قضايا وآراء

مسرح النخبة، إلى أين؟

ودراساته حول الحياة الثقافية وقتها، تضمنت هذه الأصوات دعوة حازمة لتجديد المسرح التونسي "من حيث الشكل والمضمون" استفادة من التطور الذي عرفه فن المسرح في العالم، والتأثر خاصة بمسرح "برشت". فاستفاد المسرح التونسي من الحركة المسرحية العالمية، وتشكل " المسرح الجديد " في الثمانينات، و"مسرح فو" في التسعينات، ثم ظهرت فرق مسرحية عديدة اتسمت بالاشتغال على الرؤية الجمالية والفكرية، وتحويل العرض المسرحي إلى علامات سيميولوجية، وصار العرض المسرحي يتألف من مجموعة من المفردات المشكلة للمشهد المرئي القائم على الحركة والايماءات والديكور ولعبة الضوء والملابس والصوت، وصار ما يعبر عنه بالإخراج هو كتابة العرض الفرجوي عبر لغة المخرج الخاصة المتعاملة مع فضاء النص وفضاء الركح. 

 

ورغم ما عرفه المسرح من تجديد، وما عرفه الإخراج من تطور في بناء صور ركحية تتجاوز النص المكتوب إلى إعادة كتابة الصورة المسرحية، فإن العلاقة بين العرض المسرحي والجمهور لم تبلغ درجة التفاعل، والقراءة النقدية للعرض نظرا لعدم تمكن المتلقي العادي من حل شفرة الصور المسرحية،  أو التوصل إلى فك شفرات العرض المسرحي، مما حتم وجود قطيعة بين متلق عادي وبين عرض يحمل بين طياته لغة خاصة. فإن كان المسرح يقوم بتثقيف المتلقي والارتقاء بوعيه، ولفت انتباهه للرسائل المرسلة، فقد ظلت تلك الرسائل ملغزة وموغلة في الإغماض، ولا مجال للمتلقي من إضاءة الفجوات المعتمة.

 

فالخطاب المسرحي الحديث متعال عن الجمهور العريض، لا يبحث في قضايا المجتمع من وجهة نظرالسواد الأعظم من الجمهور، سيما وأن. المتلقي العادي ينتظر ديكورا واقعيا، لا مكعبات أو صانديق أو ألواح خشبية أو ستائر أو قطع من القماش ولا ملابس غريبة عن ذائقته، وينتظر حكاية وممثل يتحرك كما يتحرك هو في الحياة ولا يعنيه أن يقرأ دلالات الحركة والشحنة الانفعالية التي تحملها حركة الممثل الأشبه بالدمية أو الإنسان الآلي. هو يبحث عن حكاية، ولا مقاطع لغوية لا تؤدي المعنى خارج سياق علامات العرض المسرحي مكتملة، ويريد أن يشاهد شخصيات لها ملامح تشبهه، يتفاعل معها وتتفاعل معه، وآخر ما يفكر فيه هو تتبع علامات العرض الفرجوي وقراءة شفراته المعقدة. ومن ثمة نتساءل عن أهمية التحول الفني الذي عرفه المسرح وفن الإخراج والكتابة الركحية، هذا التحول الذي أفرز أقلية من النخبة العارفين بنظريات المسرح الحديثة وفهم السينوغرافيا والكوريغرافيا، واللغة البصرية والتشكيلية. فهل يعني تجاوز السائد والايغال في التجريب خلق قطيعة مع المتلقي العادي ؟ أم أن الاهتمام بالنخبة على حساب السواد الأعظم من الجمهور مطلب المسرح الحديث   ؟ ولماذا أغفل المسرح الجديد ثقافة المتلقي ؟ وما هو السبيل للارتقاء بثقافة هذا الأخير ؟ ولم لم نلمس محاولات جادة لتدريس مادة المسرح في المعاهد الثانوية التونسية كما هو الشأن بالنسبة لمادة الموسيقى ومادة الرسم، عل المتلقي يكتسب ولو حدا أدنى من ثقافة المسرح ؟ ولم لا يقع بعث نواد مسرحية يشرف عليها المختصون في المعاهد ومختلف دور الثقافة، ولو أن معظم دور الثقافة ليست مقصرة وتشهد نشاطا مسرحيا لافتا ولكنه غير كاف؟

 

وبقطع النظر عن الثقافة المسرحية فإن أي فن في العالم لا يمكن أن يكون عظيما دون أن تصل لغته إلى كل فئات الجمهور، ودون أن يتعاطف مع قضايا الناس، ويلمس أرواحهم، ويثير الأسئلة، فلا تكفي جمالية العرض وانشائية العرض دون أن يفهمه الجمهور ودون أن يحتوي على شحنة عاطفية وإنسانية. ولا يكفي  أن تروج هذه العروض المسرحية في مختلف التظاهرات الثقافية آخذة بعين الاعتبار الفئات المثقفة وآخر اهتمامها الجمهور العريض. بالإمكان أن يرتقي المسرح بالجمهور لكن الجمهور بحاجة إلى حد أدنى من الثقافة المسرحية.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1273 الخميس 31/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم