قضايا وآراء

(سواقي القلوب) .. إسهامة فــي تـــأصيل الحنين

تعكسُ هذا الأرتباط الوثيق بينها وبين المكان الذي وعت ونشأت وعاشت فيه، وتؤكّد على سطوة المحلية على عقلها كروائية، حتّى أن الكثير من المفردات العامية التي يشتهر بها أهل الكرّادة الشرقية، لم تغب عن بالها فأستخدمتها وكأنّها ضرورة ليس لها ما يقابلها في اللغة الفصحى مثل (حنقباز، خَبنوها، أكلت بعقلي حلاوة، طركاعه، الأوادم، حبّاباتي، أولاد الخايبة، طيحان الحظ، وغيرها الكثير) وكانت موفقّة في ذلك، حتّى عنوان الرواية، فقد تحايلت على العاميّة (الكلوب سواجي) فهذّبتها لتصبح (سواقي القلوب) .

إن أجواء الحريّة التي وفّرتها باريس، أزاحت عن كاهل الكاتبة ثقل مسؤوليّة الكلمة المذعورة المنتقاة  بحذر التي حملته معها وهي تغادر نظام القمع في بغداد، فبدت في روايتها هذه أكثر تحدّي في إستخدام المفردات المنفلته من السياقات المتعارف عليها أخلاقياً كالشتائم الجارحة والماجنة أحياناً (إبن القندرة، قوّاد، الزعطوط الأدبسز، إبن القحبة ....وغيرها ) رغم ما عرف عنها من جرأة حتّى حين كانت تعمل صحفية في جريدة الثورة ! .

(سواقي القلوب) رواية الأنسان العراقي المهزوم والمرتاب والضائع والحائر الذي ساقته الأقدار الرعناء الى أن يجد نفسه في بلاد المهجر بلا موقف وبلا تأريخ، يجتمع في يقينه ال (الضد) وال (مع) في ذات الوقت، مّما جعله في حالة خصومة مع ذاته ومع المحيط، إذ انتقت الكاتبة شخصياتها بعناية، فمنهم الشيوعي الذي خسر مثاله العظيم بين ليلة وضحاها وظلّ وفياً الى الآيديولوجيا دون سند على أرض الواقع، والبعثي الملتزم فكرياً والناقم تنظيمياً والمفجوع بأخيه الذي راح ضحية من ضحايا الحرب، ورجل المخابرات الدبلوماسي الذي وجد في هزيمة العراق في الكويت، فرصة سانحة للهروب والأختفاء، والمرأة العراقية العجوز أرمنية الأصل التي ظلّت محتفظة بحفنة من رماد جثمان زوجها عالم الآثار الفرنسي الذي ينحدر من طبقة النبلاء والذي قضي فترة طويلة من عمره العملي في التنقيب ودراسة الآثار في بلاد وادي الرافدين، والذي فشل في الحصول على الجنسية العراقية ومات في باريس بعد يومين من ترك العراق والأقامة في فرنسا، لتذروها على التراب العراقي بعد أن قررّت في النهاية أن تختار وطنها الذي أحبته رغم كل عذاباته لتموت فيه، وآخرها (ساري) الخنثى الذي تحوّل نتيجة عملية تجميلية الى (ساره)، وهي الشخصيّة المحورية كما أعتقد في الرواية، فهي تمثّل الرمز والدلالة على ما أصاب الذات العراقية من دمار، وما مرّ بها من تحوّلات جذرية إنقلابية راديكالية التي أستهدفت قناعاته حيث إنحرفت بحدّة عن مساراتها لتصل الى النقيض، وادّت بالتالي الى حصول الردّة الحضارية الخطيرة التي نشهدها اليوم ... الاّ أن (أنعام) أنهت حياة هذا الأنسان المسخ الذي هو (ساري وساره) في نهاية روايتها بطريقة رخيصة ومجهولة، لتنهي بذلك أي إحتمال لبقاء الحياة الشاذّة عند الأنسان العراقي، ولتفتح باباً للأمل يكون فيه البديل النقي هو الذي سيحل في قابل الأيام محل إنسان اليوم .

لقد نجحت الكاتبة في أن تلعب دور الرجل الراوي، وأن تتوغّل عميقاً حتى تصل الى أكثر خصوصياته التي تجري في السر  وتقترب كثيراً من شهواته وسعيه للحصول على لذائذه ومبتغاه من المرأة الحلم، ممّا يدلّل على خبرة ودربة حياتية أكتسبتها الكاتبة من وجودها في باريس الحرية، إضافة الى حب الفضول الفاضح للتلصّص على عوالم الرجل الخفيّة، وهذا يُحسب بأعتقادي لصالحها خاصة وهي روائيّة همهّا أن تنقل الواقع غير المرئي وغير المكشوف والمتوّقع والمألوف .

رواية (سواقي القلوب) ..إدانة واضحة لسياسة الحروب التي أنهكت مقاومة الفرد العراقي في مواجهة المحن، وعززّت لديه شعور اللاجدوى واللاأنتماء، ورسّخت في يقينه أن الأبتعاد عن الوطن يقيه خطر الهلاك ويمنحه فرصة جديدة للحياة، الاّ أن الكاتبة أصرّت على ان تجعل أبطالها في خاتمة الرواية يعودون الى الوطن وهو في أسوأ أزمانه وهو زمن الحصار، وهي بذلك قد رفعت صوتها عالياً ليسمعها جميع العراقيين في الشتات .. إن العودة الى حضن الوطن هو خاتمة المآل ونهاية المطاف .

 

وائل المرعب

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1266 الخميس 24/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم