قضايا وآراء

قراءة في رواية "الأيام الحافية" لنصربالحاج طيب

أما صورة الغلاف الخلفي، فهو لمصحف مخطوط من القرن التاسع عشر على ملك عائلة المؤلف. وهذه الرواية أقرب منها للسيرة الذاتية من أي صنف قصصي آخر. تبدأ أحداثها في سنة 1958 وتمتد على السنوات الموالية، وتدور هذه الأحداث (فصل 1 إلى فصل 14) في منطقة دوز ولاية قبلي  حيث تظهر بيئة صحراوية متسمة بقساوة الطبيعة والفقر، وسط نمط عيش ومعتقدات آيلة للإندثار، مع رغبة في التجدد والبقاء، كما تنعكس من خلال انتشار التعليم الحديث بين الصغار. وتتركز أحداث الرواية على شخصية "عبدالله" الصبي الواعي بالتحولات الواقعة حوله، والراوي للأحداث الملتصقة بوعيه لوجوده وللتحول في المكان الذي فرضه عليه النجاح في الشهادة الإبتدائية. وقد تعمق الكاتب في وصف هذه البيئة الريفية الصحراوية ناقلا أنماطا من الشخوص الاجتماعية المتميزة بطرافتها وبالتصاقها ببيئتها.

 

وعند تحول الشخصية الرئيسية إلى المدينة، تبرز التباين الحضاري الواضح والحنين للأهل وذكريات الصبا. وقد نزع الكاتب نزعة تصويرية تحليلية تغلب عليها التسجيلية لرصد ملامح العيش، كما عاد بالقارئ من خلال ذكريات تلك الشخصية الأساسية إلى الأحداث البعيدة التي وعتها ذاكرتها لتقديمها بكثير من التفصيل في نقل الأحداث والمشاعر وفق تمش جعل الرواية تظهر في شكل وثيقة اجتماعية متميزة.

 

تحليل مكونات الرواية:

يقوم الكاتب في الفصل الأول من الرواية برسم "التطبيع الاجتماعي" للبيئة التي يتحدث عنها، فهو لا يصور شخصية عبدالله كوجه من ذلك المجتمع الضيق في قرية دوز بل يتعرض بالتحليل لدوافعه وحاجاته، محاولا تجذيره في تلك البيئة الصحراوية المتسمة بقساوة برد الشتاء وإلحاح ذباب الضحى وتفشي الفقر بين المكان من خلال عدم توفر الكساء والجوع. وهو يصف أيضا العديد من الشخوص الاجتماعية الأخرى في هذا الوسط الشعبي، ك " سلمى المجنونة " و" إبراهيم الخماس " وهو ممتط حماره و "علي الطويل" وهو شيخ في السبعين و "عم الطاهر" الذي يخشاه الصبى لسطوته، وتبدو كل هذه الشخوص من خلال نظرة الصبي وشقاوة الطفولة التي تميز تصرفاته، مما يجعله ينشد الأمن في خضم واقع لا يوفر له إلا قهر رغباته وصده عن بعض لهو الصغار " فتولد لدى الصبي شعور بالقهر ونزعة صادقة للبكاء " ص14

 

أما في الفصل الثاني فقد ركز الكاتب على شخصية "بنت القط" التي ينظر إليها باعتبارها مصدر العين الشريرة الحاسدة ليقدم تبريرا اجتماعيا لمرض عبدالله بعد أن تناول قطعة الجبن الفاسدة، وفي ذلك التفاتة إلى المعتقدات الشعبية والتفسيرات الغيبية لما يطرأ على أفراده من أمراض وتحولات. و"العين الشريرة" كما هو مبين لدى " ايفانز ريتشارد " ضرورة ثقافية لتفسير ما يلم بالمجتمع من مصائب وللحد من تأثيرها على النفوس. وقد أمعن الكاتب في تصوير " بنت القط " لكي يبرزها في صورة تبعث على الخوف والرعب. فقد حيكت حولها حكايات غريبة لكي يتأكد من شأنها اعتقاد " لا تصيب عينها إلا الذكور " ص 22.

 

ولا يفوت الكاتب أن يفرد للتعليم في هذه البيئة مجالا واسعا من هذا الفصل وخاصة التحول من التعليم التقليدي عند المؤدب إلى المدرسة، وهو يبرز ذلك من خلال مواقف الصبي الذي يرفض الذهاب للكتاب نظرا لما يلاقيه من لدن المؤدب من عقاب. وفي المقابل نجد نظرة الجد الذي يرى في التعليم العصري انعكاسا سلبيا على النشء الذين تقلص شعورهم بالانتماء إلى ثقافة الصحراء التي مكنت الأجيال المقيمة من تلك المنطقة بمواجهة مصاعب العيش وتحمل المشقة والقدرة على الترحال عندما يقتضي الأمر ذلك: " المدرسة افسدت أولادنا، لن يعرفوا معها الصحراء والإبل والنخيل، منعت عنا خيرات البادية " ص69. وبذلك يبرز الكاتب تغيير نمط التعليم من انعكاس جذري على تركيبة المجتمع البدوي الذي اختار الحديث عنه وكيف أن ذلك قد تسرب إلى جوانب أخرى من النظرة الحياتية لهذا المجتمع وتطلعاته إلى آفاق أخرى.

 

في الفصل الثالث يتم اصطحاب الأم "مباركة" إلى العجوز "مبروكة" والأسماء هنا مقترنة بالبشرى وتدل على الإقبال على الفرح، وتحرير الإنسان من الشر. فالكاتب ينطلق من من موقف أنتربولوجي للعلاقات التي تبرزها الممارسات والمعتقدات سعيا منه لإبراز نسق التفكير الاجتماعي من خلال أحداث الرواية، فهو يعنى بتصوير الحركات ووصف الأمكنة وكل ما يصدر عن الإنسان لتفسير الأحداث التي يتعرض لها: " ناولته أمه مغرفة خشبية كبيرة بنية اللون، كانت العجوز تتحسس الأرض بحثا عنها. لوت في حركة بطيئة العصابة على رأس المغرفة، ووضعت الكل على أعلى بطنه وأسفل صدره " ص27.

 

وفي الفصل الرابع يبدو التفكير الاجتماعي مقترنا بالنظرة المشتركة للكائنات، ويتخذ الكاتب من مقومات تلك البيئة أمثلة هذا التفكير الاجتماعي " فالتيس الفحل ليس ذلك الضخم العالي كالحمار والذي تربى في بيت يسر وخير، يأكل التمر والشعير " ص39.. فالتمثيل بالحيوان هنا جاء نظرا لتوفره في تلك البيئة واستغل الكاتب جانب الطرافة في الموقف ليتخذ منه حدثا يفتح أعين الصبي على الوعي بالبعد الجنسي في تصرفات الإنسان: " قضى التيس ليلته يغير طبقات صوته من الرقة إلى الخشونة، من الحنان إلى العنف. كنت أسمع عن بعد ركلات ساقيه في تلك الليلة استبد بي سؤال: ما الفرق بين التيوس والرجال ؟ " ص42.

 

وقد استغل الكاتب وضع المرض الذي مر به عبدالله لكي يتخذ منه تبريرا لوعيه الوجودي بأشياء عديدة في واقعه، فقد ألمت به أسئلة وجودية عديدة على إيقاع الأم عند تماثله للشفاء، فهو قد أدرك التنظيم الاجتماعي الواقع ضمنه، ولماذا كان يكلف بالقيام بأشياء لا يقوم بها الكبار، وخاصة في مواقف تتطلب منه الجهد والمعاناة كما لو كان الكبار غير واعين بذلك. وهو عندما ينظر إلى المجتمع من حواليه، يكتشف تلك الكآبة والبؤس الذين يسمان كل ملامحه: " أحس رغبات ملساء تتلوى في كيانه كحيات رقطاء أليفة وسرعان من اشتد به الشجن ووخزه داخل فراشاته وداخل حياته الرقطاء الأليفة، فتساءل رغم صباه: لماذا كل ألحاننا حزينة متمددة المفاصل تستمد أوزانها من وقع خطوات الجمال التي أيقنت بحدسها أن الطرق ما زالت طويلة وأن الحادي تعب ويوشك أن ينام. أمام الجمال وراكبيها متسع من الصبر المغموس في العطش والجوع والألم، ولكنها رغم ذلك شجية " ص50

 

خصص الكاتب الفصل السادس لاستعراض الأنماط الثقافية المميزة للمنطقة واختار لذلك وصف القرية يوم السوق الأسبوعية، لما يمكنه من استعراض تنوع الألبسة والسحنات والتصرفات. فهو يبدأ بوصف عبدالله لوالده وهو يتهيأ للذهاب إلى السوق، فقد قام " بتعطير الشاشية ولف الحولي بملاية قديمة لكي يذهب به إلى سوق اللفة حيث سيباع الحلي في ذلك اللحاف الصوفي الحنون " ص52. ثم فصل أوصاف الأزياء النسائية ( ملايات النساء ومراول فضيلة ) والأقمشة الزاهية الألوان ودبابيس الشعر والمرايا وقوارير العطر، ثم خص بالوصف الأطعمة والسلع المعروضة في السوق، فتوقف عند "البيون" (مرق الحمص) وكلاب البحر المجففة والوزف (صغار السمك المجفف). كما أفرد للمعتقدات مجالا، مركزا على التمائم التي تبعد الأذى وتحمي الفرد من العين والشر.

 

وهذه النظرة المتكاملة للجوانب الثقافية الاجتماعية التي تصدر عن الكاتب تنعكس من خلال نظرة الصبي إليها عند وعيه للأشياء من حوله، فتبدو غير متكلفة، ولكنها في نفس الوقت وثيقة أتنوغرافية عن المرحلة التاريخية التي يصفها الكاتب من خلال أحداث روايته. ويستغل الكاتب هذا الوعي بالأشياء لكي يقدم شخصية متفاعلة مع ما يحيط بها فيقف القارئ من خلال ذلك على نمو الشخصية وتحولات وعيها بالأشياء: " لامست أصابع قدميه حافة بساط سميك تكدست فوقه الكتب. لاحت الحروف كفراشات تحط على صحراء معشبة. بهرته الكتب بحروفها.. رسخ في أعماقه منذ الأيام عشق مجنون للحرف العربي وما يمكن أن يحبل به هذا الحرف " ص54.

 

هذا الطفل الذي يشعر بالحاجة لاستمداد الخبرة من العالم الخارجي، سرعان ما يكتشف أنه يكبر بنسق أسرع مما يتهيأ لأقرانه، وذلك ما يجعله يقيم أحداث واقعه وفق منظور جديد، وبعض تلك الأحداث تجعله أكثر وعيا بالتحولات الطارئة على إدراكه. فهو عندما تعود به ذاكرته إلى حادث موت "معيوفة الرقطاء" التي ركلها جمل فحل فماتت، كما جاء ذلك في الفصل السابع: " أحس الصبي ليلتها أن صفحة من كتابه قد طويت ثانية وأن فترة من العمر قد ولت بالفعل " ص61.

 

و "معيوفة الرقطاء " نموذج للشخوص الاجتماعية التي انطبعت في ذاكرة الصبي بشكل يصعب انمحاؤها منها حيث يصفها الكاتب باعتبارها " درويش القرية " تبعث فيها الجلبة وتستقطب اهتمام الأطفال النزقين " ص60 

 

وفي الفصل الثامن تظهر بوادر وعي الصبي بطبقة المجتمع الذي يعيش فيه وتتمحور أسئلته حول الفرق الشاسع ما بين الأغنياء والفقراء، ويجد نفسه وعائلته في صميم بؤرة الفقر: " مر بخيال الطفل سؤال أحسه ملحا: ماذا يحدث لو وضعنا غنيا في كفة وفقيرا في الكفة الأخرى ؟ " ص 64. مثل هذا التساؤل و " لم يدرك لماذا أخذت بعض العائلات الفقيرة نصيبين لعائلة واحدة بينما أخذت بعض العائلات الفقيرة نصيبا واحدا لعائلتين " ص78. وهو لا يجد من حل لمواجهة الحيف الاجتماعي وتفاوت الفرص إلا في تخزين تلك المفارقات في ذاكرته لتصفية حسابها في الرواية، ويتخذها الكاتب مبررا لدفع تلك الشخصية لمزيد التعلق بالتعليم عساها تكتسب بذلك وعيا اجتماعيا أفضل تخرج به من بؤرة الفقر والشظف.  وهذه المقارنة الاجتماعية يعود إليها في الفصل السادس عشر عندما يتحول إلى المبيت ويتفطن إلى الفروق الكبيرة في اللباس والأثاث المتوفر للتلاميذ بحسب أوضاعهم الاجتماعية، وينتهي من تلك المقارنة إلى أن الوضع السيء الذي يجد عليه نفسه يجب أن يكون دافعا له لكي يصل إلى حياته إلى التخلص من الفقر والحاجة، وذلك ما لا ياتي له إلا بالنجاح في الدراسة.

 

 في الفصل التاسع يعمل الكاتب على وصف حياة المجتمع الذي تميز بالخصاصة وشح المياه في الواحة مما أوجد وضعا اقتصاديا عانى منه الجميع، لكن ذلك لم يؤثر على مواقف التكافل الاجتماعي والانتماء إلى العشيرة. كما يتعرض الكاتب لبعض التحولات التي عرفتها القرية ويقدمها من وجهات نظر متباينة أحيانا كهذا الموقف من توفير مياه الشرب: " قبل مجيء الحنفية كنا نشرب ماء الغدير الزلال الذي ينزل من السماء، لا أدري إن كنت سأتوضأ بالماء أم بالجافال. لم يأتنا من هذه الحنفية إلا الهرم وكسل العجوز وأبنائها " ص92. وذلك بعض ما بقي من وجدان الكاتب وهو يسترجع ذكريات تلك المرحلة التي خلفت ذاكرته، الندوب وبعض المشاعر الجياشة التي يعبر عنها وهو يعود إلى الواحة بعد سنوات تتقاسمه مشاعر متضاربة بين الحزن والفرح: " لها وجهان (الواحة)، وجه مزغرد تراه فيحضنك وأنت تدخلها من عرش العبادلة يوم جني التمور مع الوالد والوالدة، ووجه كئيب جنائزي تستجير به فيتخلى عنك وأنت ترى رجالا يدفنون أحد الوالدين " ص75.

 

والوجه الجنائزي يقترن دوما بتلك الأحداث المؤلمة التي وعتها ذاكرة الصبي، كما كان ذلك يوم رأى النسوة وهن يبكين ويولولن إثر موت جمل " محمد المرزوقي". فقد كان ذلك الحيوان سند العائلة لحمل أدباشها عند جر المحراث في الخريف وجلب الحطب والفحم والماء. والعلاقة وثيقة بين الحيوان والإنسان في هذه البيئة الريفية التي قد يكون فيها الحيوان بمثابة أحد أفراد العائلة تحزن لفقده كما لو رزيت في أحد أفرادها، وهو جانب لا يفوت الكاتب التأكيد عليه.

 

في الفصل العاشر يرصد الكاتب بوادر التحول الإيجابي في حياة القرية وفي حياة الصبي عبدالله، ففي ذلك الخريف كانت أعذاق النخيل ممتلئة والموسم تباشير نعمة، ودخول المدرسة تخلص نهائي من عصا المؤدب وكذلك ارتداء للقميص والتبان وهو مظهر اجتماعي ويعني في ذهن الصبي أكثر مما قد يكون في حياة الأطفال العاديين. فهذا التحول في المظهر هو في الحقيقة في ذهن إبن السادسة إدراك عميق: " بأن شيئا ما يحدث حوله، وأنه مقبل على الإمساك بمعول الخلاص المنغرز في ضلوع الجدب المترامي الأطراف " ص80. وهذا التحول سيكون حدا فاصلا في إدراك الطفل ونظرته للحياة، وهو الحد الذي لا يمكن للماضي بعده إلا أن يكون ماضيا وللمستقبل أن يصبح مغامرة. هو باختصار بداية للمغامرة الوجودية التي تضع موضوع وأحداث الرواية كما يقدمها الكاتب بعد أن انفصل عن تلك البيئة سنوات ليعود إليها كالزائر الغريب من حين إلى آخر.

 

خصص الكاتب الفصل الحادي عشر لوصف ذكريات مرحلة التعليم الابتدائي مركزا بشكل خاص على ما اقترن به التعليم في تلك المرحلة في ذهن هؤلاء الصبية من جدية وتعلق، فهم " اعتقدوا جازمين بأن الدنيا رجل أعمى يقوده التنوير وأن الكون من حولهم في أشد الحاجة للمعرفة " ص83. ويكون كل شباب الجهة يحلم بالدراسة في المعهد للالتحاق بالمبيت، ولكن مثل هذا الحلم يبدو في نظر من لا يؤمنون بجدوى الطموح محدود الفائدة كما ينعكس ذلك من موقف ساعي البريد الساخر: "منذ تحصل أبناؤكم على الشهادة والسيزيام وانتم تلهثون ورائي. من قال لكم إنهم سيقبلون في المبيت؟... ماذا سيكونون؟.. أعوان حرس أو موظفين صغار في الإدارات؟.. لن يحملوا الأسد من أذنه.." ص 102. وفي هذا الفصل يسعى الكاتب لإعادة تقديم التحول الذي تسبب في ترتيب مغاير لقواعد الحياة الاجتماعية على أساس التعلم وتكيف طبيعة المجتمع مع هدف التحرر من الجهل، مع ما صاحب ذلك من تحول في التركيبة الاجتماعية وفي الانقطاع عن حياة البداوة باعتبارتها مناقضة تماما والوضع المنشود.

 

خصص الكاتب الفصل الثاني عشر لمرحلة المراهقة في حياة الصبي التي تنفتح على الأحلام الكبرى في حياته والمتمثلة في المرأة وفي الالتحاق بالمبيت. وفيه تتضح صورة المرأة في الواقع المعيش في شكل الفتاة الملتحفة التي تكون تملأ الماء من الحنفية العمومية وقد تم توفير المياه الجارية للقرية. وأمثال تلك الصورة للمرأة الملتحفة كثيرا ما تغمر أحلام الصبية المراهقين لكي تتفرع إلى صور أكثر إشراقا وانكشافا على ما تحت اللحاف، وفيها كفاية لإراحة الخيال وسد عطش المراهقة، وتقترن صورة المرأة بالصحراء فتشكل من خلال أوصافها كل ما يسكن وجدان ذلك الجيل الذي عاش الحرمان الوجداني: " الصحراء امرأة يشتهيها الزمن فلا يدركها، يتزين أمامها مغيرا فصوله عندما يعجز عن دك أسوارها، لعلها ترضى. هذه المتجبرة الحانية، اللينة، القاسية، القاحلة اليانعة، المانعة الواهبة، اليابسة الندية، الحارقة الودود "  ص91.

 

أما الفصل الرابع عشر فخصصه الكاتب لانتظار وصول رسائل الالتحاق بالمبيت، وهو حلم جماعي يشغل كامل القرية بكبارها وصغارها: " كن رجلا يا بني، تعليمك هو تركتي الوحيدة بعد موتي " ص106. إلا أن التوجس من الفشل يمكن الكاتب من التوسع في وصف المشاعر والاختلاجات لكي يجعل منه دافعا على التصميم الصادق على المضي قدما في الحياة.

 

وفي الفصل الخامس عشر تنفتح الغربة أمام الصبي وقد انتقل إلى المبيت ويصبح الماضي أكثر حضورا من خلال الذكريات والحنين، ولا يجد العزاء إلا في بيت الولي بالمدينة خلال عطلة نهاية الأسبوع وإن كانت تلك الزيارة لا تعوض شوقه إلى الواحة والأهل ولكن " عندما تفقد نخلة تضم سعفة، وعندما يغيب كثيب تكتفي باحتضان حفنة تراب وعندما تغيب أمك تسد ثقوب وجدانك بغطاء رأس امرأة تشبهها " ص125. ويصبح الحنين هو الشعور الطاغي الذي يطبع مواقف شخصية الصبي في بقية فصول الرواية حتى الفصل 18. بحيث يجد في الذاكرة رصيدا من الصور والمواقف التي تعوض الحرمان والفقد الذي يعاني منهما.

 

فبناء هذه الرواية على درجة كبيرة من الوضوح والبساطة إذ تنطلق الأحداث من تصوير البيئة القروية الصحراوية لموطن الصبي الذي قد يكون هو نفسه الكاتب أو الشخصية الاعتبارية الممثلة لجيله الذي عاش في طفولته السنوات الأولى لما بعد الاستقلال وما اقترن بها من تحولات اجتماعية. ثم يتمسك الكاتب بشخصية الصبي هذه لكي يعرض من خلال نظرته بعض شخوص ذلك المجتمع المتميزين بتفردهم وحضورهم في ذاكرته، وهو يجعل من التحولات  الكبرى في حياة هذا الصبي مفاصل الأحداث في الرواية ولقد اختار لذلك موقفي دخوله إلى المدرسة العصرية ثم  موقف تحوله في مرحلة موالية إلى المبيت. وقد حافظ الكاتب على الصلة القائمة بين هذه الشخصية والقرية من خلال الحنين والذكريات إلى أن يجد في حياته حدث آخر يبدو أكثر أهمية من غيره وهو وفاة والدته مما يجعله يعود إلى القرية عودة الزائر الغريب الذي ينظر إليها بعينين تختلف عما اعتاد أن يراها عليها من خلال ذكرياته وفي النهاية يفضل أن يحتفظ لنفسه بصورة القرية كما وعتها الذاكرة وفي ذلك رفض منه لقبولها بما طرأ عليها من تحولات، لكي يكتشف في النهاية أنه لخص مراحل حياته لكي يتبين من خلال الرواية قيمة الذكريات التي مازالت قائمة في الذاكرة وموقعه من الزمن الذي يدفعه إلى الشيخوخة.

 

الرؤية في الرواية

تبدو الرؤية في الرواية على درجة كبيرة من التحلي بمواصفات الواقعية، فهي تعرض لأحداث مقترنة بمرحلة زمنية واضحة المعالم سواء في حياة الشخصية المعنية  بالأحداث أو في حياة المجموعة المعايشة لها. فالهدف من الحكي هو في النهاية التعبير عن جوانب من مخزون الذاكرة الشخصية للكاتب الذي تنطبق شخصيته في ملامحها على الكثير مما جاء في شخصية الصبي المعني بالأحداث في الرواية. وليس بالمهم جدا أن تكون الرواية سيرة ذاتية للكاتب أو للجيل الذي ينتمي إليه بقدر ما هو مهم أن يجد فيها القارئ جوانب قد تعنيه في أبعادها الاجتماعية والتحليلية. وهو ما يتوفر في التحولات الاجتماعية التي استقطبت المكان والشخوص في الرواية وارتبطت بتحولات المجتمع التونسي بعيد الاستقلال. ولقد كان للشحنة العاطفية التي حملها الكاتب لأحداث روايته ما يقربها كثيرا في أبعادها الإنسانية من تلك الآثار الأدبية التي تمس الوجدان البشري بشكل عام.

 

وقد اعتمدت الرواية تقديم وجهة النظر خاصة جدا بالكاتب من خلال تفسير الأحداث وتصوير الواقع المحكي والتقديم الانتقائي للشخوص. والرواية ترشح بعديد المواقف الشخصية التي تتماشى وشخصية الصبي المتحدث، ولكنها ألصق بشخصية الكهل الذي يروي الذكريات من راهن مختلف. وهذه النظرة تتراوح ما بين استطراف بعض الشخوص والمواقف وما وراءها من استملاح قد تلاقيه لدى القارئ، وبين ما يرتبط بوجدان الكاتب ويمثل في ذكرياته مواقف مخصوصة طبعت مشاعره بالحب أو بالكراهية تجاهها فالرواية في النهاية، ليست مجرد مواقف من حياة الصبي  الذي  يمثله الكاتب أو الذي تخيل من خلاله الفترة التي رغب في الرجوع إليها من طفولته،، بل هي أيضا موقف كهل يوازي بين طفولته وواقعه ويهرب إلى الذكرى لأنها أكثر إشراقا. 

 

هذه الروية المعتمدة في جانب كبير منها على الذاتانية وما تمثله الأحداث والمواقف لدى الكاتب من أهمية تنفتح من خلال الحكي عن جوانب إنسانية لا يمكن أن يبقى القارئ حيالها دون الشعور بالتعاطف مع ذلك الصبي - الجيل الذي جاهد الفقر والخصاصة لكي يثبت أنه يستحق حياة أفضل. فمن خلال هذه الرؤية لا يستطيع القارئ أن يبعد عنه صورة صبي آخر دفعته حياة الريف إلى المدينة للتعلم كما جاء في كتاب الأيام لطه حسين، كما لا يستطيع أيضا أن يتخلص من صورة صبي آخر يروي حياته وما تعرض له من شظف وتشرد في رواية " دافيد كوبرفيلد" (1849) للكاتب الانجليزي "شارل ديكنز". ومثل هذه المواقف المشبعة بالمشاعر الإنسانية والتعلق الوجداني بالطفولة و الأم تبقى دائما مجال استملاح لدى القارئ إذا ما أمكن لكاتبها أن يجنبها النمطية الممجوجة، وهو ما توفق إليه كاتب هذه الرواية في اختياره لبيئة متميزة عرف كيف ينتقي منها الأحداث والشخوص ويضمن لها الكثير من الطرافة والإفادة حول مرحلة مازالت تعيش في ذاكرة جيل بأكمله.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1271 الثلاثاء 29/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم