربة الادراكية لانها غير قادرة على التعبير عن المعرفة الحقيقية فيه ، اذ لابد من الوصول بها الى اعلى مراحل التجريد التي تكشف عن المعرفة الحقيقية في العلم وبالتالي تكون اكثر قدرة على تفسير الظواهر التي تؤدي الى القيم الوظيفية والنفعية والادائية . اي ان المصمم هنا لابد من الاحاطة بسببين اساسيين للمعرفة :

الاول : معرفة التجربة الادراكية باعتبارها معرفة فنية حسية جمالية تعتمد لغة الشكل الذي يفسره التناسب والعلاقات الجمالية الصحيحة .

الثاني : معرفة التجريد باعتبارها معرفة علمية منطقية تعتمد الدلالات البرهانية في اثبات الحقائق الموضوعية .

فادراك الشكل المعماري بطرازه وجمالياته لا تكفي كحقيقة لوظيفته دون ان  تمتحن ايواء الانسان والعيش فيها ، كما ان تصميم الاداة الصناعية لا تستمد قيمتها الادائية من قيمتها الجمالية وانما من الحقيقة العملية في اشتغالها وادائها الوظيفي وانجازها المحدد وكذلك انواع التصاميم الاخرى .

كما ان المبالغات في التأملات الفلسفية والادبية لقياس وانجاز مستوى التجربة الجمالية تبعد الفنان اولا والمصمم ثانيا من الواقع الموضوعي لقيمة التصميم كفن يؤدي غرضه وكان قد حذر (سيزان) الفنانين من الانسياق وراء ذلك .

 

www.ayadabc.co.cc

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1244 الاربعاء 02/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم