قضايا وآراء

مصطفى جمال الدين .. شاعر وتاريخ أمة

شاعر جليل لم يحض بالتكريم اللائق في حياته مع أنه ملأ الدنيا وشغل الناس بفنون شعره ودراساته، ولذا اندفع غضبي  كطوفان هادر عصي التوقف صعب الوقوف ليخرج ما في وجداني من حب لهذه الشخصية العراقية الفذة، هذه الشخصية الرائعة المبدعة التي لم تجد من يهتم بشأنها ويجلسها في موقعها الذي تستحقه فضاعت من بين أيدينا كما ضاعت من قبل ثرواتنا وبترولنا وآثار حضارتنا ورموزنا لأننا لم نحسن حمايتها ولم نولها عناية كانت بأمس الحاجة لها في حياتها.

لقد تحكم الحراك السياسي في العراق أبان الربعين عاما الماضية بكل الفعاليات الحياتية الأخرى ولاسيما الحراك الثقافي لأن الذين جلسوا علىعرش حكم العراق خلالها كانوا مجرد جهلة سوقيين فارغين فكريا، وبعيدين عن الثقافة غير مدركين لأهميتها في حياة الشعوب والأمم، ولذا كان المثقف عدوهم وكانوا يخشونه كما يخشون الموت وعليه كانوا يبتعدون عنه ويبعدونه عنهم لأن مجرد وجوده قربهم يكشف رداءة معدنهم، ولم يبقوا قريبا منهم سوى أشباه المثقفين ممن باع نفسه وقلمه لدنانيرهم. ولما كان الأديب الفقيه العالم الشاعر مصطفى كمال الدين واحدا من الشعراء المبدعين والأدباء المجيدين  فقد كان نصيبه من تلك القسمة الضيزى تغريبا ومطاردة وملاحقة وغربة مرة زرعت في نفسه شعورا بالحرمان وشوقا لرؤية الأوطان ترجمه قصائد تغنى بها المثقفون ورددها الأدباء والدارسون. ورغم الأسوار العالية التي بناها الطغاة ليمنعوا قصائده من دخول الوطن كانت كما هو شعاع الشمس وكما هي نسمات الهواء العليل تتسلل خلسة من بين حراب وبنادق الحراس لتسجل حضورها في نوادينا السرية التي كنا نقيمها في بيوتنا بعيدا عن أعين رجال الأمن والحزبيين.

 

وقبل كل شيء مفروض بنا أن نلقي نظرة على نسب هذا الشاعر المجيد لما لهذا الموضوع من علاقة بحديثنا القادم عنه.

يرجع نسب السيد مصطفى بن جعفر بن عناية الله إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عن طريق جده السيد موسى المبرقع بن الإمام محمد الجواد عليه السلام.ولقبت أسرة السيد مصطفى بـ (آل جمال الدين) نسبة إلى جدهم الأعلى السيد (محمد) الذي كان يلقب بـجمال الدين  لتبحره بالعلوم الدينية .وتعتبر أسرة آل جمال الدين  من الأسر العلمية الدينية المعروفة التي تخرّج منها الكثير من العلماء والأدباء.

ولد  الشاعر في سنة  1346 هـ  في قرية المؤمنين إحدى قرى مدينة سوق الشيوخ ، التابعة لمحافظة الناصرية ودرس في كتاتيبها  ثم انتقل إلى ناحية كرمة بني سعيد لمواصلة الدراسة الابتدائية ، وفي الصف الخامس الابتدائي  هاجر مع عائلته إلى النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية. في عام 1962 عُيِّن معيداً في كلية الفقه في النجف الأشرف  ثم انتظم في دراسة الماجستير بجامعة بغداد سنة 1969 وبعد أن حاز درجة الماجستير بتقدير( جيد جدا) عُين عام 1972 أستاذاً في كلية الآداب بجامعة بغداد ، بعدها  حاز في عام 1979 على درجة الدكتوراه بتقدير (ممتاز) من قسم اللغة العربية 

عام 1981 هاجر إلى الكويت بسبب ضغط نظام صدام  ومن الكويت التي كانت تضيق على العراقيين المعارضين للنظام البعثي  سافر إلى لندن ثم انتقل في العام 1984  إلى سورية وأقام فيها إلى أن وافته المنية "رحمه الله" بتاريخ 1416 هـ ، ودفن  في دمشق  في مقبرة الغرباء عند السيدة زينب (عليها السلام) فارق شاعرنا أرض الرافدين مجبرا ولكنها لم تفارقه بل بقيت تتربع بين جوانحه وفي حنايا روحه حتى وهو في قبره.

لم يكن فراق السيد مصطفى للعراق بالأمر الهين البسيط وهو الجنوبي المداف حب الوطن مع خلايا جسمه وكريات دمه وأنسجة لحمه لذا تجد أسماء قصائده تنبيك عن شوق دفين لم يمحه مر السنين منها بغداد في الليل/ مهلا ضفاف الرافدين /ليالي الفرات. وأغلب قصائده تكاد لا تخلو من ذكر مدينته أو إحدى المدن العراقية كما وأنه يبث العراق شوقا وجوى في كل قصيدة مهما كان غرضها ومناسبتها فقد طغى الحنين على وجدانه وعصرت اللوعة قلبه المتعب وآذاه قهر السنين فزاد في معاناته.

ننتقل من موضوعة النسب إلى علاقة الشاعر بالعمامة التي لم تفارقه أو يفارقها كما فارقها غيره من أقرانه  لأن ذلك من المحطات التي تستوجب الذكر. فمن المفارقات الغريبة في حياة الشاعر السيد مصطفى جمال الدين أنه لبس العمامة في مقتبل العمر وتحديدا في مرحلة الطفولة وهو الأمر الذي تحدث عنه بقوله: في سن الثالثة عشرة وبعد سنتين من دراستي الدينية لبستُ العمامة، طفولة معممة مبتعداً من نزعة اللعب و المرح والانطلاق، هكذا يمكن وصف الحالة وخاصة أنني كنت أصغر من يرتدي العمامة من بين أقراني في الحوزة، ربما لهذا السبب ظلت طفولتي مؤجلة دائما ، وراحت تعاودني في غير أوانها في الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة تعاودني في صور شتى ، فتارة تعاودني بالنزعة للمرح ومداعبة الأهواء ، وطورا في نفحات الغزل التي قد تبدو غريبة عن رجل دين وقور .

لقد أثرت هذه المفارقة في حياته ومواقفه ولاسيما أن تعامل العمامة مع الشعر عموما يبدو محدودا ومقتصرا على أغراض معينة منه لها مساس بالعمل التعليمي الحوزوي، وبعيدا عن كل نواحي وأغراض الشعر الأخرى، كما أن الحوزة العلمية تنظر للشعرـ وهذه حقيقة قد تزعج البعض فلا يرضى عنها ـ نظرة دونية أو في الأقل تعطيه هامشا صغيرا من اهتماماتها يبدو أصغر كثيرا مما يستحقه، ربما لأن أغراض الشعر ولاسيما الغزل والخمريات تبدو متعارضة مع خط الحوزة الديني الإفتائي.

 وقد أفردت هذه الحالة المتناقضة حالات متناقضة تخص أعمدة شعرية لازال التاريخ يشهد على براعتها وحنكتها وإجادتها فن الشعر مثل الشاعر الكبير محمد مهدي ألجواهري والعلامة الكبير محمد سعيد ألحبوبي والدكتور الشاعر مصطفى جمال الدين. فهذه الرموز الشامخة الثلاث كانت جميعها قد بدأت حياتها بالدراسات الدينية ولبست العمامة في مراحل متقدمة من عمرها تعود إلى مرحلة الطفولة تحديدا.

 وفي مرحلة الطفولة، مرحلة بدايات تكون الوعي يترك لبس العمامة والعيش في المجتمع ألنجفي المغلق والمتشبع بالعلوم الدينية وبحوثها، والعيش مع رجال جل همهم معرفة المسائل الفقهية وحلولها، مع انشغال الجميع بهم واحد بعيد عن كل الهموم الهامشية الأخرى، أثرا واضحا على بناء وتكون  الشخصية. هذا إضافة إلى أن أجواء الحوزة العلمية والجدية التي تسيطر عليها تبدو وكأنها تضع قيودا ثقيلة على مجرد سماع بيت من الشعر بله نظمه وتقفيته والتغني فيه، هذا في وقت كانت شياطين الشعر تتقافز في داخل هؤلاء الرجال الثلاثة وتثير في نفوسهم صراعا فوضويا عارما معربدا يبغي التحرر والتخلص من القيود البيئة والملبس والموروث.

في هذه المرحلة عاش  كل واحد من هؤلاء الرجال الثلاثة صراعا فكريا صعبا وشرسا وضعهم في نهاية المطاف أمام أحد خيارين: إما أن يبعدوا صنعة الشعر عنهم ويتفرغوا لدراسة الفقه والعلوم الدينية وحدها لأنهم يعلمون أن العمر مهما امتد لا يغطي حقول المعارف الفقهية كلها بما لا يسمح بالانشغال بأي موضوع آخر سواه لمن يريد أن يختط خطه. وإما السير خلف دلال القوافي وسحرها وغنجها وترك دراسة الفقه لمن لا يشغله الشعر.

 وقد حسم كل منهم صراعه بطريقته الخاصة حيث خلع ألجواهري عمامته ساعة أدرك أنها تعيق انطلاقته الشعرية وتحد من أفق طيرانه في دنيا القوافي. وقبالته بادر محمد سعيد ألحبوبي إلى خلع الشعر والابتعاد عن دنيا القوافي والاحتفاظ بالعمامة يوم وجد أن الشعر يبعده عن دنيا العلوم الدينية التي يرى في نفسه ميلا إليها، أما شاعرنا السيد مصطفى جمال الدين فقد أحتفظ بالشعر وبالعمامة كلاهما يوم وجد في نفسه قدرة على الموازنة بين مطالب العمامة ومطالب الشعر بحيث يتقاسمان الحياة والعيش في حياته وعيشه،  فلا يتعدى الشعر حدوده فيعتدي على حق العمامة، ولا تأخذ العمامة من الشعر حقا يقيد إبداعه ويحد من حراكه، ومن خلال هذه الموازنة الفريدة أصبح مصطفى جمال الدين عالما شاعرا، وشاعرا عالما ولهذا يقول: هذه صحائف شاعر يقدس الشعر ويقدس الشرع ، فكانت عمامته شاعرة كما هي فقيهة مجددة .

هذا التوازن الرائع مشفوعا بملكة شعرية تمكن السيد مصطفى من صنعتها وسبر غورها في مراحل طفولته المبكرة جعلته أنموذجا فريدا متفردا. فقد  قال السيد مصطفى الشعر مذ كان في مرحلة الدراسة المتوسطة ، وعندما دخل الجامعة كانت القصيدة تنطلق منه بسهولة  كما تنطلق الكلمات على ألسن الناس، وكان شعره أنموذجا فريدا في الوطنية والإخلاص، إضافة إلى أنه  يمتاز بميزة خاصة  طبعت في أدبه وهي المزج بين الشعور الوطني والغزل، وفي غزله تفردا تستغرب كيف يمكن أن يصدر من فقيه مفوه. وفي مجتمع مثل المجتمع ألنجفي المفتوح على كل الثقافات ليس مستغربا أن يبدع المثقف في الميادين التي يخوضها فالنجف رغم طابعها الديني كانت أيضا مركز جذب للثقافة العربية الوافدة إضافة لموروثها الثر الغني وذلك كله يترك أثره التربوي على طلاب العلم ودارسيه.

وإضافة لهذه المزايا توجد  روافد عديدة أخرى  ساهمت مجتمعة بتشكيل شاعرية مصطفى جمال الدين تمتد هذه المزايا ابتداء من البيئة النجفية المتفردة مرورا  بالدراسة الدينية، والأكاديمية فيها ثم حوزتها ودراستها النظامية وأخيرا رمزيتها في قلوب المسلمين الذين يفدون إليها زرافات ووحدانا حاملين معهم أشواقهم وتجاربهم وعلومهم هذا زائدا الموروث الذي كان يحمله الشاعر نفسه وهو ابن عائلة دينية علمية مفوهة كتبت في الفقه والشعر والأدب.

وكما أنه جمع بين العمامة والشعر فإنه كذلك جمع بين البحوث الفقهية والشعر فإضافة لدواوين شعره وقصائده المتفرقة الكثيرة كتب مجموعة كبيرة من البحوث منها "القياس حقيقته وحجيته". و"الاستحسان حقيقته و معناه". و"البحث النحوي عند الأصوليين" . و"الانتفاع بالعين المرهونة"  وهو بحث فقهي. و"الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة"

هنا أتوقف لأتيح للباحث ألشمري التحدث عن هذا العلم الرمز وهذه الشخصية المميزة. ولكني قبل أن أنهي حديثي أود التنويه إلى  شديد استغرابي والسؤال عن الأسباب التي أدت إلى إهمال دراسة شاعر بمثل هذا المستوى العالي وهذه الروح الوطنية الوثابة والحس الإنساني الرائع دراسة تتناسب مع مكانته العلمية والأدبية والدينية والشعرية والحياتية. ونحن إن كنا قد غمطناه حقه في حياته فالمفروض بنا أن نرد له بعض حقوقه بعد مماته، وما دامت ذكراه طرية لم تجف بعد فمن المحبب والمستحسن بل الواجب أن يبادر المختصون للكتابة والبحث في حياته وتجربته الشعرية الرائعة قبل أن يطويها النسيان لكي ننقل تجربته تراثا فكريا إلى أجيالنا القادمة، إذ ليس من المعقول أن يكون أجدادنا قد تركوا لنا إرثا عظيما نعجز عن الإضافة له من صفحات حياة رموزنا . إن مجرد امتناعنا عن توثيق تراث هؤلاء العظماء يعتبر خيانة عظمى للتراث الإنساني كله فنحن بتقصيرنا نحرم الإنسانية من معرفة واحد من رموزها الرائعة.

ولذا أشد على يد الباحث علي ألشمري وهو يبحث بجد وتفان في حياة الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين وأدعو له بالموفقية والنجاح

 

صالح الطائي

كاتب وباحث في الشؤون الإسلامية

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1252 الخميس 10/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم