قضايا وآراء

هكذا .. ضمير القصب

تراءى لي وأنا ألتقيه للمرّة الأولى وكأنه أنحدر للتو من سلالة سومر، وقد تأبّط سر الخلود وحكايا الصمود والصبر، حتى أستطالة وجهه وسُمرة بشرته التي يشوبها شيء من الصفرة، هي نفسها التي نراها في وجوه أهلنا عند تخوم الأهوار، وهم السلالة النقية المتبقيّة لحضارة أور، وهي نفسها التي تكسو الرُقم الطينية التي بين أيدينا اليوم .

لا أتذكـّر إن كان يدخـّن أم لا، ولكنّي أتذكّره جيداً رغم مرورقرابة الأربعين عام بأنه نحيف كقصبة، تكاد عظام وجنتيه البارزتين تطغيان على بقية ملامحه، وذو شعر أملس وكثيف يخالطه بعض الشيب، رغم إن عمره أنذاك لم يتجاوز العقد الثالث، وكان حين يمشي لا تُسمع دعسات قدميه على البلاط الخشبي الذي يفرش أرضية المكان، وحين يقدمُ يشيع الطمأنينة والمحبة في رحبة الحضور .

العام كان (1968) والمكان ساحة الوثبة / شركة المنصور وكلاء الدراجات البخارية الأيطالية (فسبا)، وكان هو يعمل محاسباً فيها، ومكتبه يقع في الطرف القصي من واجهة الباب الرئيسي، وهو معروف للجميع ب (الأستاذ عزيز) وقد فهمتُ بعدئذ إنه خريج بلغاريا وقد درس هناك دراسات خاصة في الأقتصاد والأشتراكية، وقتذاك كنتُ طالباً في الكلية أتردّد دائماً على صديق لي يعمل في قسم الصيانة في ذات الشركة، ولم يكن يشغلنا أنا وصديقي غير حكايا النساء وحكايا القصائد وبعض ما تركته فينا الأفكار الوجودية من تأثيرات كانت قد طغت على إهتمامات الشارع الثقافي ذلك الوقت .

وفي يوم دعانا لشرب الشاي في مكتبه .. كان يتحدّث وكأنّ إهتمامه منصرف كليّاً نحونا بينما كان منهمكاً في ذات الوقت في تدوين الأرقام في السجلاّت المحاسبية الكبيرة المفتوحة أمامه .. فجأة أرتسمت على محيّاه السمح إبتسامة خجلى وقال :

ــ هل تعلمان بأنكما أصدق مثالاً للفوضوية ؟! إنكما من أتباع الملعون (باكونين). ثم أتبعها بضحكة تنمُّ عن رغبة واضحة للمزاح والمداعبة البريئة .. تقبّلنا تهمة الفوضوية بكل رضى، وقد فسّرناها خطأً إنها الوجه الآخر للوجودية، ولم نكن نعرف من هو هذا ال (باكونين) !!

كان يعرفُ قدرتي بالرسم وإجادتي للخط .. وفي يوم خريفي من اوائل أيام تشرين اوّل عام (1970) كما أظن، طلبني على عجل، قال لي :

ــ أريدُ منك أن ترسم لي كفيّن يتصافحان وسط دائرة لا يتجاوز قطرها طول شبر. قلت له : تُأمر .. غداً ستكون أمامك .. وكانت فرحتي كبيرة بما كلّفني به .

في اليوم التالي سلّمته الرسم وأنا تملأني الغبطة بما حققتُ .. تمعّن فيه جيّداً ثم ابتسم وقال: أعتقدُ سوف أتعبك بعض الشيء، لأنّي سأطلب منك إعادة الرسم ولكن هذه المرّة تكون الأكف اليمنى هي التي تتصافح وليست اليسرى !! هل سمعتَ أن احّداً يمد يده اليسرى للمصافحة يا صديقي ؟!!

أعجبتني فطنته وذكائه وأرتفع رصيده الأعتباري كثيراً في وجداني وقناعتي، وحين سلّمته الرسم المعدّل في اليوم التالي، طلب منّي أن أخط حول محيط الدائرة هذه العبارة :

 (بمناسبة ثورة أكتوبر المجيدة هدية الحزب الشيوعي العراقي الى الحزب الشيوعي السوفييتي)

بعد أن أنجزت ما طلبه مني وبعد أن كلّف صديقي أن يأخذ التصميم الى أحد الصاغة في شارع النهر ليحوّله الى ميدالية فضية أو ذهبية لست متأكّدا من ذلك، تأكّد لي حينها أن (الأستاذ عزيز) هو كادر شيوعي متقدّم ..

وفي بداية السبعينات وأثناء ما كانت المفاوضات جارية لأقامة الجبهة الوطنية (الخديعة)، وقعت بين يدي بطريق الصدفة النشرة الداخلية للحزب الشيوعي العراقي، إذ كانت مخصصّة للأدانة والأحتجاج على مقتل القائد الشيوعي الباسل (عزيز حميد) تحت التعذيب، والتطرق الى صموده الأسطوري الذي أرعب جلاّديه ...وعند عصر نفس اليوم ألتقيتُ صديقي وكان يبكي بحرقة .. وحين سألته عن السبب لم يقل سوى : راح (الأستاذ عزيز) !!

عندها توقّف لديّ الزمن برهةً، وعرفت لحظتها إن أسمه (عزيز حميد) وهو المقصود بالنشرة .. أسترجعت بسرعة شريط لقاءاتنا ..ثم ..ثم حضر كلكامش وأنكيدو والملك أورنمو ولكش وكل أبناء السلالة الذين أبتدعوا الرقم والوقت والكتابة والعجلة ..وأنتصبت أمامي زقّورة أور، وخيّل لي أن(الأستاذ عزيز) ينزلُ الأن من سلالمها الطينية العالية وهو يفتحُ ذراعيه ويصرخ في الوجود ... ها أنذا قد وفّيتُ .. ويرجع الصدى .. ها أنذا قد وفّيتُ .... وتداعت الأسئلة الثكلى ..تُرى هل ممكنٌ أن تتحمّل قصبة .. قصبة ليس الاّ، كل هذا العنت والرعب والضغط والألم الممض دون أن تتأوّه أو تنكسر ؟!! .. أي ماءٍ طهور قد تشرّب جذرها، وأي هواء أمتصّته خلاياها لترث كل هذه الصلابة ؟!!

أطبقتُ أجفاني لحظات .. ثم جعلتُ كفيَّ يتصافحان .. ودمعتين ساخنتين تركتهما تجفّان على وجنتيَّ .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1261 السبت 19/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم