قضايا وآراء

قراءة إيقاعية في قصيدة(*) "النهر والموت" للسياب

و(هياي..كونغاي) تمثل نماذج خالدة في بناها الإيقاعية والتي قلما ما نجد نظيرا لها في شعر التفعيلة وهي قد تعطينا سر ولادة الظاهرة السيابية في الشعر الحديث وسر بقائها.

إن الموهبة السيابية على مستوى الإيقاع لا تجارى، كما إن استثماره للوحدات الإيقاعية التي يزخر بها بحر الرجزقد قاده للملفوظات التي جاءت متواشجة ومتشاكلة إيقاعيا مع مكونات هذا البحر فضلا عن حقيقة كون طريقة الأشطر باختلاف عدد التفعيلات في شعر التفعيلة  قد وفر للسياب مساحة غير عادية  للتحرك والإبداع ، ولإ بداء آرائنا لابد من التذكير ببعض الرموز التي سنستخدمها في ورقتنا هذه منها :

الهندسي

الحرف المتحرك = ?   الحرف الساكن =0      السبب الخفيف (فا) =1   الوتد المجموع(علن)=?1

الإيقاعي

السبب الخفيف=فا =A     الوتد المجموع =علان=?1 0 =B

 

البنى الهندسية والإيقاعية في "النهر والموت"

في هذا النص المهم في المنجز السيابي  سنعمد إلى تقنية جديدة في التقطيع وتشتمل على تقطيعه هندسيا وإيقاعيا وهي طريقة مركبة من حقيقة أن الميزان العربي له شكل هندسي وله شكل إيقاعي ولا يمكن فصلهما عن بعضهما حيث يقود أحدهما إلى الآخر والعكس صحيح أيضا،  كذلك سنعمد إلى توضيح هذا التقطيع و تمثيله رمزيا وتفعيليا  لتبيان التقنيات الفنية المستخدمة من قبل السياب في نظمه، حيث وجدنا أن السياب إستخدام بحر الرجز استخداما غير عادي ، ولا أغالي إذا قلت إن الشاعر لم يكن مسبوقا وهو يستخدم نواة إيقاعية ثقيلة في ابتداء نصه وهذه النواة يمثلها ملفوظ "بويْبْ" عندما يقول الشاعر:-

بويْبْ

أجراس برج ضاع في قرارة البحر

إن هذا الملفوظ عبارة عن الإيقاع الثقيل الذي ينطوي عليه الوتد المجموع(علن=?1) إلا أنه هنا ليس حرفين متحركين وحرف ساكن إنما حرفان متحركان وآخران ساكنان؛ أي أنه استخدم الصيغة الإيقاعية للنواة "علن" التي رموزها الإيقاعية كما بيناه في أعلاه هي (علان=?1 0 =B)، وهذا يؤكد رؤيتنا بأن الزحاف الخليلي ليس حذف حرف ساكن من مكان معلوم في التفعيلة فقط؛ بل هو انتقال لهذا الحرف إلى مكان آخرفي ذات التفعيلة ليضيف ثقلا في ذات المكان الذي حل فيه، إن الدهشة التي يخلقها السياب في استخدامه الوحدة الإيقاعية الثقيلة في هذا البحرعندما يبتدئ نصه بها تمثل رؤية عميقة وموهبة لا تتوافر إلا لقلة من شعراء العربية، ولو أخذنا المقطع الأول من هذا النص وقطعناه هندسيا وإيقاعيا سنجد ما يلي:-

1-  بويْبْ

علن/? 1                                         هندسي

علان/?1 0  ويمكن استخدام الحرف(B )      إيقاعي

2- أجراس برج ضاع في قرارة البحر

11?1 O /11?1 O /?1 O  ?1  O /?1O

BAA                / BAA      /   BB            /B

3- الماء في الجرار، والغروب في الشجر

11?1 O /?1 O  ?1 O  /?1 O  ?1 O  /?1O

BAA         /         BB        /       BB          /   B

4- وتنضح الجرار أجراسا من المطر

?1 O  ?1 O  /?1 O  ?1  O /11?1 O /?1O

BB         /        BB        /    BAA      / B

5- بلورها يذوب في أنينْ

11?1 O / ?1 O  ?1 O  /?1O

BAA         / BB          /   B

6- بويب يا بويْبْ

?1 O  ?1 O  /?1O

BB          /   B

7- فيدلهم في دمي حنينْ

?1 O  ?1 O  /   ?1 O  ? 1 O   /?1O

BB        / BB          /   B

 

8- إليك يا بويبْ

?1 O  ?1 O  /?1O

BB          /   B

 

9- يا نهري الحزين كالمطرْ

11?1 O / ?1  O ?1 O  /?1O

BAA         / BB          /   B

نلاحظ أن الإبتداء في السطر الأول بدأ بإيقاع الوتد المجموع(B) وهو إيقاع ثقيل نسبيا ،وهو يمثل تهيئة نفسية للدخول إلى إيقاعات بحر الرجز و جو القصيدة بصورة عامة  حيث سيبقى هذا الإيقاع مهيمنا بصورة كاملة على كامل أسطر القصيدة التي ستنتهي به أيضا.

في السطرالثاني تبدأ القصيدة بتفعيلة الرجز (مستفعلن/11?1 O ) ،حيث تتكرر مرتين ثم يتبعها الشاعر بجوازات هذه التفعيلة المنطوية على الإيقاع ذاته وهو تكرار الثقيل مرتين (مفاعلن/?1?1) ، حيث ستكون كتابتها إيقاعيا (مفاا علن ن/?1 O ? 1 O ) ، إن تكرارالحروف سواء أكان الحرفان(اا) أم الحرفان(ن ن) لا يظهردائما بصورة مكتوبة كما لا حظنا ذلك في ملفوظ (بويْبْ ) حيث نجد ساكنين في نهايته ، بل يظهر على شكل زمن مضاعف عند الانشاد في حالة وجود حرف ساكن واحد، والتشكيل الإيقاعي لهذا السطر هو(BAA / BAA/BB /B )

في السطرالثالث يستخدم الشاعر العدد نفسه المستخدم في السطر الثاني وهو أربع تفعيلات ونصف التفعيلة، وهذا النصف كما أسلفنا سابقا ما هو إلا الإيقاع (علن ن/B) الذي بنى الشاعر نصه  معتمداعليه بصورة تكاد تكون كاملة حيث التشكيل الإيقاعي له يتمثل بهذه المنظومة(BAA/ BB/BB /B)

يعود الشاعر في السطرالرابع لإستخدام العدد نفسه، لكنه يقدم ويؤخر في التفعيلة وفي جوازاتها، فالابتداء يكون بالإيقاع الثقيل والانتهاء يكون به أيضا، أما الإيقاع االخفيف فيكون في متن السطر أو في حشوه حيث يكون التشكيل الإيقاعي له (BB/BB/ BAA/B).

في السطر الخامس يعمد الشاعر إلى التقليل من عدد التفعيلات بمقدار تفعيلة واحدة وبإيقاعين ثقيلين ولكنه يعود للإبتداء بإيقاع خفيف ومن ثم الإنتهاء بإيقاع ثقيل وبتشكيل إيقاعي هو(BAA/ BB /B)

في السطر السادس يستغني الشاعر عن تفعيلة كاملة ويكتفي بتفعيلة واحدة ونصف وبإيقاعات ثقيلة فقط وبتشكيل إيقاعي هو (BB /B).

في السطر السابع يضيف الشاعر تفعيلة واحدة بإيقاعين ثقيلين، ونجد أن السطر متكون من تفعيلتين ونصف التفعيلة وبتشكيلة إيقاعية هي(BB/BB /B).

في السطر الثامن يعود الشاعر إلى الاكتفاء بتفعيلة ونصف، وبإيقاعات ثقيلة وكأنما (بويب) الذي يتكرر هنا وبالإيقاع ذاته يبدو عميق التأثيرفي لا شعور الشاعر حيث التشكيلة هنا كما يأتي(BB /B).

في السطر التاسع والأخير يعود الشاعر بطريقة ملفتة ورشيقة للرجز بإيقاعاته الخفيفة والثقيلة وكما يلي(AA/ BB /B).

إن طول النص السيابي لا يساعد في إدراج تقطيعه كاملا في هذه الورقة، لكن في واقع الحال يمكننا القول إنه مشابه لتقطيعنا أعلاه ، بصورة عامة نستطيع الفصل في أن السياب قد استخدم بحر الرجز بصورة مبدعة ومدهشة مستخدما إيقاعاته الثقيلة والخفيفة معا، لكن على طول النص وجدنا أن الإيقاع الثقيل هو الطاغي والمهيمن على جو القصيدة، ولما كان عدد الإيقاعات الخفيفة (A) في تفعيلة الرجز ضعف الإيقاع الثقيل (B) إلا أن السياب في المقطع أعلاه قد همّش هذه الإيقاعات ولم يكن عددها البالغ (12إيقاعا) إلا ثلث عدد الوحدات الإيقاعية الثقيلة التي يبلغ عددها (37 إيقاعا)، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن السياب أولا بنى نصه بناء إيقاعيا محكما وكانت التفعيلة بمستواها الهندسي غير ذات بال لديه والدليل على ذلك هو انقضاضه على الإيقاعات الخفيفة ومسخه لهندسة التفعيلة على حساب إيقاعاتها، إن قمع الوحدات الخفيفة (A) وتقليلها إلى الثلث، حيث كان يجب أن يبلغ عددها ضعف الوحدات الثقيلة ومن ثم الاعتماد على زيادة الإيقاعات الثقيلة لتبلغ ثلاثة أضعاف الوحدات الخفيفة متجاوزانسبة النصف التي تمثلها حقيقة يدل على أن للسياب قدرة إيقاعية مرهفة، عسى أن تبين هذه الدراسة التحليلية والاحصائية  شيئا من سر هذه العبقرية الشعرية الرائدة في بنيتها الإيقاعية على الأقل.

 

.......................

(*)هذه دراسة تطبيقية من عدة راسات في كتاب سيصدر للباحث بعنوان (النظم الايقاعية في الموازين العربية/رؤيا حديثة)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1274 الجمعة 01/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم