قضايا وآراء

(الوطن ـ الرمز ـ المنفى) في شعر محمد الأسعد

اللحظة التي كان ينبغي أن تستمر إلى الأبد ..

أن الأدب وحده يستطيع أن يوحد ويوفق معا جميع هذه اللحظات التي لا تأتلف في تجربة إنسانية ..الفن الحقيقي هو الفن المنطلق من خلال المسائل الأساسية التي تحدد علاقة الفنان بنفسه وبالعالم الخارجي بما فيه من زمان ومكان ومشكلات وأحداث، وبتجاور هذه الحالات وتعاملها مع العالم الداخلي للفنان يتحدد الموقف الفكري الواضح باعتبار العالم الداخلي المصفاة التي يبلور هذا الموقف وتعطيه هويته وأبعاده .. ليس بالإمكان فصل أي فن عن قضيته كما يؤكد الناقد المجري – لوكا تش – والفن المجرد من القضية هو فن شكلي فاقد المضمون – فن بدون روح – إذ كل موقف يتضمن بطريقة أو بأخرى العالم كله .. لا يعني إننا نعرفه ولكن يعني إننا نعكسه ..إننا نختصره أو إننا نعبر عنه بالطريقة التي كان يتكلم عنها – ليبتز – في التعبير عن العالم ..ووحدة العالم هذا التي نعبر عنها والمواقف التي نتخذها .. هذا ما يحدد أهم ما يوجد في الوضع الإنساني وفي العلاقة بين الإنسان والعالم .. إن الكلمات أذن تناضل ضد الزمن وضد الموت وهي تناضل أيضا ضد الفراق وكما قالت – سيمون دوبوفوار – " كل أديب قد وصل الأدب بطرق مختلفة جدا، ولكنه لم يكن احد ليكتب لو لم يكن قد عانى بطريقة أو بأخرى – آلم الفراق – وإذا لم يحاول بطريقة ما أن يكسره " .. والأدب يصبح مستحيلا عندما نقع في يأس مطلق، ما دام اليأس يعني عدم الاعتقاد بوجود أي ملجأ .. إن الفن الحقيقي هو الذي يعكس الحياة بكل تناقضاتها وصراعاتها وانتصاراتها وانكساراتها وحبها وبغضها وكل مظاهر إبداع إنسانها .. الفن الحقيقي هو الذي يرفض الزيف حول الحياة .. يحدثنا الشاعر عبدا لوهاب ألبياتي في كتابه – تجربتي الشعرية – " إن النفي والغربة إذا ما طال بهما الأمد قد يلقيان بالفنان في رحابة ارض خرافية .. وقد تستحيل العودة منها أبدا، بل إن أشواق الحنين للعودة منها لتبدو ساذجة أمام الأعماق البعيدة التي غاصت إليها روح الفنان .. وقد يظل الفنان يتنفس رائحة الموت الذي هو غربته حتى بعد عودته . من هنا فمن أراد الشعر اختار المنفى وطنا .. باعتبار ذلك المنفى الحالي وطنه المستقبل " .. إذن الشعر هو صورة الإنسان . فالبياتي يرف بجناحيه إلى الالتزام الموضوعي " للإنسان " فمنه يهب الكلمة انفعالها ومنه يحظى بحرارة هذا الانفعال ويحصل على التجاوب المدفون بين ذاته العميقة التي تتخلل أغواره وانسيابه المثقل برزانة الشوق لهذا الإنسان الحقيقي ..

 

تمتد تجربة الشاعر الفلسطيني – محمد الأسعد – منذ مجموعته الشعرية الأولى " الغناء في أقبية عميقة " والتي كان فيها شاعرا غنائيا .. تلك الغنائية التي تجذبك إليها بقوة فهي ذات حيوية مليئة بروح الحركة والأمل .. إلى مجموعته الشعرية الثانية " حاولت رسمك في جسد البحر " والتي يجسد أشعاره بأحاسيس صادقة وبرؤية واضحة للواقع .. والممتدة الى مجموعته الشعرية الثالثة " لساحلك الآن تأتي الطيور " والتي يعبر فيها عن آلم الغربة والفراق والرحيل والصمت والمجسدة بإحساس عميق لمأساة الوجود ...

الوطن الرمـز والحـس التأريخـي ...

يتجسد الماضي بعبقه التأريخي حاضرا وغائبا، صامتا وناطقا، شخصية تنتمي إلى مدينة تأخذ خصائصها وتعيش قدرها، تدمن على دروب الشوك وتتشبث بالأرض وتنظر إلى الشمس والنجوم .. وتعيش زمانها اقتلاعا ونفيا وسجنا .. (سنبدأ – حشد من الطير والزهر والطرقات القديمة يرحل فينا / نقيم كنائس للجسد المستفيق فيأوي الضباب إليها / وتأوي الحقول المبادة / نوصي بما أودعتنا العصور من الثمر الجاهلي / لحشد من النسوة الوثنيات / نموت على العشب والطرقات / يسيجنا آنين وترحل عنا الطيور) ..يعيش تأريخ الأرض وينصهر في نبضها فتمنحه الصبر والوعي والتصدي، يحمل في ذاته عبق ماض رائحته، فيموت واقفا تاركا لغيره ذراعا وظفرا تدفعان من جدول الماء ودوحة الخضرة وظلال زيتون عميق الجذور .. يتحدث الشاعر عن مرارة الرحيل وعسف الأضطهاد ... كثافة الحلم وتضاريس الزمان .. عن ثمن الابتسامة، فأقترن المطر في شعره بكل حبة عرق وقطرة دم وذرة غبار آتية من ارض فلسطين ..

(نسي الشاعر فوق سرير المنفى / أصوات الماء / وبلله المطر الشاحب في المنفى / من اين يجئ الشاعر يا صوت التعب ؟ / من اين يجئ السهر الأبدي / حلمت بانك ساهرة بين سنيني / روضة قداح تزهر تحت الأقمار الثلجية / أغنية / هل تعرف احزانك، صمت البحر) ..

هذه التضحيات متمثلة في بعد الشاعر عن وطنه، فوطنه موجود بداخله على مستوى الواقع والتأريخ والأسطورة والحلم والمستقبل .. وتحمله اعمق انواع الغربة واشدها ايلاما، هي غربة الشعر في عالم الشعر .. (كان يقرأ شعرا كثيرا / ويبكي زمان الرحيل / والرمال النبية / ثم يضحك من حبه المستحيل / ثم سافر .. / قالت تحدث عنه الحدائق / كان غصنا يحن الى اصله / كان حنجرة مغلقة / نصفها يملأ الحلم والنصف تملأه زهرة / البرتقال .../ ) ...

فمن اراد الشعر اختار المنفى وطنا لا بديل له واختار الموت والولادة في نفس الوقت كوجهين لنفس الشيء بأعتبار ذلك المنفى الحالي وطن المستقبل .. هكذا يتسع المنفى ليحتوي واقعا رهيبا، ويختفي صوت الشاعر وراء الصورة الواقعية الرهيبة لتعاسة اللاجئين تاركا للقارئ وحده ليقرر موقفه من هذه المأساة .. من هذه الأبيات نلمس حرارة الجوع والمنفى .. وفي زحمة الرصاص والموت على قمم الوطن يضع الشاعر حدود الوطن القادم في زحمة الأشياء ويحدد ملامح هذا الوطن – العشق – فيفتح بابا للمنفيين .. (ترسمت خطو الزمان اشتهيت تناسخ خطوي / ووجه المدينة زهر النحاس / وليل المدينة شباك حلم وطفل / يقود خطاه النعاس / هو الموت في لحظة / واشتباك الدقائق عبر المنافي /  ترسمت خطو الزمان القريب القريب / سقطت وراء الجدار وكررت موتي / اتدري الرياح بما اودعتها العصور احتميت / من الرعب كانت تمد خطاها الدقائق والضوء / ) ..

وفي شعر " الأسعد " نلتقي بحس تأريخي واضح " فالأسعد " قد دفعته المأساة الى ان يلتفت الى التأريخ ويقرأ صفحاته المختلفة، ولعل احداث التأريخ تقدم اليه اضواء تكشف له سر مأساته .. فالشاعر عاشق لا يودع عشاقه بل يستقبلهم خطوة وطلقة وشهيدا ..

(انصت للشهداء المغمورين يدقون جدار الوطن المفقود طيورا / الهة خضراء / انصت للثورات تموت / وللشاعر يستبدل اوسمة ملكية / بوصايا الأطفال الموتى / انصت للرمل يفيض / يغطي النار / الطرقات / الشجن / الأحداق المبهورة للشهداء / ) ...

وقد بدأ الشاعر متمردا في بعض قصائده .. ويتكامل له تصور عام عن طبيعة الوجود وتنكشف امام عينيه من خلال التجربة المعاشة ..

(لهذي السماء بياض الحجار / لهذا الخضار نشيج / لصوتك دهشة / لين ترحل هذي الدماء / متى يوقظ الأحمر الأخضر المستحيل؟ / لساحلك الآن تأتي الطيور / القواقع / يبني الفضاء ممالكه) ..

 

التفاؤل والإرادة ...

 

من صور الحزن واليأس والألم المسيطرة على قصائده السابقة تظهر الصورة المرتبطة بالأمل والفرح .. يستخدم الشاعر الرموز .. يتجسد الأمل في عودة الأرض إلى الحياة .. انه في اغلب قصائده يبدو مع اختلاف من قصيدة إلى أخرى غنائيا .. ممتلئا بالهموم البيض .. يبدو صافيا دوم قتامه أو تشتت عميق .. إن بعض قصائده يأتي هادئا وخاليا من أيما قلق كبير .. والشاعر حين يستخدم النموذج الأصلي وهو أعلى مستويات الصورة الرمزية يتحدث بصورة أقوى من صوته ويرتفع بالفكرة التي يعبر عنها فوق مستوى الوقتي والعرضي إلى مستوى الأزلي والأبدي .. انه يرقى بالمصير الفردي إلى القدر الإنساني وهذا هو سر الفن العظيم .. كل بيت بمفرده يعرض صورة جميلة الرسم والإيقاع .. فالشاعر إذن يرسم لنا مشهدا مثيرا لانفعال الحزن .. مشهدا يضلله الغناء المتوقع بين لحظة وأخرى، ويشعر إن هذا الانفعال الذي خالج نفسه وهو يعاني هذه التجربة الشعورية ..

(سأذكر ظلا لزيتونة غادرتها الحمائم / نهرا من الشجر الأخضر الآن يرحل نحو البلاد / سأذكر شعب يقاتل كل العواصم / بين الحريق / وبين الحريق / يقيم لأطفاله وطنا / وتفتح أسوارها مدن الله والعشب / يخرج من عتمات الأزقة سيل من الفقراء / أقلت بأنك تأتي؟ / لصوتك طعم الصدى / قادم / ذاهب / جارح / في قرار الفصول) ..

 

من هنا ارتبط الشعر بالنبوة في التراث الإنساني لأن الشعر كالنبوة قوامه الرؤيا التي تنفذ عبر مظاهر الواقع إلى الحقائق الجوهرية في الوجود .. فالرؤيا التي تصل بالشاعر إلى اللامحدود فهي خلق للحقيقة ..  من هنا نلاحظ روح البساطة والعفوية الرائعة التي تفجر فينا شحنات الغضب المقدس وتجعلنا نهتز لصدق العواطف واصالتها، كما تجعل قارئها يحس بجمال اللغة البسيطة الألفاظ والتراكيب وقد احالها الشاعر فنا رائعا ..

(وكان الشعر يحولني / في لحظات الصمت نبيا / يتشرد فوق جسور العصر / وكان الشعر حريقا تتساقط فيه جذوع الأيام / وددت لو اجتمعت كل الأنهار بقلبي / لو عرف القمر الشبحي ممالك اخرى يتألق وجهك فيها ) ..

 

فقد طال الأنتظار .. وقد حان الوقت ان ترفعي عن عينيك ما يحجب الرؤيا فهذه الشمس بدأت تغيب .. فلا تحزني فالحزن يحجب الرؤيا .. وقالوا لك مع شروق الشمس نأتي ومعنا الفرح .. فلا بد ان يأتوا لأن الغروب ليس هو النهاية .           

 

(الليلة تفاح / شجر يتندى في الليل / تعالي / نستيقظ تحت الليل / نفتح نوار الليل / ونحبس انفسنا / ما بين النعنع والليل / قميصك ورد / ورد صوتي / والليل طيور / تستفرد بالنهر النائم ما بين النهدين / وتغوي) ..

ان من تجوز تسميته بالشاعر العربي الحديث هو الشاعر الذي ادرك حتمية ارتباط الفن الشعري بالبناء الحضاري .. ووعى هوية حضارته العربية وعانى ازمة انحطاطها وكان صاحب موقف واضح وراسخ من التحديات التي تواجهها هذه الحضارة .. وابرز مميزات التجربة الشعرية للشاعر هي ابتعادها عن الذاتية المغلقة التي حددت القصيدة الرومنطيقية وانطلاقها للتعبير عن قضايا الحضارة الأنسانية .. الا ان " محمد الأسعد " اكسب تجربته الشعرية الأسطورية بعدا حضاريا واسعا .. وفق منظورات الواقع وتطوره التأريخي ويمثل بالنسبة اليه عالما حيا مليئا بالتجارب والمعاني المكثفة بلغة تأريخنا العربي ...

 

الرؤيـا المستقبلـية ...

 

يؤكد احساس الشاعر " محمد الأسعد " بأن ما اصاب وطنه ليس هو الصورة النهائية والأخيرة للمصير العربي، بل ان المستقبل يحمل مصيرا عادلا يعيد الحقوق الى اصحابها، والشعب الذي سقط سوف يقف على قدميه والظالمون سوف يدفعون الثمن وسوف يكتشفون فداحة خطئهم وجريمتهم ..

(دعينا نثق بالرجوع / فما مر يوم وكان قريبا / أليفا / وما مر يوم بهذا الحنان / وهذا التوحد / ما مر يوم بهذا التساؤل / والحب / ما مر يوم كهذا الجنون الجميل / على طرف الليل / والغمر / حيث السكون الطويل / وحيث اقتراب التوهج والأحتفال) ..

ويبدو " الأسعد " في كثير من قصائده وهو يعيش في المستقبل كما يراه ويؤمن به، ويرى ان هذا المستقبل مملؤ بحلم الحرية والخلاص من كل العقبات حيث انه يرى العقبات والمصاعب والمأساة فينفجر غضبه شعرا عنيفا حارا ..

(كنت احدث عن ايام التعب الأبيض / في الأنفاق السرية / عن شهوات الصحراء الملجومة / احلم انك بحر / يتدفق في خلجان الروح / يمد يديه الي / يتابع احزاني العالية الخضراء) ...

اذا كان " ادونيس " " في زمن الشعر " قد اعتبر الشعر الجديد رؤيا .. والرؤيا " قفزة خارج المفهومات السائدة " تغيير في نظم الأشياء وفي نظام النظر اليها .. فالزمن ليس مفهوما تجريديا بل العكس فأنه الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود، الأشياء الأكثر لمسا .. الزمن هو العامل الجوهري في العمل الفني .. ان الكلمات مواقف .. يتضمن مفهوم الرؤيا اعادة النظر اصلا في هذا العالم .. حينما يبتعد الأنسان عن الأرض بسرعة الضوء فأنه يعيش احداث تأريخ العالم خلال لحظات قصيرة جدا، بالأفتراض الى ان هذه السرعة ستبقى عظيمة ومقتربة من اللانهائي ...

ان البعد الزمني عند " الأسعد " كان الحاضر مع الأمتداد المحدود في المستقبل .. والعد الزمني عند الشاعر كان المستقبل والأمتداد اللانهائي فيه .. من حق القلب ان يبكي متمردا في بكائه وآساه .. لكن الشاعر يستطيع رغم كآبة الحاضر وضياع الماضي ان يمد جسرا الى المستقبل ..

(كالرغبة الأولى التي / تضغط سرا جارحا / تستيقظين ملء صوتي / انه المساء / مطرقة تدق في بطء / غدا.. غدا / غدا .. غدا / الى ان تعجن الذكرى / ويستحيل بعدها البكاء /) ...

 

فغناء " الأسعد " الشعري يرتفع فوق القمم والقصيدة عنده ذات معالم تتواشج فيها المشاهد العديدة، والصور والرمز بكل تفجره ودلالته، كما ان تعامله مع الرمز يرتكز الى وعي يستمد منه ديمومته وحضوره الفعلي فوق الساحة العربية على المستويين الفعلي والشعري ..

 

ان الأحزان الفلسطينية لم تعد احزان الخارجين من البيوت ولا هي احزان المفجوعين بفقدان الوطن بل هي اكبر، اذ انها تكمن في المسافة الفاصلة بيننا وبين انفسنا .. بيننا وبين وجوهنا وقلوبنا وبين عودة العصافير للغناء ..

ان شعر " محمد الأسعد " يتصف بقدر كبير من الصدق الفني الذي يتميز برؤيا حضارية متطورة وبلغة غضة طبيعية ...

يمتلك " الأسعد " تأريخ شعري عريق، سماته الشعرية الخاصة وموقفه الأبداعي المتفرد الذي تستمد منه قصائده المرونة والصفاء والتأجج .. فشعره جزء من التطور الشعري الذي اخذ في الآونة الأخيرة يحتل مواقع شعرية جيدة وجديدة .. واذا كان " مايكوفسكي " قال مرة (الشعوب تعرف ان الحق موجود، وترى اين يقف هذا الحق) فأن " محمد الأسعد " عرف بجدارة وثقة هذا الحق، وعرف كيف يناضل من اجله عبر الحرف والكلمة ....

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1257 الثلاثاء 15/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم