قضايا وآراء

يحيى السماوي ناقدا: في دراسة أسلوبية لرسائل الأديب عبد العزيز التويجري

أن الناقد في الغالب هو شاعر أو روائي فاشل سابقا . ولم أطلع على نص منثور له سوى في مناسبتين : الأولى في كتاب الناقدة الدكتورة "فاطمة القرني" في كتابها عن تجربته الشعرية في المنافي "الشعر العراقي في المنفى – السماوي نموذجا" وذلك في الملحق الذي نشرته مكتوبا بخط يده عن سيرته الذاتية ورؤاه حول بعض التساؤلات المتعلقة بدراستها، والثانية هي في إهداءاته الطويلة نسبيا التي يكتبها بسرعة تلفت الإنتباه على مجموعاته والتي تأتي مشحونة بالعواطف وبالأوصاف والتعبيرات الشعرية الآسرة . لكنه هنا، في كتابه "الشيخ عبد العزيز التويجري وأسلوبه المتفرد في أدب الرسائل" (238 صفحة) والذي صدرت طبعته الثانية هذا العام عن دار التكوين بدمشق، يتحول إلى ناقد وباحث في موضوع محدد هو أدب الرسائل لدى الراحل الشيخ التويجري. ورسائل التويجري موضوع ضخم جدا للدراسة، فهي تشكل أكثر من ثلثي أعماله الأدبية التي تجاوزت صفحاتها خمس آلاف صفحة شكل منها أدب الرسائل وحده ألفين وثلاث صفحات توزعت على كتب المراسلات السبعة التي كتبها بعد أن عاش حياة مديدة ( أكثر من تسعين عاما) وحافلة بالحوادث والمسؤوليات الجسيمة. وبعد مقدمة موجزة عن مفهوم أدب المراسلات وتاريخه في الأدب العربي، يبدأ بدراسة وتحليل خصائص ما أسماه بـ "المدرسة التويجرية" في أدب الرسائل والتي ميّزته عن سابقيه فيحدد منها أهمها وهي:

- الطابع الفلسفي والتأملي خصوصا عندما دخل مرحلة الشيخوخة

- توافر أكثر سمات الرسائل الأهلية في رسائله من نصح ومشورة وتنصّل وتبرّؤ وحسن تقاض ٍ وطلب، وذلك عبر التصريح أو التلميح، عبر التورية أو الاستعارة .

- كثرة الأسئلة الفكرية والفلسفية حيث تأتي إجاباته عن الأسئلة المطروحة وكأنها أسئلة تثير إشكالات جديدة وذلك لفتح نوافذ جديدة للنظر إلى المعضلة المطروحة .

- كثرة الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وبأبيات من الشعر خصوصا من المتنبي وأبي  العلاء (وللراحل كتابان نقديان عن الشاعرين) .

- الإنسجام والإنسيابية المحكمة الحلقات بخلاف أدباء العصور السابقة الذين لا يهم بعضهم أن يهدم سياق النص و"يخلع قاضيا" من أجل الحفاظ على التماسك الشكلي للرسالة من جناسات وطباقات (أيها القاضي بقم .. قد خلعناك فقم" .

- الرقّة

2167-yahya- التواضع مع الجميع حتى لو كان المرسل إليه تلميذا تخرّج من خيمته المعرفية، وبطبيعة الحال فهو متواضع مع المتواضعين، ولكنه جسور ولا يعرف في الحق لومة لائم مع جاحدي الحق والطغاة المتجبرين. ويقدم السماوي أنموذجا مهما على السمة الأخيرة وتتمثل في الرسالة / الوثيقة الخطيرة وهي رسالة الشيخ التويجري الموجهة إلى الجنرال البريطاني غلوب باشا الذي وضع أسسا هامة لتخريب الحياة العربية وتجزئة الوطن العربي وزرع الكيان الصهيوني وتوفير أسباب حمايته وتصميمه لجانب كبير من مسرحية قيادته الجيوش العربية لمقاتلة "إسرائيل". هذه الرسالة تتطلب وقفة فهي الأنموذج القومي والأخلاقي الرفيع في رفع راية الحق والإصرار على كشف وجه الحقيقة مهما تراكمت عليه أتربة المزيفين بل حجارة الطغاة أعداء الإنسان لخنق أنفاسها، وتعكس سمتي الصراحة المطلقة والجرأة الهائلة اللتين تتصف بهما شخصية الشيخ التويجري الذي يخاطب الجنرال غلوب ردا على ما قدمه الأخير من أفكار ومعلومات في كتابه " أزمة الشرق "، قائلا:

(.. أقول: يجدر بك أن تُرضي الله، ثم ترضي ضميرك، بقول كل ما تعلمه ومررت به، ورأيته في دهاليز السياسة في أيامك مع العرب. نحن ندرك أنك تعاني تمزقا ذاتيا، يصدع نفسك، ويزلزل استقرارك . وما أبديته من اجتهادات وملاحظات في كتابك، للأسف لم تكن كاتبا ولا مفكرا ولا واقفا مع الحق في تجرّد الإنسان القريب من الله ومن الدار الآخرة – ص 206) .. ثم يلاحقه – وهذه من سماته كما يقول السماوي - بسلسلة من التساؤلات الكاشفة التي تهز كيان ومصداقية الجنرال في الوقت الذي تثير مرارة الحقيقة في نفوسنا :

( ... ألا يمكن أن تقول لنا بصراحة؟ وترد على كثير من التساؤلات التي يطرحها العرب اليوم : لماذا نزل (لورنس) يحمل من لندن آمال العرب في وحدة العرب ؟ ثم لماذا، بعد أن انتهت المسرحية بقتل (الرجل المريض) كما يُسمّى، لماذا وضعت للعالم العربي الواحد خارطة قسمته ونتفته نتفا (.........) ثم يا سعادة الجنرال : أصحيح أنها حين تكونت لك القيادة في حرب 1948 قاتلت إسرائيل ودخلت بنيَّة المقاتل، أم أنها مسرحية أنت المنفّذ لها؟ - ص 206و207) .

وعبر التساؤلات فإن التويجري - في الواقع - يكشف أبعاد الدور الأسود لهذا الشيطان، كما أنه يقدّم تشخيصا مبكرا لحقيقة صارت الآن صارخة في الحياة السياسية الدولية وتتمثل في التبعية البريطانية للسياسة الأمريكية :

(إنني حين أرثي للبائسين في الأرض أرثي لأمتك، هذه الأمة التي هي اليوم تعرج في سياستها وفي آرائها وفي عزيمتها خلف (كيسنجر) وخلف الصهيونية العالمية، أرثي لهم من صميم قلبي، وآسف على أمة شابت لمّتها وتجعّد خدّها، وبدت عليها أعراض الفناء – ص 209)

لقد قدم السماوي خيرا كثيرا في ضم هذه الرسالة / الوثيقة إلى كتابه .

ويواصل السماوي تحديد سمات المدرسة التويجرية في أدب الرسائل فيشير إلى:

- الإنشغال بالهم الإنساني الشامل فوق الإنهمام بالمعضلات الوطنية والقومية .

- البعد التنويري وتأكيده على مفهوم "التنمية البشرية" منذ وقت مبكر .

- إعتماد الأسلوب السردي من سيرة وقص .

- شعرية العنوانات في الرسائل وحتى الكتب: "التساؤلات صفوف على طرقات الزمن"، "حملنا مزاميرنا ومن حولنا صفارات الإنذار"، "ضيق الصدر من ضيق الوعي"، "كلنا أمام قدر صامت، ويلنا إذا نطق، "لا أبحث في الظلمة إلا عن مكاني فيها" .. وغيرها .

- المثابرة على قاموس لفظي مستقى من بيئته الصحراوية التي ولد وترعرع ونشأ فيها، قاموس مشترك مع من يخاطبهم .

كانت مجموعة مقالات الكتاب – ويبدو السماوي متأثرا بأستاذه – ذات مسحة سردية وسيرية في كثير من المواضع التي قدم فيها الكاتب لمحات ذات دلالات إنسانية بالغة مثل تلك الوقفة / الدرس يوم زار السماوي التويجري لتوديعه وهو يحزم حقائبه لإكمال جحيم مسيرة المنافي إلى استراليا لاجئا:

(سألني: من ستصطحب معك؟

أجبت: زوجتي وأطفالي

أضاف: ومن غيرهم؟

أجبت: حقائب كتب وثياب ..

فقال حازما: عليك أن تأخذ معك أولا دينك والعراق لأنك حين لا تأخذهما معك، ستخسر نفسك إنسانا وشاعر قضية .. وما أنت بشيء دونهما – ص  46 ) .

في أقسام أخرى من كتابه يتناول السماوي موضوعات أخرى مكملة منها : "التويجري ناقدا أدبيا "، "التحضر كما يراه التويجري"، "التويجري التنويري" وغيرها، ثم يعقد مقارنة بين رسائل التويجري ورسائل الفارابي، ومن وجهة نظري فإن رسائل الفارابي هي رسائل طوباوية تفتقد للجانب العملي من فن السياسة وإدارة حياة المجتمعات البشرية، في حين أن رسائل التويجري طافحة بالرؤى العملية والأفكار الإجرائية .

ولعل القسم الذي لا يقل أهمية من الكتاب عن أقسامه البحثية الأخرى هو مجموعة من رسائل التويجري (ثلاث عشرة رسالة) لم تُنشر سابقا والتي كان يرسلها استجابة لدعوة من المفكر الراحل (صلاح الدين البيطار) أيام كان الأخير رئيسا لمجلة (الإحياء العربي) التي كانت تصدر في باريس في السبعينات من القرن الماضي قبل اغتياله، وكان التويجري يشترط نشرهذه الرسائل من دون أن تكون ممهورة باسمه، بل باسم مجرد هو " أخوكم " .

واشتمل القسم الأخير من الكتاب على نسخ مصورة لرسائل قصيرة موجهة من الشيخ التويجري إلى يحيى السماوي وهو في منفاه باستراليا مفعمة بالمحبة ودعوة الشيخ له إلى أن يكون هاجسه دائما مع وادي الرافدين .

 

ختــــــــــام :

إن محاولة السماوي هذه تستحق التقدير والثناء لأنها من المحاولات النادرة في التحليل الاسلوبي لأدب الرسائل، وكنت أعتقد - خطأ – أنني صاحب الكتاب الوحيد – صدر في بغداد عام 1999 - في تحليل أدب المراسلات وتناولت فيه رسائل بدر شاكر السياب ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان .

 

            حسين سرمك حسن – دمشق

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1271 الثلاثاء 29/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم