قضايا وآراء

أوهام بعضها فوق بعض!

قاسم حداد

شهدت أحداث الهوس الكروي الأخيرة، في مصر والجزائر، مُطالبة إعلامي مصري مُخضرم، على شاشة تليفزيون الدولة، باعتبار فريق كرة القدم في جمهورية مصر العربية، وبصورة رسمية، رمزاً للوحدة الوطنية والكبرياء الوطني! تذرع الاعلامي الكبير في دعوته (المُنافية للمنطق) بذرائع شتى، منها انتصارات الفريق، ونجاحه في تأجيج المشاعر الوطنية على نحو غير مسبوق، والتفاف الجماهير حوله! ومنها أيضاً تكريم أعضاء الفريق، وبعضهم أسطوري!

الناس في مصر يُشبِهون الهزيمة الكروية بهزيمة 1967، والناس في الجزائر يُشبِهون الفوز الكروي باستقلال 1962! أوهام أورثت شعوبنا الهوس!

من هنا تأتي أهمية هذه المقالة، وفيها أحاول لفت الانتباه إلى خطورة الاخفاق المُستدام في التعاطي مع "القومية"، لأنه ـ برأيي ـ يظل مسئولاً عن رواج مثل هذه الأوهام! ولسوف أفسر هذا الاخفاق في ضوء فكرنا الأنسني(1)!

القوميات، وكما يُنبئنا الواقع، تختلف فيما بينها وفقاً للأفكار السياسية والتقاليد التي تتضمنها، وللذكريات والآمال التي تستحضرها، ولموقفها إزاء جيرانها وإزاء المجتمع الدولي، ولدرجة تركيزها على نفسها ودعاواها في التفرد! بيد أن الخطورة ـ وبحسب هانز كوهن ـ تكمن في أن القومية، شأنها شأن كل المشاعر الجماعية التاريخية، عُرضة لأن يُستولى عليها وأن يُساء استخدامها من جانب باعة الأوهام(2)! وهذا على الأرجح عين ما يحدث في ربوعنا الحائرة!

لنتذكر مثلاً الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو يُصرح بعد شهور من هزيمة 1967 بقوله(3): "إننا نسعى إلى صرف اهتمام الشباب ـ يقصد الشباب المصري ـ إلى الحماسة، والتعصب للكرة، وسماع أغاني أم كلثوم"!

ولننظر أيضاً إلى المصريين الذين ذهبوا مؤخراً إلى السودان لمؤازرة فريق كرة القدم، في تصفيات كأس العالم، سنجد بينهم أبرز رموز النخبة المصرية الحاكمة! إلى هنا ولا مشكلة..ما يُوجع القلب حقاً هو كم الطائرات الخاصة التى خُصصت لبعض أثريائهم، في وقت تُجاهد مستشفيات السرطان والفشل الكلوي في بلادي أوضاعاً مُهينة! ذهبوا لايهام مواطنيهم أن حُلماً وطنياً يُوشك أن يتحقق!

على أية حال، لنبدأ تحليلنا لتعاطي الثقافة العربية مع فكرة القومية..

ما المقصود بـ "القومية"؟

القومية من أهم المشاعر الجماعية التاريخية التي تربط الإنسان بالجماعات وتجعله يحبها ويفتخر بها ويعمل من أجلها ويضحي في سبيلها. وما أعنيه بالقومية هنا هو حب الأمة ـ جماعة من البشر ـ، والشعور بارتباط باطني نحوها..

المشكلة أن للأمة تعريفات كثيرة، يحاول كل منها استخلاص فكرة الأمة إما من أحاسيس الناس أو من ظواهر بيولوجية أو سياسية أو من التاريخ الاجتماعي(4). بيد أن تعريفاً بعينه لا يتسيد الحياة، وهي المُختبر العلمي الحقيقي!

في محاضرة بنادي المعلمين ببغداد عام 1928، أورد ساطع الحصري ما اعتبره عوامل بعينها، تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتؤلف منهم أمة واحدة(5):

1.   الاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة، والنشوء عليهما، سواء أكان ذلك موافقاً للحقيقة أم مخالفاً لها! فالأمم من وجهة نظر الحصري أشبه بالأنهر العظيمة! وكل نهر من الأنهر تجري فيه مياه من منابع ومصادر وروافد مختلفة. والأنهر الكبيرة تكون كثيرة المنابع وعديدة الروافد بوجه عام، وإذا بحثنا عن منبع نهر من الأنهر، فإنما نفعل ذلك بالنسبة إلى ما هو الغالب والأساسي، ولا نعني بذلك أن جميع مياه النهر تأتي من منبع واحد فعلاً!

2.   اللغة والتاريخ، هما ـ بحسب الحصري ـ العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين الأمة! فاللغة هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس. لأنها أولاً، واسطة التفاهم بين الأفراد، ثم هي فضلاً عن ذلك، وعاء التفكير. وأخيراً، هي واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأبناء، ومن الأجداد إلى الأحفاد! صفوة القول إن وحدة اللغة تُوجد نوعاً من الوحدة في التفكير وفي الشعور، وتربط الأفراد بسلسلة طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية والعاطفية.

3.   أما التاريخ، فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها. فكل أمة من الأمم إنما تشعر بذاتها وتُكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص. وليس المقصود التاريخ المدون في الكتب، بل التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المُستولي على التقاليد! إن وحدة التاريخ تُولد تقارباً في العواطف والنزعات، إنها تؤدي إلى تماثل في ذكريات المفاخر السالفة وفي ذكريات المصائب الماضية، وإلى تشابه في أماني النهوض وآمال المستقبل..

4.   من العوامل الأخرى التي ذكرها الحصري على أنها تؤثر في تكوين الأمم وتميز بعضها عن بعض، عامل الدين! فهو تارة ينضم إلى تأثير اللغة والتاريخ فيقويهما، وتارة يُضعفهما! الدين يُولد نوعاً من الوحدة في شعور الأفراد الذين ينتمون إليه، ويثير في نفوسهم بعض العواطف والنزعات الخاصة التى تُؤثر في أعمالهم تأثيراً شديداً! وطبقاً للحصري، تظل الرابطة الدينية وحدها غير كافية لتكوين الأمة، وهو رأي قاسٍ بعض الشيء!

5.   طبقاُ للحصري، لا يتغلب عامل آخر على تأثير عاملي اللغة والتاريخ، في تكوين الأمة، سوى عامل الاتصال الجغرافي، لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلاً بعضها عن بعض، رغم اتحادها في اللغة والتاريخ. زد على ذلك، أنه قد يؤدي ـ بمرور الزمن ـ إلى تباعد وتباين في اللغة والتاريخ أيضاً. وهذه النتيجة التي تظهر من التجارب الحياتية، دفعت بعض المفكرين للحديث عن نظرية "مشيئة التعاشر ورغبة الاتحاد"، فقالوا إن أهم العوامل التي تلعب دوراً حاسماً في تكوين الأمة، هو مشيئة الجماعات في البقاء متحدين، وفي تكوين أمة متحدة، تتمتع بشخصية واستقلال! وهو ما لا يُقره الحصري!

قارئي الكريم، ثمة علاقة وطيدة بين مفهوم القومية ـ المُشار إليه تواً ـ ومفهومي الوطنية والدولة! الوطنية هي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تُعرف باسم الوطن، وبالتالي فمفهومها لا يختلف كثيراً عن مفهوم القومية! لأنه كما أن حب الوطن يتضمن، بطبيعته، حب المواطنين الذين ينتمون إلى ذلك الوطن، كذلك حب الأمة يتضمن، بطبيعته أيضاً، حب الأرض التي تعيش عليها تلك الأمة!

لهذا السبب يتقارب مفهوم الوطنية من مفهوم القومية تقارباً كبيراً، غير اننا إذا أردنا أن نُحيط علماً بماهية هذين المفهومين ـ الوطنية والقومية ـ إحاطة تامة، يجب علينا أن نلاحظ علاقة كل منهما بمفهوم ثالث مُهم، هو مفهوم الدولة.

الدولة في أكثر تعريفاتها شيوعاً هي(6): "جماعة من البشر، يقيمون بصفة دائمة في أرض معينة، وتُسيطر عليهم هيئة منظمة، استقر الناس على تسميتها الحكومة". مفهوم الدولة، وكما نرى، يرتبط بمفهوم الوطن من جهة وبمفهوم الأمة من جهة أخرى، فيكون بذلك خط واصل بين هذين المفهومين. بيد أن هذا الارتباط لا يكون على نمط واحد في كل الدول والأمم وفي جميع أدوار التاريخ، بل إنه يلبس أشكالاً متنوعة! والحصري يُلخص لنا، على نحو وافٍ، أهم هذه الأشكال:

1.   إن الأمة قد تؤلف دولة واحدة مستقلة، وهنا تنطبق الوطنية على القومية تمام الانطباق، ولا تختلف مطالبها عن مطالب القومية اختلافاً فعلياً.

2.   غير أن الأمة قد تؤلف دولاً عديدة، كل واحدة مُستقلة بنفسها. وهنا تُوجد كل دولة من هذه الدول وطنية خاصة بها، تسعى إلى تقويتها بكل قواها، بينما تكتفي القومية ـ في مثل هذه الحالات ـ ببناء فكرة وطن معنوي مثالي أوسع وأعظم وأعلى من الأوطان القائمة، تصبو نفوس القوميين في هذه الأوطان إلى تحقيقه واخراجه من عالم الفكر والتمني إلى عالم الواقع.

3.   قد تكون الأمة محرومة من دولة خاصة بها، وتابعة لدولة أجنبية عنها. وهنا يحدث نزاع وخصام بين الوطنية التى تفرضها الدولة الحاكمة وبين القومية التى يشعر بها أفراد الأمة المحكومة! القومية في هذه الحالة ترمي إلى تكوين وطنية جديدة خاصة أضيق نطاقاً من الوطنية القائمة العامة.

4.   ولكن الأمة قد تكون محرومة من الاستقلال، وفي الوقت نفسه مُجزأة وموزعة بين عدة دول أجنبية عنها. القومية في تلك الأمة المُجزأة ستعارض ذلك معارضة شديدة، وتحمل جميع أفراد الأمة في جميع الدول الأجنبية عنها على مقاومة الوضع القائم. وتدعو من جهة للاستقلال عن جميع الدول الحاكمة، ومن جهة أخرى لتكوين دولة قومية جديدة، تجمع شتات الأمة المُجزأة تحت لواء واحد، على أرض وطن قومي واحد.

القومية إذن، قارئي الكريم، تنطبق على الوطنية تارة، وتختلف عنها تارة أخرى، وتأثيرها ينضم إلى تأثير الوطنية أحياناً، ويخالف ذلك التأثير أحياناً أخرى. بيد أن القومية أصبحت ـ وعلى نحو ما سنرى في بقية هذه المقالة ـ من أهم العوامل التي تؤثر في تطور الدول، منذ أوائل القرن الـ 19 وحتى الآن!

 

نشوء فكرة القومية في الحضارة الغربية:

تُحدد الثورة الفرنسية التي وقعت في سنة 1789 نقطة تحول في التاريخ الغربي. في أول الأمر، بدا أن النهضة الجديدة والأكثر عمقاً التي كانت أمنية أوروبا كلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قد أخذت طريقها إلى التحقق في فرنسا. وايقظ الاتصال بأفكار الثورة الفرنسية الحياة السياسية والفكر السياسي من غفلاته في القارة الأوروبية، وعلى الخصوص في ألمانيا وإيطاليا. فحب الحرية، واستهداف تكوين أمة واحدة غير منقسمة، والشوق إلى تضامن قومي جديد وروح قومية جديدة، وفكرة دولة تضرب جذورها في الرضاء الشعبي وحماسته وتسندها المشاركة الايجابية للناس ـ مفاهيم برزت كلها مع الثورة(7).

غير أن التطورات اللاحقة أماطت اللثام عن وجهين من تأثير الثورة الفرنسية على العالم الغربي! فقد قوت الديمقراطية في البلاد التي كانت توجد بها أفكار مستقرة من قديم عن الحرية، وحكومة ذاتية محدودة القوة. كانت الحال كذلك في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وسويسرا، وعلى العموم في كل تلك البلاد الأوروبية الصغيرة التى تبعت النموذج الانجليزي للقومية، سكانديناوة وهولندة.

في الدول الأخرى، أثارت الثورة الفرنسية قومية عسكرية! وقد ضرب الجيش الفرنسي المثل على ذلك. إذ وضع الجنرال "بونابرت" قائداً للأمة في سنة 1799. وتتابعت الدساتير على الورق وقدمت النظم النيابية المحدودة السلطة واجهة ديمقراطية. وهكذا لم ينم لدى الفرنسيين احترام الدساتير والأجهزة البرلمانية الذى يميز البريطانيين والأمريكان. وورثت القومية في فرنسا وفي القارة على العموم روح الحكم المطلق بما فيها من خوف من الحكومة الذاتية واتجاه نحو المركزية. الفرنسيون، ورغم اطاحتهم بالملكية في 1789، جعلهم ماضيهم أقل أهلية لاستبدالهم بها حكومة مستقرة وحرية تحت سلطان القانون! لم يصل الفرنسيون إلى هدف الحرية المستقرة واحترام القانون إلا بعد 120 عاماً!

جاوز نابليون الأول الملكية كثيراً في المركزية وفي مطامحه! لقد فرض ميراث فكرة الامبراطورية الرومانية على القومية الفرنسية! وحاول مؤتمر فينا عام 1815، في نهاية الحروب النابليونية، أن يُعيد أوروبا إلى ما قبل القومية!

وبالفعل، مرت أوروبا بفترة سلم دولي أكثر من أربعين عاماً حتى استعمل نابليون الثالث وأوتوفون بيسمارك وسيلة القومية العسكرية في خدمة آمالهما في القوة. فلم يكن ثمة أثر لسباقات التسلح أو المركزية أو التقدم في الوسائل الفنية الحربية. وكان هذا السلم، على أية حال، منبعثاً من الرضا والاكتفاء الذاتي المبني على استيفاء الحالة القائمة. ومع ذلك فإن شعور الرهبة الغامض بعض الشيء نحو الملكيات صاحبة الحق المقدس، بدأ يفقد بريقه خلال الحروب النابليونية. رغم أنه ظل باقياً بعد ذلك بين الطبقات الألمانية العليا والمتوسطة، وربما بين الفلاحين الروس حتى بداية القرن العشرين. وساعد بيسمارك في ألمانيا والكونت كافور في إيطاليا على إضعاف مبدأ شرعية الملكية بهدمهما الملكيات القديمة بشكل مهين!

ووراء الواجهة الأرستقراطية للحياة، بدأت الثورة الديمقراطية والاجتماعية التي عبرت عنها أفكار الثورة الفرنسية سنة 1789 تنتشر في سنة 1815 في بطء، ولكن في عمق، بدرجات مختلفة في أوساط المفكرين أولاُ، ثم الجماهير..

وفي نهاية فبراير 1848 اندلعت الثورة مرة أخرى في فرنسا، وأقيمت الجمهورية الثانية. وفي هذه المرة أثرت الحوادث في وسط أوروربا كله بسرعة لم تكن متوقعة. وحملت الثورة المُجددة إلى كل مكان الميراث المزدوج لسنة 1789 ـ التحررية والقومية. وأثبتت القومية مرة أخرى، كما فعلت من قبل نصف قرن، أنها أقوى من التحررية، فوضعت الأخيرة ـ طول مدة بقائها في أوروبا ـ نفسها في خدمة القومية العسكرية. وفي فرنسا ذاتها بهرت أفكار نابليون الأغلبية الساحقة من الشعب. وانتهت الجمهورية الثانية إلى ديكتاتورية عسكرية!

كان المفكرون في أنحاء أوروبا الوسطى أقل شجاعة في سبيل التحررية. ومن ثم هزمت المطامح المتنازعة للقوميات المختلفة فيما بين 1848ـ1849 الأمل في التحررية وفي السلم الدولي، ومكنت للملكيات المحافظة شبه المطلقة أن تتابع الحياة. على أن هذه القومية المتأججة استمرت في الانتشار في أوروبا الوسطى بعد 1918 عام سقوط الملكيات. وبعد أقل من عشرين عاماً من نهاية الحرب العالمية الأولى، عمت الديكتاتوريات المستبدة أوروبا الجنوبية والوسطى. وانتصرت الفاشية في كل مكان تقريباً بوصفها نوعاً من القومية المُركزة على نفسها بشكل مُبالغ فيه! على انه، حتى حيث لم تحل الفاشية محل النظم الديمقراطية، فقد حطم الديمقراطية تصرف الحكومات على أنها ممثلة لجماعة الجنس المُفضل أو لجماعة دينية أو لطبقة من أجل الاضرار بالغير وتحقيره.

صفوة القول إن الثورة الفرنسية، بتأججها وتجددها، تقف وراء نشوء وشيوع فكرة القومية بين أبناء الحضارة الغربية! ففرنسا هي قلب أوروبا، وثورتها المُلهمة لم تلبث أن تجاوزتها إلى بقية أوروبا، ومنها إلى العالم، على نحو مُدهش!

 

التعاطي مع فكرة القومية في الثقافة العربية:

كان من الطبيعي، في ظل نشوء وشيوع فكرة القومية، في شتى أنحاء العالم، ان تتزعزع وتتخلخل اركان الكثير من الدول القائمة، وان تتغير وتتطور اوضاع معظم الدول، وفق مقتضيات فكرة القومية ومطالب مبدأ القوميات..

كان من الطبيعي أن تتفكك اوصال الدول المؤلفة من أمم متعددة، وكان من الطبيعي أيضاً ـ بعكس ذلك ـ ان تتحد اوصال الدول التى تنتسب إلى أمة واحدة! وعليه، ظهرت على المسرح العالمي بعض الدول الجديدة، وزالت من المسرح بعض الدول القديمة! السلطنة العثمانية مثلاً أخذت تتفكك شيئاً فشيئاً.

وللسلطنة العثمانية ارتباط كبير بحديثنا عن وفود فكرة القومية إلى ثقافتنا العربية! ففي أوئل القرن التاسع عشر، عندما بدأت فكرة القومية تلعب دوراً مهماً في السياسة الأوروبية، كانت البلاد العربية داخلة في حوزة السلطنة العثمانية منذ قرون عديدة، وذلك باستثناء المغرب الأقصى من جهة، وحضرموت مع قلب الجزيرة العربية من جهة أخرى! وكانت البلاد العربية هادئة وخاضعة هدوء الولايات التركية وخضوعها! غير أنه حدث فيها، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حادثان خطيران، زعزعا الأوضاع القائمة في السلطنة العثمانية زعزعة شديدة، هما: ثورة الوهابيين في نجد وثورة محمد على باشا في مصر.

كانت الثورة الوهابية حركة دينية في الدرجة الأولى، ولهذ لم تؤثر في نشوء فكرة القومية العربية تأثيراً يُذكر. وأما ثورة محمد علي، فهي أيضاً لم تستمد قوتها من نزعة قومية، ولهذا السبب لم تُؤثر في نشوء فكرة القومية العربية تأثيراً مباشراً، ولكنها خدمت القومية العربية خدمة كبيرة، ولو بصورة غير مباشرة. لأنها اوجدت دولة عصرية ـ نسبياً ـ قائمة في بلاد عربية، وأفسحت بذلك ميداناً واسعاً لقيام حراك فكري وأدبي عربي. أما نشوء فكرة القومية العربية، بمعناها التام، فقد بدأ في البلاد العربية التي كانت باقية تحت الحكم العثماني المباشر، كسوريا والعراق، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

كانت الدولة العثمانية تُعامل المسلمين من العرب معاملة تختلف كثيراً عن معاملتها للمسيحيين منهم. ولهذا السبب كان ارتباط العرب بالدولة العثمانية يختلف باختلاف أديانهم اختلافاً بارزاً! وللسبب نفسه نجد أن التفكير في القومية العربية بدأ عند العرب المسيحيين قبل أن يبدأ عند المسلمين منهم. كما أن الكتاب والشعراء الذين سبقوا غيرهم في الدعوة إليها كانوا من العرب المسيحيين(8).

وساعد على ذلك أنهم ـ أعني العرب المسيحيين ـ كانوا أكثر تفاعلاً مع الحضارة الغربية. لأن اعتقاداتهم الدينية وأحوالهم الاجتماعية ما كانت تُقيم بينهم وبين الغربيين حواجز معنوية، تُعرقل التواصل الثقافي. ولذلك كان تأثير فكرة القومية في هؤلاء أشد وأسرع من تأثيرها في إخوانهم من العرب المسلمين..

بيد أن فكرة القومية العربية لم تلبث أن شملت جميع العرب ـ من مسلمين ومسيحيين ـ، وصارت تُوجههم وجهة واحدة! والتالي عرض لأهم التيارات الرئيسية التى تنازعت، ولا تزال تتنازع، ثقافتنا العربية، إزاء فكرة القومية:

 

التيار اللاقومى ـ الإسلامي:

يرفض أنصار هذا التيار فكرة القومية، الوافدة من الغرب، باعتبارها افتئاتا على الأخوة الإسلامية وتهديداً لوحدة المجتمع الإسلامي. ويُعد المُفكر الراحل "سيد قطب" أبرز أنصاره وأكثرهم تأثيراً، فمؤلفه الشهير "معالم في الطريق" يُكرس رفض القومية المعاصرة ويستبدل العقيدة بها. وتنبع رؤية قطب من إدراكه للمعطيات التاريخية والمعاصرة، على نحو خاص، التالي أبرز ملامحه:

 

1.   عقيدية الحضارة :

يعتبر قطب انصهار الأجناس المختلفة في بوتقة العقيدة الإسلامية مُحدداً مُهماً لازدهار الحضارة الإسلامية في الماضي، حيث ضم المجتمع الإسلامي أجناساً شتى كالعرب والفرس والأتراك، مما أتاح للحضارة الإسلامية الاستفادة من مميزات كل جنس، خاصة وأن الإسلام ألف بين هذه الأجناس المختلفة ونظر إليها على قدم المساواة، وهو ما لم يتوافر لحضارة أخرى. وبذلك ينفي قطب عروبة تلك الحضارة، ويؤكد عقيديتها وهويتها الإسلامية، ويعبر عن ذلك بقوله(9):

"اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والإندونيسي والأفريقي..إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن يوما قومية إنما كانت دائما عقيدية..لقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلي وجهة واحدة. فبذلوا جميعهم أقصى غاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق، وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ".

 

2.   جاهلية العالم :

على خلاف رؤيته للماضي الإسلامي الزاهر، يرى قطب العالم المعاصر رافلاً في جاهليته، تلك الجاهلية التي تُمثل القومية بمفهومها المعاصر أحد ملامحها. ولا تحول التيسيرات المادية المعاصرة دون قناعة قطب بجاهلية عالم اليوم لاعتدائه على أخص خصائص الألوهية وهى الحاكمية. فنراه يساوي بين جاهلية ما قبل الإسلام وجاهلية اليوم ممثلة في ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بعيداً عن منهج الله وافتئاتاً على سلطانه. ويذهب قطب إلى أبعد من ذلك بتأكيده على إفلاس فكرة القومية وعدم قدرتها على الاستمرار في أداء الدور المنوط بها باعتبارها أحد مظاهر الحضارة الغربية المشرفة على الزوال، لنفاذ رصيدها من القيم، ويعبر عن ذلك بقوله(10):

"إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي..هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية..وهى الحاكمية..إنها تسند الحاكمية إلي البشر، فتجعل بعضهم لبعضاً أرباباً، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله..فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده".

وقوله(11):

"لقد أدت النهضة العلمية دورها، هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر، ولم تعد تملك رصيدا جديدا..كذلك أدت الوطنية والقومية التي برزت في تلك الفترة، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه القرون، ولم تعد تملك هي الأخرى رصيداً جديداً".

3.   عقيدية القومية:

بينما ينكر قطب القومية بمفهومها الغربي المعاصر، فإنه يتبنى مفهوماً مغايراً، فجنسية المسلم عقيدته ووطنه دار الإسلام وحاكمه الله ودستوره القرآن. وينبع هذا المفهوم المغاير من قناعات قطب الخاصة بعقيدية الحضارة الإسلامية وجاهلية العالم المعاصر، وإيمانه بأن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة، عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي. فضلاً عن تمييزه بين دارين، إحداهما دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتُقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون بعضهم بعضاً. والأخرى دار الحرب،  تلك التي تحكم علاقة المسلم بها المهادنة على عهد أمان أو القتال. ويعبر قطب عن ذلك بقوله(12):

"إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة..عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي، وسماها الرسول(ص) منتنة بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز..وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته،  وتصده عن دينه، وتعطل عمل شريعته،  فهي دار حرب ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته..وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته، فهي دار إسلام ولو لم يكن له فيها أهل ولا عشيرة، ولا قوم ولا تجارة..والأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي، وبلال الحبشي،  وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي،  وإخوانهم الكرام. والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع..الجنسية فيها هي العقيدة، والوطن فيها هو دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها القرآن".

وهكذا يرفض سيد قطب القومية العربية صراحة، ويقرر بوضوح أنه كان في استطاعة الرسول(ص)، وهو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً، أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة (الرومان في الشمال، والفرس في الجنوب)، وإعلاء راية العروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل الأرجاء العربية. لأنه لو فعل ذلك لاستجابت له العرب قاطبة، بدلاً من أن يعاني وصحبه أعواماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان. ولكنه لم يفعل، وهو ما يفسره قطب بتوجيه الله له أن يصدع بلا إله إلا الله، وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء، حتى لاتخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله طاغوت، والبشر لا يكونون عبيداً إلا لله وحده،  فلا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله، ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله(13).

 

التيار اللاقومى– الوطني:

يُعد التيار اللاقومى ـ الوطني أحد التيارات الرئيسية التي تتنازع الثقافة العربية إزاء فكرة القومية العربية. ويُثمن أنصار هذا التيار الوطنية على حساب القومية العربية، ويرونها أكثر مواءمة للعالم العربي، لتحبيذها نزوع الدول العربية لتعزيز خصوصيتها وإعلاء مصالحها الخاصة، انطلاقاً من دوافع أهمها(14):

 

1.  ضعف الدول العربية :

فقد روى عبد الرحمن عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، في إحدى المجلات حديثاً جرى بينه وبين السياسي المصري سعد زغلول، في أوائل عهد الوفد المصري. فعندما أراد عزام أن يتكلم عن  الوحدة العربية، قاطعه سعد زغلول بسؤاله: "إذا جمعت صفراً إلى صفر، فصفر، ماذا تكون النتيجة؟". ولا زال سؤال سعد زغلول يجول في صدور أنصار الوطنية في ربوعنا. فطبقاً لهم، يُقوض ضعف الدول العربية دعاوى القومية العربية، ويُفرغها من مضمونها.

 

2 .  إقليمية الأدب العربي :

أنشأ بعض الأدباء المصريين من أساتذة الجامعة المصرية في عصرها الأول نظرية في الأدب العربي وتاريخه، تقول باختلافه من إقليم إلى إقليم، فضلاً عن مناداتها بضرورة بقائه إقليميا (وطنيا)، يساير خصائص كل إقليم من الأقاليم العربية.  وترجع بدايات نظرية إقليمية الأدب العربي  إلى المحاضرات التي ألقاها أحمد ضيف في الجامعة المصرية، ونشرها بعنوان "مقدمة  في بلاغة العرب"، وقال فيها إن الآداب العربية ليست لها صفة واحدة، بل هي آداب مختلفة. ويستند أنصار الوطنية إلى مقولات نظرية إقليمية الأدب لتعضيد رؤيتهم القائلة بتعدد الأوطان في العالم العربي، وانتفاء دعاوى القومية العربية..

 

3 .  مصالح النخب الحاكمة:

تعد حماية المصالح الشخصية للنخب الحاكمة في عالمنا العربي، أحد أهم دوافع الوطنية. ففي كل دولة عربية، طائفة من الحكام والساسة وغيرهم، ترتبط منافعهم بالأوضاع السياسية القائمة، فينزعون إلى المحافظة على كيان الدولة، ولا يرضون بزوال ذلك الكيان بدعوى المصلحة الوطنية. ويساعدهم على ذلك امتلاك كل دولة لمعالم، مشهودة وملموسة، وسلطات فعلية تظهر وتثبت وجودها في شتى المناسبات، يراها كل فرد من أفرادها منذ نعومة أظفاره، ويألفها، ويرتبط بها نفسياً، ويشعر من جرائها بأنه يختلف عن غيره من منتسبي الدول الأخرى.

 

التيار القومي ـ اللاديني:

يُجسد هذا التيار رغبة واضحة من جانب أنصاره في إعلاء قيم القومية العربية، باعتبارها تفوق ما عداها في أهميتها. ويُعد الراحل جمال عبد الناصر أحد أبرز رموزه، ولا تزال أصداء خُطبه وتصرحاته الشهيرة تتردد حتى اليوم في ربوعنا، رغم اخفاقه المُلفت في وضع أقواله موضع التطبيق! ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل لتطور الوعي القومي العربي عند عبد الناصر:

 

1.   مرحلة إرهاصات الوعي القومي العربي:

اقترن الميلاد الشهير لقضية فلسطين بتسلل طلائع الوعي القومي العربي إلى تفكير جمال عبد الناصر، حيث احتلت فلسطين مكاناً خاصاً وبارزاً في هذا الفكر! وبتطور القضية الفلسطينية، توالت إرهاصات هذا الوعي لدى عبد الناصر، سواء أثناء دراسته في كلية أركان الحرب أو إبان انخراطه في القتال على أرض فلسطين! عبد الناصر نفسه هو الذى أخبرنا بهذه الأمور، وذلك بقوله(15):

"إن طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من شهر ديسمبر من كل سنة احتجاجا على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود ومنحتهم به وطنا قوميا في فلسطين اغتصبته ظلما من أصحابه الشرعيين..ثم بدأ نوع من الفهم يخالج تفكيري حول هذا الموضوع لما بدأت ادرس وأنا طالب في كلية أركان الحرب حملة فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل..ولما بدأت أزمة فلسطين، كنت مقتنعا في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالا في أرض غريبة، وهو ليس انسياقا وراء عاطفة، وإنما واجب يُحتمه الدفاع عن النفس".

تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1250 الثلاثاء 08/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم