قضايا وآراء

قراءة في رواية "الصرير" للناصر التومي (2)

والمعنف كإسم مفعول هو من أهل الشتات وهم ضحايا العدوان الذكوري في مدينة يتحكم بها المركز الممتلك لأدوات الردع (السوط والمسدس) وعصابات الشنق، وتيار الفكر العلماني الذي فصل المادة عن الروح، وعاين بأن عنف أهل المركز هو "سلوك ثقافي مسيج بقيم اجتماعية ذكورية ... وأن اختراق ذلك السياج أمر يسمح بتشتيت المنظومة الأخلاقية السائدة، لتسمع أصوات جديدة وإن بدت نشازا أو تحمل بوادر تدمير للبنية الثقافية المتحجرة القائمة" (3)، وبالتالي ظهور " أنماط عنف متبادلة " والتي حللتها باربارا وايتمن في كتابها الأنماط الثقافية للعنف: " من المنظور السياسي، إن الذين صدمهم تميز السيطرة المركزية في الكلاسكية والعنصرية، والجنسانية، والتعصب الإنساني، وأخضعهم ذلك التميز لسلطانهم، ظهروا وأسمعوا صوتهم، فحصلوا على مكان في الوعي العام .. ومع ذلك تبدو هذه الجوقة من أصوات الاختلاف كأنها تفاقم وتهديد غير متناغمين للمحاطين بسياج عازل تشيده المكانة أو الامتياز أو الوعد بهما . تظهر هذه المصالح المتصارعة في ردود فعل من التطرف ومقاومة التغيير، وتستخدم الاستياء والحنين كي تزكي الإحساس بعدم الأمان والحاجة إلى الحماية . "  (4)

 

و العنف المضاد  حسب نفس الرؤية: هو تجسيد لواقع جديد يفقد فيه الإنسان ذكورته، أو يفقد فيه المجتمع صفة العنف الذكوري والاستعاضة عنه بالعنف الأنثوي  أو عنف المرأة . فانقسام العنف إلى ذكوري وأنثوي أفرز انقسام المركز إلى طرفين : طرف يمثله الجنرال والإمام والموظف، وطرف يمثله هشام ورفاقه . كما أفرز انقسام العنف الأنثوي إلى طرفين حيث تجسد بابية والدقازة الزرقاء صورة لهذا العنف ظهر في أكثر من مستوى بين ثنايا الرواية :

 

- المستوى الأول هو ظهور فرج الحسيني الموظف المرموق وهو يسرد حكايته للجنرال: "لقد حاصرتني بابية هذه الأيام، وهي تصر أن تقدم لي إمرأة تشتهيني ذات حسن وجمال، وليست من بائعات اللذة، ولا تنزع الخمار أبدا عن وجهها .. إن التي أبصرتها تغادر مسرعة والعجوز بابية قد خدعت فيها من ناحية النسب والأصل، وشيء آخر لا يصدق، ولن تجد منبعا للنتونة في هذا العالم أفضع من فم هذه المرأة، فأحسست أن نوابضي توقفت عن التدفق، وأنفاسي سدت، وغصصت بريقي الذي صار علقما ترياقا .." ص97

 

ومن ثمة فإن إقرار الجنرال لفرج الحسيني بأن الحسيني هو الغنيمة ولم يعد السيد يمكن تفسيره بتجريد المجتمع من ذكورته الحربية والدفاعية في آخر الرواية : " ذلك لأنك في كل مرة كنت أنت فيها السيد وهي المرأة، ولكن مع الزرقة انقلب الحال، فكانت المرأة السيدة وأنت الرجل الضعيف " ص102 . فتحويل العنف من مصدره الذكوري إلى وعاء أنثوي خال من العقل، ومن جسد خال من نكران الذات، أدى إلى الإقرار بالهزيمة آخر الرواية . هزيمة المجتمع العربي في فترة النكسة  .

 

فقد اتفقت بابية والدقازة الزرقاء على تجريد الحسيني من كبريائه الزائف وابتزازه، سيما وأنه كان يصف أن له تاريخه الطويل مع "حواء الفاجرة" . وهي ليست المرة الأولى التي تبتز فيها بابية والدقازة الزرقاء أصحاب النسب والجاه، فمن بينهم الشيخ النوالي والجنرال الذي مات آخر الرواية مختنقا برائحة النتونة من ذلك الفم الأبخر للزرقاء الذي حلم به ولكنه تحول إلى كابوس تزامن مع نكسة 1967، مما يجعل القارئ يشتم من وراء هذه الواقعة موقف الكاتب غير المحايد وهو يرجع هزيمة الإنسان العربي، وتحول مدينة تونس إلى واجهة للمدن العربية التي لم تصمد أمام فعل التدمير الذي مارسه الفكر اليساري المشوب بالدجل والذي لم يخلف وراءه عدا رائحة الجثث الملقاة في حلبات التاريخ في ستينات القرن الماضي .

 

- المستوى الثاني وقد أعاد للرواية توازنها وأنقذ ما يمكن إنقاذه إذ احتجبت الزرقاء ب"زاوية للاعربية" مدعية أن الولية الصالحة للاعربية ظهرت لها في المنام ومنحتها بركتها، وفي المقابل يعتكف هشام في زاوية "سيدي عبد القادر" مدعيا أنه رأى ذلك الولي ينهره في الحلم ويتوعده إن واصل غوايته وكفره للايقاع بعلياء، ولكن حقي الذي تفطن للمكيدة انهال على بابية ضربا، ليتبين عند تمزيق ملابسها بأنها رجل، وتنكشف كل خيوط المكيدة .

 

وجسد بابية الذكوري المتقنع بقناع المرأة هو فصل صارخ للعقل عن الجسد، فالعقل هو أبرز تجليات الذكورة، والجسد الذكوري ما هو إلا آلة لها وظائف جسدية غير إرادية وهو يخلو من العقل الذي يبني على حساب نكران الذات، هو عقل دون عاطفة ودون إحساس بالحياة، ودون واعز لاقتحام الفضاء المغلق . إنه جسد لا يتحرك إلا ليعري الطبيعة من براءته والجسد من وجهته . هو جسد دون وجهة، ينخرط في هامش الفوضى ويصبح جزءا من كل مدمر .

 

واعتكاف بابية بالزاوية شأن الدقازة الزرقاء بالزاوية لن يؤدي إلى الحلول أو التكشف عكس ما ادعوا: "حيث اقترن العقل بوصفه أسمى، بكل ما هو ذكوري، بينما ارتبط الجسد بوصفه أدنى بكل ما هو أنثوي. وبسبب ربط العقل مع المطلق . فقد أصبح ينظر للذكر بأنه أنا الذكورة السامية أو المطلق، بينما ينظر للمرأة على أنها صورة لطبيعة مادية أدنى . وعلى الرغم من النظر إليهما على أنهما من طبيعتين مختلفتين فإن الذكر يعد " أعلى " والأنثى" تعد أدنى، وهكذا يصبح الجنس رمزا رئيسيا في ثنائية السمو والحلول، والروح والمادة " (5) .

 

وبما أن الجسد الذكوري انفصم عن العقل فقد فقد خاصية الحلول، وأضحى العورة التي تكشف عن أوراق التوت عن وضع اجتماعي يغيب عنه نور البصيرة وجسد جدار العماء المميت، حتى أن المكيدة كانت تقوم على جلب "عزلوك" الكفيف ووعده بإعادة النور إليه إن دخل للزاوية عاريا . وبانكشاف خيوط المكيدة انقسمت الرواية إلى فضاءين : فضاء للنور والآخر للظلام، ولكنهما انشطرا وانقسما ولم يمتزجا، ولم تقع عملية الحلول التي تدل على امتزاج العوالم العليا بالعوالم السفلى وترصد لحظة التحول والصعود الروحي، لتبقى فجوة الأحداث مثقوبة غير قادرة على لملمة الانكسارات البليغة " إن نصف العالم في الظلام والنصف الآخر في النور، فلا بد أن أستمع إلى أنباء العالمين وكأني أعيش حياتهما مع وكأني شخصان منفصلان " ص124 .

 

الفضاء بين الانفتاح والانغلاق

 الفضاء هو  مكان هندسي في رواية الصرير،  حيث  تعد أزقة المدينة خلفية لحركة الشخصيات والأحداث، ولكنه يتحول إلى فضاء يسهم في بناء الرواية من خلال العلاقة بين مكونات المدينة و"حقي" الشخصية الرئيسية للرواية، ومن خلال علاقة المدينة بالقرية، ومن خلال الأحداث التي عاشها "حقي" في القرية والمدينة عبر المرايا المتعاكسة . فيتحول الفضاء إلى عنصر فني هام في تطور شخصية البطل وانفتاح الأحداث على واقعه الجديد، ف"حقي" يخترق المكان ويشارك في صنع الأحداث ولذلك يتحول الفضاء المكاني إلى مكون أساسي في بناء الرواية وفي بناء علاقاته مع مركز وقاع المدينة . لتتحول المدينة إلى عالم روائي يستثير خيال القارئ ليتلمس تجربة "حقي" ويستقرأ دلالات المكان وهي تتراوح بين الانفتاح والانغلاق . ليتجاوز المكان بعديه المجازي والهندسي إلى الفضاء المستقطب للأحداث والشخصيات .

 

 والمكان في "الصرير" هو خشبة لوقوع الأحداث ولكن من خلال العلاقات الصدامية بين أهل المدينة من العائلات العريقة والفئات المهمشة، وبين هذه الفئات المهمشة فيما بينها . وهو مكون هندسي، تطلب رؤية تصويرية، انطلاقا من الأبعاد البصرية والتفاصيل الثابتة عبر الوصف ونقل بعض جزئياته، ولكنه في مستوى أوسع وأشمل تحول إلى وعاء للتجربة تحمل معاناة حقي وتعامله مع عناصر المكان .

 

فمنذ انفتاح الرواية يأسر الظلام "حقي" أو الصرير في الفضاء الذي يعيش فيه تحت الصاباط بالمدينة العتيقة في تونس العاصمة: "السواد يصبغ الفضاء والجدران، وكل ما تقع عليه عدسات المحاجر، هامات تتحرك في غير معنى، ضعف الرؤية لتنقل الجفون، وتراجع وعدم قدرة على مصارعة الإعياء والكرى. فتح عينيه على وضوخ نسبي، وكأنما كان لا يملك الحرية المطلقة للحركة، غير خطوات قصيرة في غرف مظلمة بصاباط الظلام، تآكلت حيطانها رطوبة، ونشبت أرضيتها وفقدت انبساطها، واعتلت كوة أقصى الجدار المواجه للباب، فاقدة وظيفتها، فلم يجتزها النور إلى الداخل وتسلقتها شجرة تين فأقلقت منفسها ومنارها " ص5

 

الفضاء هنا يدلل على الظلام الذي تفقد فيه الحركة معناها، وتستحيل فيه الشخصيات إلى هامات هي مجرد أطياف تلوذ بالظلمة فلا تتضح ملامحها الغائمة، والرؤية ثقيلة ثقل الجفون في جسد متراخ ينتابه الإعياء والكرى، فالرؤية مرتبطة بحالة ذهنية لجسد منهك، حركاته القصيرة لا تشي بالفعل بل بالحركة المقيدة، أما الكوة التي تشكل ملاذا للرؤية فقد حجبت الرؤية لأن شجرة التين الوارفة الأغصان حجبت ظلال النور .

 

فيؤشر المكان لشخصية تعيش الوهن في العتمة ولا تملك أفقا ما يحدد وجهة مسارها، ويتسع المكان لتبدو المدينة التي تسلب الحركة والرؤية كمجال للضياع والتفصد عن الجذور، يطل "حقي" على واقع جديد في المدينة ويترك القرية الصحراوية حيث ينبعث صوت الأم بنبراتها القاسية تحضه على البقاء هناك " يا ابني لا تنس جذورك لا ينس جذوره إلا الكلب " ص5

 

المدينة فضاء مغلق ينطبق على ذات حقي كما ينطبق عليه باب الكوخ في قريته الصحراوية، فالمكان ليس فضاء مسطحا بقدر ما يكشف عن تركيبته الشخصية في فضاء عام تنزوي فيه الذات المنقبضة . المدينة مرآة عاكسة يواجه فيها حقي ذاته حين يتحول الواقع إلى حقيقة تنزع عن الشخصية أوهامها، وتضعها أمام المرآة . فهل المدينة هي مرآة للقرية ؟ أم أن صورة القرية الحاضرة في مخيلة "حقي" ككابوس هي الوهم المقنع في حين أن المدينة اكتشاف "حقي" لحقيقة الوهم، من هذا المنطلق تنفتح الرواية على ثنائية القرية - المدينة في تطابق واضح بين الظلمة وانعدام الرؤية . ولكن حقي  يمقت القرية، ويحبذ المدينة رغم تطابق الفضاء المغلق لأنه يتلمس ذاته في المدينة بحثا عن منفذ ما بعيدا عن صوت الأم المتحجر .

 

المدينة وقد بدت عالما مجهولا غائما بدون هوية وملامح تقبع في العتمة، فقد بدت حدا فاصلا بين حركة الاستكانة والكبت، والاندفاع للمواجهة  في فضاء يتحسسه "حقي" ليكتشف الجانب الشرير الذي يهدد استقراره، فيستبدل الخوف بالسكينة وهو يكتشف المدينة كبناء وكمشهد مكاني ينفذ عبره إلى مسارب ذاته : " آنس حقي في صاباط الظلام سكينة ، فبدت السواري والأقواس شامخة ومسدلة سترها عمن يسعى تحت أجنحتها، وانقشع السواد من المنافذ، وبعث فيه شيئا من الاطمئنان . لقد وطأت رجلاه كامل مداخل صاباط الظلام إلى صاباط العروسة الذي حافظ على على سواده القاتم، وتبرز أحيانا : " أشباح من فوهته لا يتبين شكلها النهائي، حتى إذا ما دنت في مرقبه سارع بالاختفاء خوفا من أن يكون صاباط العروسة وكر عصابة شنق " ص8 .

 

صاباط الظلام الذي أضحى ملاذا للانفتاح على الجانب المطمئن في المدينة أضحى قناة اتصال بين الذات والعالم الخارجي الذي ينقذه من سجن الذات المتلبسة بالمكان : " كان أسلم مخرج من صاباط الظلام هو نهج المقطع الذي سرعان ما يدفع برواده إلى نهج الباشا، سيد عشرات الأنهج والأزقة المحيطة به، ووجد حقي في هذا المدخل الخلاص من سجنه المظلم الضيق . بتفحص الجدران والأبواب والنوافذ تحت قرص الشمس بينما كان لا يميز بين الألوان والأشكال بصاباط الظلام حتى المارة ظهرت معالمهم ولم يعودوا أشباحا، يتفرس ثيابهم وكله آذان صاغية لمحاورتهم، واستقر به أخيرا مفترق نهج الباشا ونهج المقطع بعد تردد طويل لخوض غمار الأضواء الكاشفة " ص9 .

 

فالاتصال حسي بالمكان يدرك عن طريق الرؤية والسمع مما يكشف عن هندسة للمكان ومنافذ لمسالك الذات التواقة لاكتشاف مشهد المدينة .

 

علاقة الاتصال بين حقي والمكان، حتمت انفصاله عن الشخصيات التي تعيش في هذا المكان، حيث تجلت ثنائية المتمدن والنازح من خلال هيأته الدالة على الانسلاخ من القاع مما أدى إلى رفسه والتهكم عليه : " من أين خرجت، أي قارة لوحت بك بعيدا ؟ " . دائرة مكانية جديدة لا تخلو من ذلك التلفظ المتهكم الذي يعيد إلى حقي صوت أمه، ليتمثل المكان كقيد جديد من خلال ما تصدر عنه من لغة ساخرة تكشف له عن حقيقة المهمش في الواقع، ومن ثمة يكشف هذا الملفوظ إزاء النازح عن وهم رؤية حقي للمكان، فهو محل سخرية عبر شكله وهيأته وطريقة نطقه : " ما الذي جرى ؟ ما الذي في يضحك .. أهو شكلي ؟ أهي كلماتي ؟ " ص11 .

 

- ضاق المكان وتحول إلى فضاء للاختناق .

ـ ضاق المكان وتحول إلى منفذ للذاكرة الملتصقة بالحاضر.

- ضاق المكان ليعبر عن الركن المظلم الملتصق بالمدينة .

- ضاق المكان ليعبر عن الالتصاق بالركن المظلم الذي حتم الفزع والشعور بالرعب " يلتصق بالركن المظلم، تبرق عيناه بالجنون، تطارده الأصوات المتهكمة، أصوات نكرة، تكهرب أعصابه، وتشنج أطرافه، وتصطك أفراسه على غيظ مكبوت " ص11 .

 

تنكشف الذات في انكشاف صاباط الظلام في مواجهة فاصلة بين الحقيقة والوهم " ملعونة أنت .. قبيحة أنت كأركان صاباط الظلام ..خلتك الجنة .. فإذا بك ... وينبعث هاتف صوت أم حقي، وتتجلى صورتها في أحد الأركان المظلمة وهي تصفعه بحدة نظرها وببريق ساطع وكأنها تبث فيه طاقة جديدة للبعث " ص11 .

 

 لقد حتم الاكتشاف لواقع المدينة، اكتشاف لواقع حقي الذي يبدو بصورة كاريكاتورية  وفي وضع عاجز، مما حتم الأزمة التي لا عودة عبرها إلى القرية، والتقدم لاكتشاف معالم المكان، فينتقل حقي إلى " القصبة " حيث الأشجار التي تؤدي إلى ساحة الحكومة، والحديقة المزدانة بأجمل الورود .. مكان مفتوح ومريح يحيل على البهاء، ولكنه تسمر حين قدم الموكب الحكومي، ولم يبتعد عن المكان الذي يمنع فيه وقوف المارة : " ولما أعيتهم بلاهته جر إلى أقرب مركز للأمن أين ضرب حتى الإغماء . ثم أطلق سراحه بعد التيقن من بلاهته غير الخفية " ص 12 .

 

لقد ضاق به المكان، وضاقت شخصيات المدينة بوجوده وارتد إليه صراخ صبيان القرية، يجن جنونه " لم يعد له مكان " ص13 .  المدينة هي القناع لذات المهمش المتوحشة والتي تحاكي العنف في تمظهراته المختلفة، فهي إفراز لحالة الهيجان حين رمي "حقي" في مستشفى الأمراض العقلية وفي غرفة انفرادية ، وينفرط جنون العقل الأبله في سجن المكان ليكشف عن ذلك الجانب المتعفن للإنسان فيتوحش أكثر حين يوضع في غرفة ضيقة في مستشفى الأمراض العقلية . إنه القادح الذي يرتدي من خلاله المهمش قناع التوحش وتسلل العنف وفعل القتل . فحيث تتوزع عصابات الشنق تتوزع بدءا من الصبية المشاغبين، وصولا إلى أجهزة الأمن ينبري عنف مضاد للنازح الذي يعاني من شظف العيش ويعامل بقسوة، تفرز دافعا للعنف والقتل حين تكتشف الذات عنفها إزاء اضطهادها، فأفرز تطورا في ردة حقي إذ أمسك حجرا وانهال على أحدهم بالحجارة، ومسك قضيبا حديديا صدئا وانهال علي الباقين به، وحلت عقدة لسانه وهو يتوعد " إن هذا القضيب سيلازمني حتى أفجر كل هذه الرؤوس .. يا أبناء الكلاب " ص15 . فكل الأمكنة المظلمة تكشف عن توحش العنف في صاباط الظلام، صاباط العروسة، نهج الباشا، نهج القصبة، مركز الأمن، مستشفى الأمراض العقلية.

 

تكتسح المدينة ذات "حقي" وتستحيل إلى فضاء لها، بل تمثل "حقي" العالم الخارجي وتقنع به ليخرج من سجن القرية وأشباحها وظلالها المنعكسة عليه في المدينة : " وانطلق حقي طليقا لا يخاف أحدا، ويهابه الجميع، يجوب الأنهج والأزقة متمعنا في أبوابها، متفرسا في وجوه ساكنيها، مبتسما على الدوام، مقهقها لأتفه الأشياء، مصافحا كل من بادله الابتسام، جالسا على كل عتبة مدة، حتى إذا ما ضجر غير مجلسه على عتبة أخرى، ولا يخسر الوقت فيتعرف على متساكني هذه الدور " ص17 .

 

يكتشف "حقي" المدينة بقناع المغامر، المتحرر من الخوف والحركة المقيدة المنغلقة، يتوغل في أزقة المدينة، ويتنقل بين عتباتها كمن يحط على أطراف ذاته مترصدا الأسوار والملامح . ينتقل من اكتشاف الأزقة إلى اكتشاف الأحياء كرحم المدينة . وكانت وجهته إلى سقائي المدينة، حيث يقول السقاء الأعرج : " إن السقاية قد لا تفي بالحاجة، ولكن دخولنا إلى المنازل وخاصة منها الكبيرة تقربنا إلى أصحابها " ص20، وحين تتوطد علاقة "حقي" بالسقاء العجوز وجد ذلك الأخير ملقى أسفل مدارج نهج العراك وقد فارق الحياة، وحين خلفه السقاء الأعرج طلب "حقي" الحلول محله مقابل نصف المبلغ مما أغضب السقاء الذي احترف هذه المهنة أبا عن جد فقتل بدوره لكن لا دليل لرجال الشرطة على تورط "حقي" : " وفي صبيحة اليوم الموالي وسواد الليل لم ينقشع بعد، كان حقي أول من دفع بسطليه تحت الحنفية العمومية ولم يمض شهر على عمله حتى صار سيد الحي " ص22 .

 

وقد كانت مدينة تونس هي فضاء الرواية بأزقتها ودهاليزها وغرفها المظلمة وصاباط الظلام، حيث حول النازحون وجهتهم واندسوا بين العائلات العريقة وقد شكل هؤلاء النازحين وقتها أسفل درجات السلم الاجتماعي من بينهم سقائي المدينة والدقازة الزرقاء وغيرهم في حين احتفظ مركز المدينة بعلوه الاجتماعي حيث العائلات المنحدرة من أصول تركية وحيث انفتحت المدينة للدجالين على غرار الدقازة صاحبة الفم الأبخر والكلمات النابية والعنف المادي، وبابية قارئة الخفيف، والعزلوك الضرير وغيرهم  . دنس لم يقتصرعلى الشطحات الصوفية، بل شمل الفكر الإلحادي الذي اعتنقه شباب المدينة ورجمه لقيم المدينة . وقد تحولت المدينة إلى فضاء يتصارع فيه المركز والقاع والروح والمادة بين عائلات عريقة وأخرى نازحة . وبتتبع مسار الأحداث في فضاء الرواية فقد اقترن تصاعديا بالكشف التدريجي لفضاء المدينة والأحياء الملتصقة بها . وبما أن المدينة لا تتسع إلا لمن يثبت قوته المادية فقد انتقل حقي من اكتشاف الأزقة والأحياء إلى دخول الدور العتيقة بعدما تحول إلى سقاء فاكتشف السقائف والمقاصر والمخازن وبيوت السطح والسلالم والدهاليز والمخزن الذي منحه إياه الجنرال المتقاعد للسكن فيه حيث ينفتح الأسفل للمهمشين ويحتفظ المركز للعلو .

 

 تداخل الراوي والكاتب في الرواية

يسجل الكاتب موقفه من التاريخ والمجتمع مصورا الواقع، بما أنه يرى أن الرواية هي وثيقة فنية للتاريخ غير المكتوب برصد التجارب والوقائع التي عاشها وكان صاحب شهادة عليها، فلا ينفصم  منطق أحداث الرواية عن منطق الواقع الاجتماعي لمدينة تونس العتيقة في فترة الستينات في رواية "الصرير". فالمرجعية التاريخية تحيل إلى واقع بعينه كان الكاتب شاهدا عليه تمخض عن استبطانه لتفاصيله ومشاهده الحياتية المنبثقة من ذاكرته الفردية والجماعية في آن، ترصد رؤيته للنماذج لاجتماعية وتنحو نحو ابتكار الروافد التي تصب في رافد العمل الروائي الذي تغذيه رؤية الكاتب وصوته الأحادي في دفع الأحداث توجيها منطقيا يبرز فيه السابق اللاحق، لذلك يطغى الوصف المادي والمعنوي للشخصيات، " منذ سنوات والدقازة الزرقاء تتردد على نهج الباشا والأنهج والأزقة المجاورة له، وأطلق عليها الزرقاء لزرقة عينيها ولارتداءها دوما الملية الزرقاء " ص37 ..

 

ولم يحتمل نص " الصرير" تحمل تعدد الدلالات ولم يترك بعض الأسئلة مطروحة . ولئن قدم لنا الكاتب إجابات من خلال بروز صوت الكاتب وهو يوجه القارئ ويحلل ويفسر ويبدي وجهة نظره، فقد رصد الواقع التاريخي من خلال زاوية نظر خاصة وهي رافضة ومستهجنة لهجمة المهمشين على المدينة، ولكنه في المقابل أبرز صور العنف التي استبطنها مركز المدينة، كلما حول من جميع شخصياته إلى شخصيات ديناميكية متحركة تقتحم وتواجه وتصارع ليستحيل العنف إلى واعز للتبادل بين "ديناميات المجتمع" الذي انعكس من خلال مرآة النص الروائي .

 

 و "الصرير" ككل روايات  الناصر التومي التي واكبت التحولات التاريخية المفصلية في المجتمع التونسي، يتقاطع فيها التاريخي والروائي على اختلاف منطق الخطابين . لتكون شهادات على العصر .

 

....................

الهوامش

(1) ليالي القمر والرماد، رواية للناصر التومي، صادرة عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، 1978، ط1

(2) الصرير، رواية للناصر التومي، صادرة عن دار سحر للنشر 1997 - ط1

(3) الأنماط الثقافية للعنف، تاليف باربرا وايتمز، ترجمة د ممدوح يوسف عمران،، عالم المعرفة، الكويت، مارس ،2007 ص16 .

(4) المصدر السابق

(5) المصدر السابق

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1278 الثلاثاء 05/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم