تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

كتاب د.عمارة.. ونفوذ اللوبي القبطي في مصر

ـ ولم يعد ثمة استثناء حتى رأينا مؤسسات بحجم "مجمع البحوث الإسلامية" تنضم إلى قائمة الخلط بين ما هو علمي وشرعي وبين ما هو سلطوي وبراجماتي يخضع لجماعات الضغط من هنا وهناك.

 

فقد تمخضت الأيام القليلة الماضية عن سابقة لم يحدث لها نظير من قبل، حينما قرر مجمع البحوث الإسلامية ـ وهو أعلى هيئة فقهية في الأزهر ـ سحب كتاب شرعي صادر عنه معللاً القرار بـ "ما فهمه بعض الإخوة المسيحيين" بأن ما جاء فيه "هو إساءة إلى مشاعرهم"!! مشددًا على أن الأزهر يسره في هذا الصدد "أن يستجيب لرغبة الإخوة المسيحيين".

 

ومع تمسكنا بالاحترام الكامل لمشاعر الأخوة الأقباط ، إلا أن هناك عددا من الملاحظات لا مجال لتجاهلها أمام هذا الحدث.. الكتاب صدر كملحق لمجلة "الأزهر" عن شهر ذي الحجة 1430هـ ، وكاتبه هو أحد أعضاء المجلس، المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، وهو  بعنوان "تقرير علمي" كان عمارة قد أعده بناء على طلب المجلس للرد على شبهات منشور تنصيري "يكذب القرآن ويزدري رسوله" تم توزيعه في البلاد تحت عنوان "مستعدون للمجابهة"، لكاتب مجهول، طبعه ووزعه منصرون، وليس عليه تاريخ للنشر أو مكان للطبع، وقد أعد د.عمارة تقريرًا حول الكتاب وعرض التقرير على مجمع البحوث بكامل هيئته الذي اعتمد التقرير وقرر نشره كملحق في المجلة الشهرية، إلا أن الأمانة العامة للمجمع قررت سحب المجلة والملحق معا معلنة أسباب ذلك في بيان رسمي لها.

 

الحدث مثل سابقة فريدة من نوعها: سحب كتاب شرعي صادر عن مؤسسة بحجم "مجمع البحوث الإسلامية"، وأن تعلن هذه المؤسسة أن القرار جاء نتيجة اعتراضات أبدتها الكنيسة.. إذ أن في خلفيات الإجراء ضغوط مارستها جهات كنسية عديدة، ومتنفذين أقباط من غير رجال الكنيسة في الداخل والخارج، ما دفع جهات سياسية وأمنية إلى الضغط على الأزهر ومشيخته ومجمعه الفقهي إلى اصدار هذا القرار وتبريره، من خلال هذا البيان "الكارثي" بما حمله من عذر كان أقبح آلاف المرات من الذنب، وياليتهم إذ فعلوا جريمتهم كانوا فعلوها دونما تبرير، وإن كان تردد أن الجهات السياسية والأمنية المشار إليها هي صاحبة هذا البيان المنسوب قهرًا إلى مجمع البحوث الإسلامية، خاصة وقد أبدى عدد من أعضاء المجمع اعتراضهم على صدور البيان من قبل الأمانة العامة للمجمع دون إبلاغ أعضاء مجلس المجمع.

 

الكتاب بحث شرعي عقائدي، صدر عن أعلى هيئة دينية رسمية في البلاد، كان يهدف إلى الرد على شبهات تتعلق بعقيدة شريحة من شرائح المجتمع، فليس من المعقول هنا أن يُشترط فيه موافقة شريحة تمثل عقيدة أخرى، حتى لو كان الكتاب يتعرض لها، فمنذ خلق الله السموات والأرض وكل أصحاب عقيدة يتعرضون بالنقد لكل ما سواها من الشرائع والعقائد دون أن يُشترط عليهم موافقة من ينتمون لهذه الشرائع وتلك العقائد، كما أن الكتاب جاء في إطار الرد ولم يأت في إطار الهجوم.

 

أخشى أن تكون هذه السابقة تؤرخ لإجراءات ربما يراد لها أن تكون واقعا معمولا به فيما بعد، وهو أن يشترط لأي كتاب يصدر عن الأزهر أو مجمعه الفقهي الحصول على موافقة الكنيسة، خاصة إذا كان الكتاب يتعرض بالنقد لعقيدتها... فحينما تتدخل الكنيسة فيما يجب أن ينشره الأزهر وما لا يجب أن ينشره، لم يبق إلا أن نُعينها رقيباً على ما يحق لنا أن نعتقده، وما لا يحق لنا أن نؤمن به.

 

ومن قال أنه من أجل ألا يقال أن الأغلبية تضهد الأقلية، أن تتحكم الأقلية في كل شؤون الأغلبية حتى أخص خصوصيتها ألا وهي "العقيدة".. ولعله من المشروع هنا أن نتساءل: إذا كان الأزهر بادر من عنده أو بضغوط من هذه الجهة أو تلك بسحب كتاب اعترض عليه الأقباط ، فمن يمنع منشورات التنصير ومطوياتهم وكتابات المتطرفين الأقباط من أن توزع بالمجان في شوارع وأزقة وحواري المدن المصرية؟ خاصة ونحن لم نسمع أن الكنيسة سحبت الكتاب التنصيري "مستعدون للمجاوبة" الذي بادر بالهجوم، من يمنع أنشطة المنصرين التي لا تستهدف سوى البسطاء والمعدمين من الفقراء والمرضى في القرى والنجوع؟ من يمنع كتابات الملاحدة ودعاة الفجور؟ من يمنع الكتابات الوقحة التي تتعرض للإسلام وكتابه وعقائده ولنبيه وزوجاته وأصحابه؟.

 

ولعله من بين الملاحظات التي لا بد من الوقوف أمامها مع هذا الحدث: تنامي نفوذ (اللوبي القبطي) في مصر، وهذه ـ على ما أتذكر ـ الحادثة الثانية التي تدلل على هذا التنامي بعد حادثة تسليم السيدة (وفاء قسطنتين) إلى الكنيسة، فقد أصبحنا بين عشية وضحاها أمام لوبي قبطي، تتبدى ملامحه مع توالي بعض الأحداث الداخلية، وهو ما يهدد مستقبل القرار في هذه البلاد، يتشكل هذا اللوبي من مجموعة من رجال المال، وعدد من متطرفي رجالات الكنيسة، ومجموعة الصبيان المنتفعين في أمريكا وأوروبا المعروفين بـ "أقباط المهجر"، المدعومين من اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة ومن على شاكلته في الدول الأوروبية، أصبح هذا اللوبي من القوة ما مكنه من تحريك أجهزة سيادية في الدولة ناحية رغباته وأهدافه بغض النظر عن المصلحة العليا للبلاد، وما يمكن أن تُسفر عنه مثل هذه الإجراءات غير المسؤلة.

 

والملاحظة الأخرى التي من المهم أن تسجل هنا، هي الانبطاح الرسمي أمام هؤلاء المتطرفين، وهو ما يتأكد مع هذا الإنسياق الأعمى الذي يتجاهل كل القيم والمباديء المتعارف عليها في التعامل مع الأزمات الداخلية من هذا النوع، وهي أزمات لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات البشرية، وليست حكرا على مصر، إلا أن ما يميزنا هي الإدارة الفاشلة لكل أزمة، والقرارات السلطوية غير محسوبة العواقب.. إذ كان على الأقل ينبغي أن تُشكل لجنة مستقلة من العلماء والحكماء تفحص الكتاب وتبدي رأيها في إن كان للمعترضين حق أم لا ، وبما تراه في الكتاب من أخطاء ـ إن كانت ـ ثم تحدد إن كانت هذه الأخطاء تستوجب سحبه، أم يُكتفى مثلاً بالتنويه على ما فيه من ملاحظات من خلال كُتيب أو مبحث تصدره مع العدد القادم للمجلة، ومن ثم فإن أي قرار تتخذه اللجنة من المؤكد أنه لن يجد اعتراضا لدى الرأي العام حتى لو قررت هي سحب الكتاب، إذ سيقتنع الجميع على كل حال بصواب ما تقره اللجنة، أما أن يقال إن الأزهر سحب كتابه لأنه لم يعجب الكنيسة !! فهي لا شك كارثة من العيار الثقيل، وبعيدة المفعول، وإن كان العميان لا يتفطنون لذلك.  

 

ولا يظن المنبطحون أمام متطرفي الكنيسة أن ما يفعلونه يمكن أن يصب في مصلحة "الوحدة الوطنية" أو الحفاظ على النسيج الواحد، بل على العكس إن مثل هذه الأفعال غير محسوبة العواقب هي التي تؤجج المشاعر بين الجانبين، وهي التي تشحن النفوس، وهي الدافع الأول والأخير لحالات التجييش والاستعداء التي نراها من وقت لآخر بين أبناء الوطن الواحد.  

 

المخرج عندي من هذه النازلة، هو التأكيد على أهمية استقلال مؤسسات الدولة، وسيادة القانون، باعتباره المظلة التي لابد وأن تبقى فوق الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم أو من يدعمهم، فمن مصلحة الجميع أن تظل الدولة قوية، قوية بقوة العدالة والانتصار لقيم الحق والقانون والدستور، وعدم التمييز بين المواطنيين، بين فئة مدعومة بلوبي داخلي أو خارجي، وأخرى لا يدعمها أحد، أما ما يجري من استقواء على الدولة بجهات من هنا أو هناك فهو خطأ جسيم ينبغي تداركه.

 

نشر ثقافة التسامح بين مكونات المجتمع، خاصة وأن مصر تسع الجميع ولم تضن على أحد من أبنائها، والتعايش على أسس من الاحترام واعتراف كل طرف بالحقوق الشرعية للطرف الآخر، ومن الضروري أن يأخذ العقلاء على أيدي المتشنجين أمام كل ساقطة ولاقطة، إذ أن حالات التجييش والاستعداء بين أبناء الوطن لن تأتي بغير الكوارث على الجميع... ومن الضروري لجم الذين يتربحون من اشعال الحرائق (أصحاب المال، ومتطرفي الكنيسة، وصبيان المهجر) وعلى رأسهم أمين الصندوق نجيب ساويرس، الذي لا يكاد يمر يوم حتى يطل علينا بطلعته غير البهية يتحدث عن المادة الثانية من الدستور، أو عن مخاوفه من انتشار الحجاب في شوارع القاهرة، أو لكي يهاجم الإخوان وحكومة حماس في غزة، صاحب الإمبراطورية الإعلامية المتخصصة في نشر ثقافة الكراهية والضغينة بين المصريين، من خلال ما تبثه قنواته وصحفه من مواد وما تتحدث عنه من حقوق للأقليات من أجل تمرير أهدافه الطائفية في البلاد.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1261 السبت 19/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم