قضايا وآراء

الحُسَيّنُ(ع) يُعِيْدُ قَضِيَتَهُ مِنْ جَدِيْد

تعلّمهم كيف يدافعون عن قضاياهم، وكيف يقررون مصيرهم. إنّ الإنسان الواعي، بحاجة على الدّوام للتواصل مع القضايا الكبيرة، التي فرضت وجودها بقوّة على التاريخ، بحيويتها ونضوجها، الأمر الذي منع الزمن، من أنْ يجري عليها سنّة التقادم والانّدراس، لأنّها تنبض بالحيويّة والتفاعل مع الواقع أبد الدّهر.

ولأنّ قضية الإمام الحسين(ع)، ارتبطت بمبدأ الحقّ، هذا العنصر الذي يأبى أنْ يتغيّر أو ينهار، أمام كلّ سلطات الظلم والاستبداد والجوّر،  بالرغم من المعاول الكثيرة، التي تنهال عليه دون توقف ودون هوادة، في كلّ زمان ومكان، صغرت أو كبرت تلك المعاول المخرّبة، التي تحركها قوى الاستبداد والظلم والتعسف. لقد أصبحت قضيّة الإمام الحسيّن(ع)، من (القضايا المُغذيّة) للفكر والسلوك البشري، فغدت قضيّة (إنمائيّة)، لا يستغني عنها العالم على الاطلاق، إذا ما أراد أنْ يحيا، وفق مبادئ العدل والخير والسلام. إنّ هذه القضيّة (محور البحث)، لا تحتاج إلى تغطية فكريّة وثقافيّة، مقارنة بقضايا حياتيّة أخرى، أيّ استقلاليّتها عن تغذيتنا لها. ومن المؤكد، نحن الذين بحاجة إلى عطائها، إلى استكشاف خباياها الفكريّة والعقائديّة من خلال فهمها واستنطاقها. ومن ثم المباشرة بالاستفادة من تطبيقاتها، على أرض الواقع. يبدو أنّ موضوع هذه القضيّة، سيبقى متجدداً مع الحياة، بكلّ ما تحمله وتحتويه، من متغيّرات ومستجدات بصورة مستمرّة.

ورُبّ قائل يقول: إذا كانت لديكم مثل هذه التجارب، العقائديّة والفكريّة، المُفعمة بالعطاء وحركيّة الثورة، فلماذا أنّتم متخلّفون ومستضعفون، إلى هذا الحدّ البائس؟. فأنتم إمّا أنْ تكونوا واهمين، فتتمسكون بقضايا تعتقدون بأنّها عظيمة، وهي ليست كذلك، أو مبالغين في طرح واقع قضاياكم.

إنّ الإجابة لا في هذه الرؤية، ولا في تلك. الإجابة الصحيحة تكمن في فشلنا، من التّماس المتواصل مع قضايانا الكبيرة، ومنها قضية الإمام الحسيّن(ع). وكذلك فشل عقولنا من إدراكها، والتحسّس بها بعمق. وسبب هذا الفشل المتواصل والمتكرر، يكمن في حالة الانهزاميّة الداخليّة، المعشعشة بعمق في نفوس الغالبية الساحقة من ذواتنا. فيعجز الكثير جداً منّا، من محاولة الانعتاق منها، لأنّها ببساطة مبعث للراحة والاسترخاء. كما أنّها تستبعد عن الكثير، تحمّل المسؤوليّة، أيّ مسؤوليّة، مهما كانت بسيطة. هذا الوضع النفسي والفكري والثقافي والعقائدي الواهن، يضعنا بمسافة بعيدة جداً، عن قضايانا المركزيّة، ومنها قضيّة الإمام الحسيّن(ع). هذا البعد يضعف صلتنا بالقضيّة أو القضايا، كما يفقدنا الإنغماس أو الإحساس أو الاستشعار بها، وبحيويتها وحرارتها. نحن تعوّدنا ومنذ قرون طويلة، أنْ تُقدَم لنا الحلول(على الجاهز)، ولا يهمّنا من يكون مقدّم الحلّ، وإن كان عدوّنا. وربّما لا نمانع إذا ما تبرّعت لنا جهة، أو مجموعة أو دولة مّا مثلاً، بوضع الحل نيابة عنّا، (وهو ما يحصل الآن فعلاً)، فهذا مريح جداً للغالبيّة العظمى منّا.

تعوّدنا واقولها بمرارة تملأ الفم، أنْ نستمع فقط، دون أنْ نقرأ ونردّ ونناقش ونعترض. تعودنا أنْ نوكل مصائرنا إلى الغيّر، حتى في خصوصياتنا الذاتيّة، فنذهب مثلاً للاستخارة، عندما نريد أنْ نختار شريك الحياة، أو عندما نشتري منزلاً، أو ننشئ مشروعاً. بمعنى نحن على أتمّ الاستعداد، للتنازل عن عقولنا واختياراتنا واراداتنا، مقابل رأي يبديه لنا غيرنا، وربما يكون هذا الرأي خاطئ وغير سليم أيضاً، لكن المهم في الأمر، أنْ لا نتحمّل نحن عواقب الأمور، جرّاء اختيارنا للقرار. بمعنى استعدادنا للتنازل عن إرادتنا وعقولنا، ولو جزئياً للغيّر.

تعوّدنا أنْ نستلقي باسترخاء، ونحلم تحت منابر الخطباء، بسيف النبي، وعلي بن ابي طالب عليهما السلام، وهي تحصد رؤوس المشركين. ونحلم أيضاً بالعباس بن علي عليهما السلام، وهو يكسّر جبروت الشمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، على ضفاف مشرعة نهر العلقمي. ولكن لمّ نفكّر ولو لمرة واحدة، كيف السبيل للاقتداء بهم، والعمل بعملهم، والانتفاض على الواقع الرثّ الذي نعيش بين ثناياه. وأكبر دليل على ما أقول (تفشي مظاهر الرشوة والاختلاس، وهدر المال العام والفساد الاداري، وتردي الوضع الأمني والمتاجرة بأرواح الأبرياء، ومحاولات تغطية البعض على جرائم البعض الآخر، والتصريح علناً من قبل هذا وذاك، بكشف ملفات المتورطين بجرائم الارهاب. وبعد حين تهدأ الزوبعة، وتبدأ حالة التستّر المتبادل، بين الأطراف السياسية المتنازعة، وتتحول أرواح الابرياء، إلى مادة(اعلانيّة) دسمة الاستثمار. فأي جريمة بعد جريمة التستر على المجرمين والارهابيين القتلة، وتركهم يعيثون فساداً وسط المؤسسات الرسمية، تحميهم الحصانة باسم القانون).

لو كنا حسينيين حقاً، لأبينا الضيم كالحسين عليه السلام، واجتمعنا على الحقّ، ولغيّرنا بأيّدينا واقعنا، ولطردنا الاحتلال واذنابه. ولرسمنا طريقنا دون وصاية أحد، كشعب له إرادة حرّة ويمتلك حقّ تقرير المصير، بدل الاعتماد على القوات المحتلة، وفريقها السياسي، (العراقي بالظاهر والامريكي بالصميم). ولما اصبحنا نجامل قوات الاحتلال، ونسميها بالقوات الصديقة. أيّ ذلّة بحقّ الحسين نحن نعيش؟. لقد صيّرنا بانفسنا جلّ قضايانا الفكريّة والعقائديّة، أقرب إلى التنّظير منه إلى التّطبيق، ومنها قضيّة الطفّ، بعد أنْ افرغناها من محتواها الثوري، وهو سرّ حيويّتها ونشاطها في الوجود، فحولناها إلى شعائر رتيبة أو حتى مضحكة في بعض الاحيان، وتلك الطامّة الكبرى.

إنّ ثورة الإمام الحسيّن(ع)، اصبحت عندنا حالة شكليّة، نتوشح بالسواد عند حلول ذكراها، وننتظر من اصحاب المآتم، أنْ يقدموا لنا (التمن والقيمة)، حتى نتلذّذ بطعمها وطعامها. لقد ضيّعنا الرمزيّة الشعائريّة لقضية الإمام الحسيّن(ع)، من خلال عدم تفاعلنا كلياً معها، وربّما تركنا لعواطفنا فقط، دون عقولنا، أنْ تتحرك وتتفاعل معها، وهذا هو موطن ضعفنا.

إنّ التفاعل الحركي مع قضيّة الإمام الحسين(ع)، ليس أمراً هيّناً، إنّه أمر يتطلّب التضحية والتنازل عن أشياء كثيرة، منها كبح هوى النفس، والتضحية بالكثير من مكاسب الدّنيا، التي تحوم حولها الشبهات، والتحرر من قائمة تحوي الكثير من العناوين والمفردات. ومتى ما نجحنا، في خوض معركة التحرير الذاتيّة مع انفسنا، سنتلمّس وسنرى بوضوح تامّ، أنّ آفاق قضيّة الإمام الحسيّن(ع)، ستكون أمامنا وقريبة منّا، لابلّ في متناول أيدينا، وعندها من الممكن جداً، أنْ نتفاعل معها وننفعل بها، لنستلهم منها معاني التغيير، ونوظفه لصالح قضايانا الكبرى. وجرّاء هزائمنا الكبيرة والكثيرة، صار ديّدننا عقد المقارنات، بيننا وبين شعوب تقدمت علينا، كاليابان مثلاً.

فاليابانيّون يعبدون بوذا، ذلك الإله الحجري، وهم متقدمون. ونحن نعبد الحيّ الواحد الأحد، الذي سنّ لنا أعظم القوانين، الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والقضائيّة وغيرها الكثير. ونحن نعيش في خضم التخلف، فلماذا تخلفنا عن قوم بوذا كثيراً؟.

الجواب: لأنّنا تركنا تعاليم السماء، وتمسّكنا بتعاليم الأرض. أمّا أولئك اليابانيّون عبدة الأصنام (كما نتصورهم)، يتمسكون بتعاليم بوذا(الصنم في الأرض والإله في السماء) كما يعتقدون. فاليابانيّون يستلهمون من (الصخر) قيم انسانيّة رفيعة، لأنّهم انسانيّون بالتربيّة والسلوك والاخلاق. ونحن صنميّون بالتربية والسلوك والاخلاق، فلا نستلهم من قيم السماء، المبادئ النبيلة التي بلّغ بها رسول الله، وعلي، والحسين، عليهم السلام. مفارقة مخجلة اليس كذلك؟.

اذن نحن جميعا اليوم (أكلة القيمة، وطابخوها والمتفرجون عليها من غير الأكلة والطبّاخين). مطالبون جميعاً أنْ نفهم ونعي، ابعاد وأهداف عاشوراء الإمام الحسيّن (ع)، حتى نؤمن بها ونستوعبها ونعشقها. ومن ثم نبدأ بتطبيقها مع أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا، ومن ثمّ نخلق حالة المعايشة (المستدامة)، عبر الاستذكار المستمر لقضايانا المبدئيّة، لنبقى متواصلين مع التجربة، كمؤثّرين وفاعلين في الواقع. لكي يكون هدفنا المركزيّ، التغيير نحو التكافل والتكامل، ونحو الأفضل والأحسن. والله تعالى من وراء القصد.   

 

   محمد جواد سنبه

كاتب وباحث عراقي

[email protected]                                                                               

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1277 الاثنين 04/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم