قضايا وآراء

تداعيات التنوع الإبداعي العراق في مواطن الغربة (2-2)

في قوله: "عند الظهيرة يستيقظ النائمون" والصورة في المقطع السابق: "ويقتسمون الغرف" هو إطناب على جهة التتمة والتكملة لما أراد أن يوصل الشاعر للمتلقي ربط الدلالة التامة على المعنى، وإيضاحاً لها في الصورة التالية: "وعند الظهيرة هل يصعد الماء؟ وبهذا يكون قد أدى المقصود الفني للبناء الشكلي والداخلي بآن، وهذا هو ديدن الشاعر عبدالكريم كاصد باهتماماته القيمة بالحرص على البناء كوحدة دلالية على وجهين:

- أحداهما أن تكون القصيده تتحرى البليغ في تأدية المعنى.

- وثانيهما أن يوجز للألفاظ بياناتها، ويكثف من فنيتها في سلة بما يغني من جزالة المضمون، وحلاوة طبقاته الفصيحة.

والقول الذي أود أن أوصله للقاريء الكريم، أن الشاعر حقق للجملة الشعرية المسلمات الفنية واللغوية منجزها الصوتي، فبدلاً من أن يقول: يستيقظ النائمون عند الظهيرة، وهنا ضعف كبير لأن المعنى يميل إلى الأستعارة الغير ملزمة للنص، وفي الوقت ذاته تشكل خللاً لغوياُ. لكنه قال وهو الأصح: "عند الظهيرة يستيقظ النائمون". وهكذا احترزمن الخطأ البنائي في جلالية اللغة، في مطابقة الكلام لتمام المراد من بوح معطيات الحبكة الجمالية. والظهيرة، عنوان للجد والعطاء والقوة، وانتصاب الزمن وفحولته القصوى، لكن الظهيرة في هذه القصيدة شكلت القاسم المشترك بين الخمول، "عند الظهيرة يستيقظ .."، وبين صعود الماء التواتري إلى الأعلى، مع أنه وضع المعنى بصيغة السؤال بالجملة الشعرية الثانية: "هل يصعد الماء" المعطوفة على ما قبلها: "وعند الظهيرة" والواو تقدم هذه الجملة المركبة للملاءمة ولأجله جاز العطف، لا التعليل، لأن تركيب الجملة جاء منسجماً مع فنية التقطيع الجوابي، فوجود الواو نحسبه نافعاً للضرورة البلاغية، كقول القرآن: "يخادعون الله و هو خادعهم" وهذه الصورة القرآنية هي من المتقابلات لغة ومعنىً. وصعود الماء يشكل قلقاً وحيرة للشاعر، ولكي نفهم جيداً مغزى هذا السؤال المحير يجب أن نفهم ظرف القصيدة، تطابقاً نفسياً مع ظروف الشاعر، وهذه أهمية كاصد تجدها في كثير من أعماله: يزرع جوهر المعنى بقلب النواة ويقودها إلى مكان معين في فسلجة النص، ويشتغل على أساس خفق انتظام النبض، ليكمل دورته الكبرى، مغذياً إحساسات المكونات الشعرية، فالاحتمال الأول لصعود الماء، هو الانتظار، قد يرتبط بالحضارة الصناعية إذا أراد لثيمة الصعود المباشرة بواسطة جهاز معين، أما الاحتمال الثاني: وهو الصعود الفيزيائي للبخار وربطه ربطاً معرفياً بزمن الظهيرة، كونها الأعلى في درجة الحرارة، وفي قصيدة: "الفصول ليست أربعة". يدلنا الشاعر إلى وصول درجة الحرارة في زمن الظهيرة، في مكان صبخة العرب بلغت أقصاها في الكون في هذا البيت الشعري: "كادت الظهيرة أن تشعل الحطب" إذن أصبحت المقارنة واضحة بين النار، واحتدام درجة الحرارة عند الظهيرة. فالدائرة الدلالية أصبحت تحكمُ معطياتٌ ساغها الرمز "الظهيرة". إلى مفهوم معرفي يتيح للمعنى نضوج وحدته ومتلاقياته التي بلغت كلَّ غايةٍ في محاورها الداخلية.

 

تنهض الآن وحدك تنقل كفيّك في الضوء

تنقل كفيّك في الظلّ

تفتح نافذةٌ، وتغلق نافذةٌ

ثمّ تسأل كيف؟

كيف أصغيت للغرفات

وهي تنبض بالناس

كيف ارتميت

حزمة من مفاتيح يحملها الزائرون

 

عودة للمكون الإحساسي في ما يشغل الذات في محاولة لإيقاظ العزيمة، من المؤثرات السلبية الناتجة عن القلق الذي يصاحب وحدة النفس، حيث تحوم الآلام في سياق دورتها المعبرة عن اشكالياتها، ولهذ تجد الجملة المفتاح التالية تتكرر: "تنهض الآن وحدك" ولكنها في هذا الباب تصب في سياق يحمل للنص إيعازات مختلفة، وهي تشكل مستويين في الإفادة لمقصود تعدد معانيها وهما:

- المقود الأساسي. للأخذ بالنص إلى التصافي التعبيري بأحكام المتلاقيات القيمية في المكون الشعري.

- خصوبة التوالي الإرهاصي، الحسي، التأويلي، لإتمام خاصية ظنون التخييل، لما تنتجه العاطفة المعبرة عن شاعرية الذات المستمعة والرائية للأحداث.

 

وغير ذلك فالصورة التي عبرت عن قيادتها للقصيدة بأكملها حيث أصبحت النواة التي تشع من فيها التعابير النبيلة، والإحساسات الدافئة، والمعالجات، وهذه الجملة أحالت التشبيه إلى حال الغرف الهابطة منها والنازلة أعمدتها، "للعصافير تسكن اعشاشها في السقوفْ،" يمكنني ان أتذوق حلاوة هذه الصورة المشاعة عند كثير من الشعراء. فالشاعر بدر شاكر السياب يقول: " ذوائبُ سدرةٍ غبراءَ تسكنها العصافيرُ"والشاعر جعفر كمال يتآلف حزنه عن جلالية العصافير فيقول:

"العصافير ، العصافير

سرب المعاني المحملات بالعشق

فرت إلى معالي النجم الأخضر

وحيداً

عدت من الأعشاش اليابسة

وعندما دونت إلى موقد الجمر

أردته دفئاً

ودنوت

فأحنيت أجنحة العصافير."

 وعودة إلى الشاعر عبدالكريم كاصد الذي عبر عن المصير الإنساني بقوله: "كيف أصغيت للغرفات / وهي تنبض بالناس". فالتشابيه الخفية جعلها مقاصد مضمنة بحوائج ساكنيها، والإيلامات التي وقعت عليهم، ومعاناة أبطالها العديدين، المشبه العميق بهم بدون إشارة للأسماء أو حالة الشخوص الموسومة بهذه المكونات: "الصغار، الزائرين، النساء، الجنود، المهاجر، النائمون، الناس."  كون التشكيل الفني ليس تشكيلاً سردياً، إنما هي إيماءات وإشارات وحسيات تتلاقى في معانيها واوصافها مدركة إرهاصات نبوغها، وهذا نحو: "هل قلت: رائحةٌ في الغرف" وقوله: هل رأيت الغرف، كيف تلفظ في الفجر سكانها" وقوله: غرفُ للمنازل تهبط عارية" وقوله: "غرف للجنود المصابين واليطغات" وقوله: غرف للمذابح" وقوله: غرف للمهاجر يُسندُ أحزانه لرصيف".

كل هذه المعالجات حققت نجاحاً موصولاً للقاريء بدون تعقيد أو عنٌ في الصياغة، بل حبكة تتأتى فتنصب متلازماتها بتقدير له مذاقه الخاص في بنية تهذيبها، فالتشبيه الحاصل وهو ضروري وليس تقريرياً كما يظن البعض، وهذا هو منتج إحساسي دافيء، أجلى ما يكون من الوصف المباشر، فالإحياء والإماتَةُ هنا مجاز في الظلم والقسوة، في قوله: "غرف للهياكل مشدودة للمراوح" وقوله: "غرفٌ للمذابح". خاصة وأن هذا الشعر الحسي، هو معبر عقلي، يتساوى مع تداعيات ما يحفظه العقل من ظلم الحكومات العربية لشعوبها في سجون كارثية، وتفننها في تعذيب الإنسان لمطلق حصول رأيه، كالهياكل المشدودة للمراوح، وغرف أخرى تعد للمذابح. وما أكثرها بشاعة وظلماً، وقد حقق الشاعر استدعاء لمآثر ظلم الدكتاتوريات العربية التي أورثت الحكم لأبناء الرئيس، كما حدث في سوريا، والأردن، والمغرب، وحكومات الخليج، باستثناء الكويت. وربما ما سيحدث في مصر، واليمن، وليبيا، وكأن هذه العائلات الحاكمة وحدها هي التي تستوعب قيادة هذا البلد أو ذاك، وما تبقى من الشعوب سوى نعاج تقاد!!

   "تنهض الآن وحدك تنقل كفيّك في الضوء" هذه الصورة الشعرية التي قلت عنها في تحليلي الذي استهل تناول هذه القصيدة، على أنها نواة هذا العمل، بينما نجدها في إيقاع آخر تنهض برقي معانيها وتركيبها الضوئي، تركيباً بلاغياً موسيقياً، فيه الكثير من الحسية النبيلة، ،انظر إلى مركبها الإيقاعي الفني كيف تساوى سلمه الموسيقي بنغمية مطلقة الانسجام والإفادة، قربت من وحدة معاني النص بأكملة، فجعلته وحدة متراصة، وجلية الوضوح في مكونها الحسي الداخلي، المنشور إيقاعه على الشكل بنضوج مثمر ومؤثر وفاعل، ولهذا المقطع من القصيدة قوة محركة للفعل القيادي، الذي يأخذ النص إلى الفصاحة صورة بصورةٍ، ومعنى بمعنى، جعلها مألوفة حازت من اللطافة والرقة ما لا يخفي حالتها عن القارىء، فقوله: " تنقل كفيّك في الظل" صورة وكأنها تطريز للكلمات بوعي أنامل ماهرة، أدت إلى إفادة ومتعة بلا ريب، تتصاهر فيها كل محصلات الإبداع الحقيقي، وكأن هندسة المعاني نزلت من مشكاة دقيقة الفتحات، يطوف في عيونها الإحساس بلاغة محببة، لأن الكلمات الأربعة تنقت فتحاورت، تلاقحت فأنجزت معنىً كبيراً ذا شاعرية متزنة، أعلنت عن حيوية الصوت الهاتف في المكون اللغوي.. فالكفان تنتقلان في الظل كصوت يسموٍ للآخر، عبر مجسات توميء إلى انتظام النبض الإحساسي  البصري.

 

"الاستعارة أرسخ عرفاً في القواعد المجازية" كما عبر عنها: يحيى بن حمزة العلوي. عن كتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني. والسؤال هنا: هل يعد التشبيه من المجاز؟ فإذا كان كذلك، وهذا ما أدافع عنه في شرحي، كون هذه القصيدة حيكت بحكمة الشاعر على بيانين وهما:

أولاً: البيان في الاستعارة.

والثاني: استعارة المحسوس للمحسوس.

كقوله: " أنت أطفأت وجهك بالماء" وملحق الجملة: "في فندق" فالمستعار هو الماء، والمستعار له هو وجهك، وثيمة أنت المتمثلة في الضمير: أنا، كما هو الحال في وجهك، والمعنى وجه أنا، أنظر إلى حُسن ما ذكره من ملائمة تلوح بفلسفة مطعمة بفنية غاية الخصوبة، والمعنى جزل مشبع بالشجن، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبي:

 

وإن جادَ قَبْلَكَ قومٌ مضوا                 فإنّكَ في الكَرَمِ الأوَّلُ

 

"وتوهجتَ في الشرفات". الخاتمة: جاءت أشبه بعرض المتعة الرومانسية المطعمة قليلا بالواقعية المصابة بالخلل، والخالية من عذريتها، بعيدة عن مآثر النص. فلو قال: - والشرفات نأت بعيدة - لكان لتمام المعنى أكثر خلودا للمعاناة التي تداعى بها النص بأكمله: وحاز على دلالة الشرط والجزاء بآن. وهذا يأخذني إلى قول: هيوبرت دريفورس الذي تناول هيدغر بالنقد والتحليل في قوله المشاع: "يحتاج المرء لأن يكون محدداً.

 

و تناولي للشاعر عبدالكريم كاصد الذي حصل في أكثر من إفاضة، في الصحافة الورقية والاكترونية، إنما كونه يعتبر واحد من الرموز المميزة على صفحة إزدهار الأدب الستيني في الوطن العربي، ولأهمية قصيدته المجددة في ديوان الشعر العربي، وخاصة ما تميز به في القصيدة المدورة، وقد سبق لي وأن شرحت مفهوم المدورالشعري في دراسات سابقة عن الشاعر. أما ما نتناوله الآن قصيدة ذات قدر كبير من الأهمية، لما تتمتع به من ذائقة شعرية، وقوة نحوية في مؤثراتها الوجدانية، وبديعها الذي يتسع للعاطفة متعة حسن البيان، وكمال الهيئة شكلاً ومضموناً، لإيعازات تدفق الصور الناظمة لتلاحق الأخيلة، ببصرية العواطف والرؤى والتهيئات، فثمة غناء معرفي، وثراء مدهش في التصوير، وملاحقة الصوت في مساراته الحميمية. أُسَطرَ القصيدة على لوحتي كما هي، ومن ثم أتناولها بالتحليل والمكاشفة ونقدها بالسلب والايجاب،

 عربات الأحلام

 أجلْ ياصغيرتي

أنا ذلك النمسُ الوفيّ

"من يعيد دمي إليّ؟"

أنا ذلك الغزالُ المسحور

اتوسدُ سمائي

وأبكي

أنا تاجكِ الذهبي

وأميراتك الصغيرات

في عربات الأحلام

***

في هذه المملكةِ الشاسعة

سأهديك بيتاً صغيراً

بحجم الكف

في هذه المملكة الشاسعة

ستهدينني شيئاً كبيراً

بحجم السماء

هو أنت

***

كلّما دخلتُ مملكة

بهيئة ملكٍ أوشحاذ

جلستُ إلى نافذة قلبي

وتطلعتُ إلى شرفتك العالية

وأشعلتُ قنديلنا

بالقصص

***

حين تكونين سمكة

سأكون بحيرةً

هل رأيتني؟

حين تكونين طائراً

سأكون هواءً

هل سمعتني؟

***

سأمضي بسلةٍ

وأعود بسلتين

سأمضي بعربة

وأعود بحصانين

ونضحك

وحين نسير معاً

تسير دميةٌ صغيرةٌ

وطائرٌ كبير

يسألنا فلا نردّ

***

إذا ما لمحتني بين سربٍ من الطير

وكنت طائراً

ولم تعرفيني

فأنظري جنحيَ المهيض

***

في شعري

أتسمعين ضربات المناجل في الليل؟

        إنه الحصاد

= = =

من أجل الإحاطة بفهم الخصائص الأساسية للشخصية، المطلوب تناولها، علينا أولاً أن نكوّن رؤية موضوعية عن الأبعاد الثقافية والفكرية التي ميزت هذه الشخصية، وجعلتها في متناول تفكير الناقد،  وقد نستطيع في دراستنا هذه تقديم تحليل موضوعي، آملاً أن يصلنا إلى نتائج مهمة، فيما يتعلق بشعره، وكتاباته القصصية، وترجماته الانكليزية والفرنسية إلى العربية، ودراساته النقدية العديدة، ومحاضراته التي تختص بالأدب والفكر، من المنظور النقدي التحديثي، وشاعرنا عبدالكريم كاصد حقق للشعرالعربي والعالمي آفاقاً ناجحة ومؤثرة في الوجدان الإنساني، وقد أبدع في كشف الأسرار اللغوية بحسب ذائقته الفطرية. وتناولنا لهذه القصيدة ناتج عن أهمية هذا العمل لما يتمتع به من طابع  خاص مستمد من سمات بلاغية متجانسة توكد الأنموذجي الشعري على صفحات الأدب العربي، متنقلا بمعالجة الصوت وجوابه، من لوحة إلى أخرى، موزع على تنظيم فضائي مبني على التواتر الإنسجامي العاطفي، وكل ملفوظ لهذه الوتريات الحريرية تنهض بعناصر تكوينية لتأسيس الخلق الإبداعي، وصلتها المتلازمة لغةً وفناً بالملكة الفكرية، يقول افلاطون: "للألفاظ معنى لازمٌ متصلٌ بطبيعتها أي أنها تعكس: إما بلفظها المعبر. وإما ببنية اشتقاقها" بينما يرى أرسطو "إنّ الألفاظ معنى اصطلاحيا ناجماً عن اتفاق، وعن تراضٍ في بنية النص الأدبي".

وشاعرنا يأخذ ابنته سارة الجميلة، إلى حدائق ومنابع إحساساته الشاعرية، فنجده يحلق بطفولتها وشغفه الأبوي إلى مناخات مقدسة، وحاله يقتسم مساحة الزمن بين الكون وسارة، وفي ذاته يصوغ قلائد الحب البديهي المألوف في كيانه عبر موسوعيته الأدبية، وهو يدخل سارته التاريخ من أوسع أبوابه. شاعر أبهج الشعر العربي بذائقة متفردة باستقلاليتها، وحبكة بناء المتقابلات المعنوية: فالموصوف هي الابنة: "سارة". اما المطابق الحسي الموعز لمؤثرات المعاني الجلالية فهي: القيمة الشعرية، وهذا الإحساس نجده مطابقا لمشاعر تجسدت في الذات التي تمنح اسم الأب للطفلة سارة. من خلال المؤثرات الوجدانية والمعنوية، مرسومة بخصوصيتها التي لا تضع للمشاعر قياساً،ً بل تعطينا تأويلاً حاداً من التواتر النفسي العاطفي عند الشاعر لحظة النظر بوجه طفلته، أو زمن تفاعل الخيال العاطفي في مناجاته لها، والفعل هنا مرتبط بالعامل التكويني للإحساس المكشوف على نفسية الشاعر، من هنا يمكن أن نتساءل عن طبيعة عناصر هذا التلاقي الروحي بين سارة والشاعر، الذي يوحد ويشكل قاسمها المشترك هو الرابط الروحي المقدس، كونه الفاعل المؤثر لجلالية المنطق الإنساني، الذي يعبر عن المعنى الأبوي في المنظومة المجتمعية.

 

تداخلت الرموز في هذه القصيدة فأوحت بشكل بريء إلى المتلاقيات الموحية بالتواتر الحسي والمعنوي. فثيمة " النمسُ " شكلت صعوداً دلالياً للمعنى، بحيث لا ينفصل التصور الذهني العاطفي المجرد من الشكل الخارجي، فكلمة النمس لها معان ومخارج كثيرة ومتعددة، منها الحسن ومنها السيء والرديء، ولكن روح الدلالة عند الشاعر كاصد تتسم بالمكانة التعبيرية التي تهدف إلى القول الدال على ماهية الحد اللغوي، من مبدأ المنظور النقدي الذي يعمل على ثبوت القصد، فالرمز الحسي الذي استخدمه بثيمة النمسُ إنما هو واعز لبنية صوتية تتفرد بها المعاني والأهداف، لأنه رَكبَ الجملة الشعرية لإفادة القاريء بأن مفردة "النمسُ" هي من الفصيلة الحسناء في معانيها، في قوله: "أنا ذلك النمس الوفيّ". أنظر كيف مازج مابين النمسُ والثيمة الموسومة بالوفاء، فألقى بطقوس الدلالة الخصبة في سلة معانيها، وبهذا يكون قد أكمل التميّز عن المقاصد الأخرى للنمس.     

   "أنا ذلك الغزال المسحور"  يستمر الشاعر ينهل من الرمز تغذية للمعاني في جديتها وسطوتها على المتلقي، وهو يقارب الموزون الإنساني لتحقيق: أن الشاعر إنما يغير الشعور ليجعل الآخر أكثر وعياً بما يشعر به، فالأخير قد تكون لدية مشاعر ذات طابع فريد، إلا أنها لا تمتلك الإحساس، وبهذا فهو عديم القيمة، لأنه إذا تبرأ من عاطفته أصبح عديم الذائقة.

تقودني هذه الصورة الشعرية إلى أن الشاعر مستعد لكل شيء يفرح طفلته، حتى لو خرج عن هدوئه المعتاد، والمستحكم عليه أبداً، بينه وبين كل شيء، إلا أن سارة كانت طفولتها تمثل أحد منجزات سلمه الإبداعي، فكل أشيائها الجميلة هي أشياؤه المحببة لنفسه في قوله: "أنا تاجك الذهبي \ وأميراتك الصغيرات" "الدمى" وهنا فهو يكون الواعز الجذاب لفرح الطفلة، وكل هذه المشاعر والمشاهد والانحيازات النفسية نحو البليغ العاطفي، مادة تتساوى مع ضحكة من فم سارة "في عربات الأحلام".

 سأهديك بيتاً صغيراً

بحجم الكف

في هذه المملكة الشاسعة

ستهدينني شيئاً كبيراً

بحجم السماء

هو أنت

 

في هذا المقطع من القصيدة أوجد الشاعر لقصيدته: القلب. حيث تنتظم فيه مزايا النبض موحياً بالفصاحة اللفظية، إلى ما يكون متعلقاً بالفصاحة المعنوية، خالية من الشقوق والانصداع، كما أن المعاني تستمد سياقها من قيمتها وشكلها الفني وطرق وظائفها، وقد تمثلت كل هذه المزايا في المتلاقيين البليغيّن: "سأهديك". و "ستهدينني". والمعنى المعبر عن خلجات الروح هو: "أنتِ" وقوله: "سأهديك بيتاً صغيراً بحجم الكف" وهذا مطابق لما ذكرت لا ينقسم الرمز على معنيين، إنما يساويهما بالمطابقة ما بين عمر الطفلة، وتفكيرها ومجانستها مع الشيء باختيار رفيق سلوتها، وهذا بمنزلة النص من علم البديع، لأنه جعل التفكير يتساوى مع العمر، وبهذا حقق المقصود من ثيمة: "سأهديك". لم ينه الشاعر صورته فتكون ناقصة، إنما عالجها بصيغة المتقابلات، فاراد منها: "ستهدينني شيئاً كبيراً \ بحجم السماء \هو أنت" "مع أني أختلف مع الشعراء بتناولهم للرمز: "السماء" وقد شرحت هذا في الجزء الأول من هذه الدراسة". ولكنه ومع هذا القلق الفلسفي باختيار الرمز "السماء" كمعبر غير وجودي فهو ليس ملزماً بدلالاته عن المنشود المعرفي. إلا أنه من جوانب عديدة حقق للتصاهر الإنساني العاطفي ربيعه البديع.

إذا ما لمحتني بين سربٍ من الطير

وكنت طائراً

ولم تعرفيني

فأنظري جنحيَ المهيض

 ولكي يتم الشاعر قصيدته بنجاح لجأ للحكمة والموعظة بدون تنظير بقوله: "إذا ما لمحتني.." ويجانس معانيها بقوله المبني على عاطفة الأبوة المقدسة: "ولم تعرفيني.." بالتالي يطلق حكمته: "فانظري جنحي المهيض".  انظر كيف توهجت المشاعر واستوت معرفة وحرصاً على شغف القلب، مبتدءاً رفد طفلته بالمعرفة والاتزان التربوي خطوة فخطوة.

 

  جعفر كمال

 

.....................

هامش:

صبخة العرب:

سبق أن نشرت هذه القصيدة ديواناً تحت العنوان أعلاه، لكن الطبعة البديلة التي أعدّها الشاعر تحمل عنواناً جديداً هو "سيرة محلة صبخة العرب".        

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1254 السبت 12/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم