قضايا وآراء

التنوير الدّيني حاجة دينيّة

ويعترضون على طريقة التعبير أو الاشتقاقات الاصطلاحيّة المستخدمة في تقديم الأفكار، وجزءٌ من هؤلاء لا يُبدي اعتراضاً جدّيّاً على المحتوى والمؤدّى العام، ويقتصر التحفّظ على أسلوب الكتابة، والاستعمالات اللّغويّة. لاشكّ أنّ قسماً من هذا الاعتراض له وجاهة معيّنة، وخصوصاً فيما يتعلق بالأسلوب الكتابي الذي يُتهم بالنخبويّة وربما بما هو أكثر سلبيّة من ذلك، كما أنّني أتفهّم أولئك الذين يذهبون إلى بروز شدّةٍ غير ‘’مفهومة’’ حيال بعض الأفكار والمواقف المنقودة. ثمّة اعتراضات أخرى، من لونٍ آخر ومن منظورات مختلفة، تبقى محلّ احترام هي الأخرى. مناسبة هذه المقدمة ‘’الاعترافيّة’’؛ هو أنّ بعضاً تشدّد عليّ معترضاً على استخدام تعبير ‘’التنوير الدّيني’’، ورآه تركيباً يبعث على استفزاز الأطراف الأخرى. في هذه الحال، تُشير عبارة ‘’الأطراف الأخرى’’ إلى الجماعات الدّينيّة التقليديّة، أي تلك التي تؤمن بالاكتفاء الدّاخلي وعدم الحاجة، الكبيرة والماسة، لأيّ استلهام أو استفادة من الخارج، بل وتنظر بريبةٍ واسعة لأيّ شكلٍ من أشكال التبادل والتناسخ والتداول والتناص الفكري بين الثقافات والثقافة الإسلاميّة. يُبرّر صاحب هذا الرّأي وجهة نظره بالإشارة إلى أنّ كثيراً من الأفكار يمكن أن تجد طريقها الترحيبي فيما لو مُرِّرت بلا استخدامات ‘’استفزازيّة’’، كأنْ تُقدَّم من خلال رموز دينيين لهم مصداقيّة عامة.

حسب التّجربة، فإنّ المشكلة لم تكن في يومٍ من الأيام لها علاقة بالاصطلاحات وأساليب الطّرح الشّكليّة. كانت المشكلة، ولازالت، ذات صلةٍ بالإصلاح ذاته ومفهومه الحقيقي ومدى الاستعداد لقبوله والاعتراف بضرورته الواقعيّة. نتذكّر هنا عدداً كبيراً من العلماء ‘’ذوي المصداقيّة’’ الذين لم يستطيعوا تمرير مشاريعهم الإصلاحيّة، برغم أنّهم لم يتحدّثوا انطلاقاً من ضرورات ‘’التلاقح الثقافي’’ و’’تبادل المعرفة’’ و’’التأثير الحضاري’’، كما أنّهم اعتمدوا تقديماتٍ لغويّة منسجمة مع اللغة الاصطلاحيّة الدّينيّة. لقد تعرّضوا لمضايقاتٍ مختلفة، وحوصر بعضهم ورُميَ بالفسوق والضّلال وتخريب ‘’الدين’’ و’’المذهب’’. كانت بداية المأساة تسبق محمد عبده والأفغاني والسيد محسن الأمين والشيخ كاشف الغطاء ومحمد باقر الصّدر، وهي لا تنتهي مع يوسف القرضاوي ومحمد حسين فضل الله وصانعي وزاده الخراساني ومحمد سليم العوّا، ولا مع الجيل ‘’العلمائي’’ الصّاعد، أمثال حيدر حب الله الذي كتب قبل أعوام حول الإصلاح الشّيعي واستحثّ القوم على المسارعة في حماية التيارات المعتدلة الشّيعيّة من الغلوّ والتطرّف والتشدّد الشّيعي وغيره، ولكنه جوبه برفضٍ تجاوز التعبير عن الرأي إلى التشكيك في المستوى الدّيني والنقاء ‘’المذهبي’’ والأهلية العلميّة. لا توجد محفّزات ثقافيّة تُشجّع على استقبال فكرة الإصلاح الدّيني داخل بيئتنا الاجتماعية، وليس من سعي مثابر ومُثمر يبذله الإسلاميّون، سنةً وشيعة، ولذلك فإنّ هوساً دائماً يُحيط أي مضمون يدور حول هذه الفكرة، ولو لم يُصغ بعبارة التنوير الدّيني، وإصلاح الفكر الإسلامي، واللوثريّة الإسلاميّة، وغيرها من الصّيغ غير المرحّب بها عند البعض. ولعلّ التردّد الذي يستولي على رموز إسلاميين من ‘’ذوي النزعة الإصلاحيّة’’ كلّما همّوا بطرح فكرة جديدة، وتفنيد أفكار موروثة محلاّة بالقداسة ‘’الرمزيّة’’؛ يُنبئ بحجم الضغوط المحيطة بالإصلاحيّة، باعتبارها ضرورة دينيّة، يحتاجها المشروعُ الدّيني نفسه، وقبل أن تكون مجرّد بهرجة أمام الآخر ومحاولة للتسويق والخيلاء المصطنع.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1253 الجمعة 11/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم