قضايا وآراء

قراءة في رواية "الصرير" للناصر التومي

فتوجه نسق العيش وتحول القيم الاجتماعية والتحولات السياسية إذا تبلورت الدوافع الكافية لتلك التحولات. وقد عرفت المدن التونسية  سياسة التهميش قبل الاستعمار، واستفحلت حالة التهميش حين عرفت المدينة حركة النزوح الهائلة منذ فترة الستينات أثناء تجربة التعاضد وشح الأرض، وظلت "المكان  المرغوب فيه" حتي في العشرية اللاحقة رغم أنها تمتلك أدوات العنف المادي والقيمي الذي جعل من المركز هو "المستطيع" نظرا لسطوته ونفوذه، وتحديده لعلاقته بالقاع الزاحف عليه.

 

سياسة التهميش في فترة الاستعمار

 كان سبب سلوك المستعمر لسياسة التهميش  اجتثاث المقاومة  وخلق فئات مهمشة تعيش على الأوهام والخرافات إذ تترسخ الخرافة المعششة في الأذهان والتي تبتر أي فعل للحركة سيما في رواية الناصر التومي الأولى " ليالي القمر والرماد"(1)، إذ تتحدث عن تهميش المستعمر لفئات الشعب حيث تعشش  الخرافة في الأذهان وتستند إلى شحنة تراجيدية مأسوية وهي تقترن بالمكان "الأصل" وهو الأطلال الذي هو عبارة عن قصر مهدم تسكنه الأفاعي ومكان مدنس تسكنه اللعنة، وتتحول القرية إلى سجن كبير حين تواطأ أهل القرية على عبد العزيز الزيتوني المناضل، فقد كان في رأي أهل القرية قد قوض استقرار القرية بمواجهته للمستعمر، مواجهة شبهوها بفعل جنوني لتحريض الناس على الثورة، وفي قاع القرية يسكن ظلام الجهل والجمود  .  وعند الانتقال للمدينة ينكشف لنا أنها تنطوي على هامش لفئة مغيبة ومهمشة تتجسد في من يدخن التكروري ومن يتعاطى النفة البيضاء، ومومسات الماخور الرسمي في المدينة العتيقة ودار البغاء العلني بنهج سيدي بنعيم .

 

ولئن خلت "ليالي القمر والرماد" من تقديم شخصيات روائية مهمشة في المدينة، باستثناء الحديث عن ظاهرة عامة وهي تدخين "التكروري"، فصورة المهمشين التي كان الاستعمار يطلقها على "السفهاء والأوباش والسفلة " من النازحين و"عديمي الدخل المادي"، والذين يجسدون قاع المجتمع بما أنهم فئة بائسة اقتحمت المدينة، فإننا نجد في رواية "الصرير" (2) التي تدور أحداثها في الستينات من القرن الماضي  تصويرا للمهمشين الذين قدموا للمدينة قبل ثلاثين سنة أي في فترة الثلاثينات والأربعينات (أيام الاستعمار)، ولئن اندس البعض من فقراء الصوفية في المدينة في الزوايا ودكاكين الشعوذة، وهرب البعض الآخر إلى المقابر، فإن هؤلاء في الرواية ليسوا فقط من التونسيين المهمشين بل الغرباء المنبتين  من البلدان الافريقية الذين لا يعرف لهم أصل مثل  سعد  القادم من وسط افريقيا وبابية القادمة من  الجزائر . و يتحول هؤلاء  إلى المدن ليباغتوا بنظام المدن التي تقوم على سطوة العائلات الكبيرة التي تتمتع بحماية البايات باعتبارها عائلات عريقة في العلم والفقة والإدارة والجيش .

 

 وقد لاحظنا من خلال رواية " الصرير " أن المدينة كانت عصية عن الزاحفين عليها أيام الاستعمار، إلا الذين وفدوا عليها ومعهم بعض الطلاسم التي تخترق طوق المدينة على غرار بابية التي جاءت إلى الحي وهي تحمل بيدها قفة بها أدوات ضرب الخفيف وصرة الرمل وأوراق اللعب، وتقرأ فناجين القهوة فهي تدعي فك الطلاسم، وهي خاطبة في قفتها صور شمسية لكلا الجنسين: " قلائل من اللواتي يذكرن متى ظهرت بابية بالحي، كان ذلك من عشرين سنة أو تزيد، فكانت كما هي الآن لم يتغير فيها شيء، وكأنما الزمن قد توقف عندها، ترتدي جلبابا أبيض حيك من قطعة واحدة، ويغطي رأسها وهو يشبه الزي التقليدي المغربي". وهي تدعي أنها من أصل جزائري زوجها متوف وتبرز في تركيبة منفرة تتميز ب " لباسها غير المألوف والأنف المعقوف، وأسنانها الصفراء الصدئة من كثرة التدخين، وانزلاقها بكلمات بذيئة بدعوى النكتة، وضحكاتها المفعمة دعارة كل ذلك شوه صورتها لدي حد القرف " ص56 .

 

ولو عدنا إلى العلاقة بين المركز والقاع في مدينة تونس العتيقة ـ وتحديدا في نهج الباشا والأحياء الراقية والتي كان يعيش فيها علية القوم من أهل الجاه والسلطة والعلم والأملاك والذين لم تمتد أيادي المستعمرين إليهم للمكانة المرموقة التي يحظون بها لدى حكام البلاد من البايات . ولو عدنا إلى " سعد " الذي يعيش في المقبرة لأدركنا أن سكان المدينة العريقين في عهد البايات كانوا يضربون طوقا أمنيا لا يسمح بدخول من يرونهم دخلاء إلا الخدم والعبيد .  ويرمون ما يصفونه بالقاع الاجتماعي خارج أحيائهم وأسوارهم .

 

فمن هو سعد حارس المقبرة والمعزول في المقبرة كمكان مهمش؟

 " كان حارس المقبرة أسود البشرة ويدعى سعد، وقد شغر فمه من الأسنان إلا بعض الأنياب والأضراس المتناثرة نتيجة إدمانه على شرب الخمر، وحتى إذا ما افتقد المال الكافي لاشتراء ما يسكره، عوضه بالكحول لزهد ثمنها " ص67 . ذلك الحارس الذي يعيش دون سند عائلي، معزولا عن الأحياء، وحيدا بين الأموات، يحفر القبور وتنهشه أشباح الموتى ليلا . ذلك  الفقير قذف به إلى قاع المدينة قبل ثلاثين سنة (في ثلاثينات القرن الماضي) حين دخل نهج المقطع خطئا فخرج له سالم الظريف بضخامة جثته وقوة جسده وسوطه ومسدسه (كل أدوات الردع ، ليفر سعد نحو المقبرة .

 

والسوال المطروح، ومن أين جاء سعد المهمش؟

لقد جاء من "باب العلوج" كإشارة للرق والعبودية . وبما أنه كان عاطلا عن العمل، فوجب استغلاله في تنظيف الجياد والاسطبل والاعتناء بقفص العصافير، لكن سعدا ينفلت من هذا الوضع الآسر في العمل في المخزن ويهرب رغم طلقات الرصاص. فالفرار من مركز المدينة إلى خارجها وتحديدا إلى المقبرة هو الهرب إلى الموت المعنوي . فالمدينة معقل للرعب والقتل والقسوة، والمقبرة التي يفر إليها سعد هي انتقال من عالم الأحياء إلى عالم الموتى حيث تتقلص مشاعر العداء التي يكنها سكان المدينة العريقة لهؤلاء المهمشين المتجسدين في صورة أحط فئة في المجتمع من حيث الفقر المادي . فقاع المدينة مكان واقعي يتسع لمن عجز على التأقلم مع سكان المدينة ومع طلباتهم، وانقذاف سعد إلى المقبرة هو الانقذاف الرمزي للحضيض : " ما أصدقك القول أني أدفن مع كل ميت وأناجي لما أنا فيه من ضلالة، وطورا يستبد بي الغيظ فأنقم على كل شيء، حتى بلدي بأواسط افريقيا اقتلعت منه اقتلاعا وأنا ابن خمس سنوات " ص71 . فقد أقتلع سعد من بيئة افريقيا الوسطى إلى بيئة تنبذه .

 

فالمقبرة ليست "القاع المنخفض" للمدينة فحسب، بل هي الغرفة الأشبه بالقبر التي تضيق به وتقذف به إلى قاع القاع: " وسكت برهة ثم أردف قائلا في تحسر: - يالندرا من يحفر قبري ؟ فقال حقي دون وعي : - أحفره لك يا سعد  - أوصيك بتوسيع الحفرة - أوسعها لك يا سعد " ص70 .

 

إن المقبرة التي شكلت ملاذا للانفتاح حيث الأشجار والاخصرار فهي تشير إلى الانغلاق والضيق والانخفاض والتهميش والنزول إلى أسفل درجات الحضيض حيث الشذوذ ومعاقرة الخمرة . فهي الملاذ لارتكاب الموبيقات . ليبقى القاع ذلك "المكان المرغوب فيه" لأنه يعبر عن انفلاتة سعد من الفضاء المغلق إلى اللذة الشاذة " كانوا يأتون بنا من بعيد، من وراء صحرائكم إلى هنا لنعمل في قصور البايات، وبحكم اختلاطنا بزوجاتهم كصباياهم يستأصلون فحولتنا " ص77 . 

 

التهميش في فترة الستينات والصراع بين المركز والقاع

في رواية " الصرير " شمل التهميش قاع المجتمع في مرحلة الستينات من القرن الماضي وتحوله إلى المدن حيث تسد أبواب الرزق المنعدمة في وجوه القادمين إلى المدينة . والذين يعدون نتاجا لسياسة التعاضد التي تأزم فيها الوضع الاقتصادي وتفاقم ظاهرة الفقر والبطالة . ونجد أن سمة المهمش "حقي" بطل الرواية هي بعض البله، كما نجد الدقازة والعزلوك والباندي، والمدمنين على تدخين التكروري، والذين تميزوا بمظهر غريب وسلوك عدائي وعنف لفظي . ونجد السحرة والمشعوذين والمتدروشين والرمالة والعرافة والعاهرات .

 

لقد عرفت فترة الستينات من القرن الماضي سياسة التعاضد المقترنة ببروز الفكر اليساري، كما عرفت اندثار حكم البايات إثر الاستقلال، ولكن المركز الاجتماعي بقي محافظا على موقعه بفضل علمه وأملاكه ووجاهته فنجد الجنرال المتقاعد والإمام والموظف الكبير بالحكومة . ولكن القاع ينكشف في أزقة المدينة وأحيائها حين تقتحمه شخصيات نازحة وأخرى قادمة من الأطراف المهمشة، وهي فئات تحمل معها أوهام الشعودة وعنفها . ولئن تنفتح المدينة على المهمشين لا لتنمحي ملامح ساكنيها أو بناءاتها، يل لأنها أضحت في فترة الستينات  فضاء ساكنا لا يحمل داخله حركة التغيير، لذلك هبت عليها رياح الفكر الإلحادي واقتحمتها أوهام الدجل . إنها مدينة ملتحمة بذاكرتها وبسلطة ماضيها، ولم يبق لسكانها الأصليين ذوي الحسب والنسب إلا التفرس في رؤية المهمشين الذين يقومون بفعل المسخ واجتثاث الجذور في رأيهم .

 

في حين أن الجيل الجديد لهذا المركز الأرستقراطي قد حاول أن يحول من الفئات المهمشة إلى وقود لهذا التحول اليساري ليترك الصراع خارجا عن دائرته الخاصة، وليمعن في تكريس الفوارق الاجتماعية ويتصدى للبورجوازية الجديدة التي بدأت تتكون أثناء الحكم الجديد .

 

ففي رواية الصرير نجد أن المركز الاجتماعي مازال محافظا على جذوره في المدينة بدءا من الإمام " والد علياء " الذي ورث إمامة الجامع، وقد احتكرت عائلته الإمامة مدة خمسة عقود، وعائلته ثرية تمتلك الأراضي الخصبة الشاسعة في أماكن عديدة من البلاد، والذي جعل من أرض له في المرناقية اصطبلا لتربية الخيول ويجاهر بميله لرياضة سباق الخيل، ويقود سيارة تراكسيون .

 

أما الجنرال فهو يمثل الارستقراطية في أرفع درجاتها . فقد كان أحد القادة الكبار لأحمد باي الثاني، يقطن بالطابق العلوي بمفرده، ويعيش زمن الماضي حيث موت الزمن : فالأثاث القديم لماع، والتحف، والصور الحائطية للبايات، وصورته بزيه العسكري المزدان بالنياشين، والصور المؤطرة باللون الذهبي، ومكتبة كبيرة بها أمهات الكتب، ومخطوطات وكنانيش بعض القادة ومذكراتهم .  فيتداخل زمن الماضي مع الحاضر، و يتحجرنسق الحياة، فهو لا يستقبل إلا الأصدقاء القدامى، ويتحرك بوقار ووجاهة . لا يحرك جفونه، يبتسم باحتشام، لا يجلس إلا على الأريكة المخصصة له، ومجلسه مواجه لصورته، وهو من يقترح ما يمكن احتساؤه وموضوع الحديث وينهي الجلسة بوقفة منه إيذانا بالانصراف . والجنرال يعيش بمفرده بعدما ماتت زوجته، وله خادمة تأتي كل صباح ليبقى في مستوى مرتفع من الوعي الثقافي والسياسي، وليحافظ على زمن كان فيه سيدا يرفض كل تغيير حصل، وحتى الأخبار العالمية فما فتئ يتقبلها كمسؤول  .

 

وفرج الحسيني الذي عمل على مدى عشرين عاما مع عشر وزراء مازال يحظى بمكانة كبيرة في الحكومة بعد الاستقلال، أراد الزواج بإحدى سليلات العائلة المالكة فرفضته وسببت له جرحا ، أبى بعدها الزواج رغم أنه عرف بصولاته وجولاته مع المرأة في الإدارة والمدينة ومع الأجنبيات .

 

في المقابل فإن الجيل الجديد لهذا المركز الاجتماعي والذي وجد نفسه مجردا من سلطة البايات التي كانت تحافظ على وجوده القوي فإنه تبنى الطروحات اليسارية لتأليب الطبقات المهمشة مع السلطة الجديدة ليبقوا خارج الصراع وفي قمة توجيه الفئات المهمشة حسب رغباتهم :

 

 نجد هشام إبن أخ الجنرال الذي يعيش في الطابق السفلي، و ينحو نحو تبني الآراء المضادة للمسلمات " لا لتكسير القوالب الجاهزة في المعارف لكن متبعا مبدأ خالف تعرف " ص34، فهو لا يمثل الوعي الفكري أو الضوء المعرفي بل مجرد السفسطة التي تتنكر للقيم، والتصرف الذي يقطع مع أخلاقيات أصوله مما حتم قطيعته مع عمه الجنرال، وهو نتاج لبروز تيار مادي يرجعه الراوي العليم ببروز تيار إلحادي مرتبط بمنهج التعليم  الذي استغنى عن المنهج الإسلامي، وهذا التنكر لتراث الماضي مرده إفراغ المدينة من روحيتها .

 

ولكن هشام  لا يتبنى هذه الرؤية المادية عن اقتناع وإنما يحاول استغلال هذا المد اليساري الزاحف لاستغلال الطبقات المهمشة التي غزت المدينة عبر الدجل ممثلة خاصة في الدقازة الزرقاء التي تقتحم الديار والدكاكين تاركة للأوهام فسحة ومصدر ابتزاز في منظومة اجتماعية بدأت تتصدع وتستكنه المجهول الغائم من امراة جاهلة تحترف البغاء . وككل المهمشين فهي تحمل  عنفا ماديا ومعنويا مجانبا للدجل ، يتجسد واضحا لهشام، فهي تصارع بابية على امتهان الدقازة، وحين تخاصمتا يكشف لنا الحوار الهابط عن ارتياد الزرقاء لدكاكين الفحامة والعطارة والقيازة والمخازن ووكايل العزاب، وكل واحدة تدعي أن جدها مسح على رأسها وتفل في فمها، وكانت على بركة . فالعنف والعفونة والنتونة ملامح مزرية انسحبت على واقع المدينة مدعية استجلاء الغيب في وضع اجتماعي غائم، ومصير مجهول إزاء التغيرات التي عصفت بمجتمع يتعثر الخطى ويجابه الخيبات إثر الاستقلال . " ولسعيهما في حي واحد، جل الأيام صادف أن التقت بزنقة عنون المتفرعة عن صاباط الظلام، وكادت الزرقة تشفي غليلها من خصيمتها لو لم تسارع ببية إلى إظهار الضعف والاعتذار، وفجأة خطر للزرقة خاطر سرعان ما نفذته، مولجة يدها بين ثديي خصيمتها مخرجة صرة بها بعض المال، أفرغتها في راحتها ورمت بالمنديل على وجهها وهي تقول : - هذه المرة أخذت مالك وفي المرة المقبلة آخذ روحك " ص40 . فمع وفود الزرقاء تحول الهامش إلى مصدر فتوة وعربدة وفم أبخر لا تنبعث منه إلا روائح النتونة الباعثة على الغثيان " وصار يشار إليها في غيابها بالبخراء، لأنها تخيف الكبير والصغير بسبابها وعدم التراجع حتى على الدخول في معارك مع الرجال " ص40 .

 

إن المهمشين هم عبارة على نماذج وأشكال تختلف من حيث الأصل، ولكنها تنقذف على المدينة بدجلها وبذاءة مفرداتها ودعارتها لتطمس روحية المدينة وقيمها . والهامش عينات قابلة للملاحظة والدراسة من قبل المركز المتعلم في المدينة على أنها تبقى  مجرد نماذج تثير القرف بالنسبة لعلياء إبنة الإمام المتمسكة بروحية المدينة، فترى أن تلك العينات  أرضية خصبة لتحويلها إلى ميكروبات تعشش وتفرخ وتنشر سمومها كلما وقع تحريكها من خلال رؤية مادية تؤلب "البروليتاريا" لا لتغير وضعها وإنما للاستفادة من عنفها المضمر وعنفها المعلن : " وهي تتفق مع هشام في شيء واحد، ألا هو التمعن في كل الظواهر، ودراستها ومحاولة كشف أغوارها، وفهم ما خفي منها، وإبراز المبررات لوجودها، والسعي إلى تتبع نشوئها وتتبعها وحتى دوامها، رغم اختلافهما البين، طبعا وخلقا واختيارات، فإنهما من ذلك الصنف الذي تشد انتباهه أسنان صدئة في فم لا يغلق، وأنفا معقوفا يفرز سائلا بنيا، وكلمات متكررة، ورأي أعوج لا يختلف فيه إثنان، ومعتوه أو أبله أو معدم يستجدي بطريقة فريدة، هي ظواهر تستدعي التوقف عندها، يرى فيها هشام صورا ما ظهرت إلا لتبقى على حالها، أو لتضخيم فعل الشر فيها، وبروز كامل قبحها، لذلك كانت علياء تحاول قتل الوحش في حقي بينا هشام ينفخ فيه ليلا نهارا ليكتمل الشر فيه استعدادا للفتك " ص59 .

 

وهشام لا يمثل أنموذجا منفصلا عن الشباب المتعلم في المدينة والذي تغذى بنظريات الفكر اليساري فهو يمثل الرافد الأساسي لتحقيق الحرية المطلقة التي تحطم كل الرموز المقدسة، فالطاهر شقيق علياء هو عشيق أخت هشام بعلم هشام، ولا يحرك ساكنا لملاحقة هشام لأخته علياء فقد " كان الطاهر وهشام وبعض شبان الحي، معتنقين فلسفة التحرر المطلق، فالأديان والقيم والقوانين الوضعية في نظرهم تكبل حرية الفرد " ص48 . وهؤلاء  حسب الراوي هم عصبة من الجنسين يفتقدون للنضج الفكري، ويستدلون بأفكار تبيح لهم التحرر الذي يسمى بالتقدم ، لأن الفلسفات المادية تستند إلى مقولة نيتشة في موت الله ونظرية داروين التي تنسف أصل الإنسان كمخلوق مكرم . وقد وجد هذا الفكر في العينات العشوائية النازحة السلاح والوقود لتغذية نقمتهم على اندثار حكم البايات الذي كان يستر عوراتهم ويؤمن لهم العيش الرفيع .

 

" تساءلت علياء في نفسها عما تخفيه علاقة هذا المتعلم الزنديق بغبي " ص45، هذا الغبي الذي " أتى كغيره من الشبان انسلاخا من الفاقة والاحتياج، فخاب أمله وأوصدت كل الأبواب في وجهه فلم يجد غير عمل السقاية " ص45 . وحقي كأنموذج لهؤلاء المهمشين هو حسب هشام " طينة خام لو تبارى الخير والشر لاحتوائه لكسب الشر " ص44 . هذه الطينة العشوائية النازحة قابلة لتعيش على الوهم الايديولوجي الزائف، فلاحق هشام حقي إلى المخزن الذي تعشش فيه العناكب والخنافس ، والتصق به ليس من خلال التأليب والتحريض وتضخيم الشر في نفسه فحسب بل بإعطائه التكروري ليدخنه : " إنها سجارة الأحلام، تقرب البعيد، وتهزم المستحيل، بها قد تطير بلا أجنحة وتغوص في البحار بلا زعانف " ص60، فالهدف تغذية الوهم وإخصابه، وتحديد الوجهة عبر التكروري والخمرة . فهو لا يقف إلى جانب هذه الطبقة المطحونة بل يمعن في تهميشها ليستفيد منها للوصول إلى أهدافه .

 

فهشام الطالب المنحدر من أصل تركي، الدارس لمادة الفلسفة يكمن روح المدينة في رأيه في ذلك الغطاء من الوجاهة الذي كان يستره بهم حكم البايات، في حين يكمن روح المدينة في التلوث القيمي  والذي يبرز في هالة من الوقار، فهو ينتقد دور الشيوخ الذين يتصدرون مجالس الفقه والأدب، ويدعي أن حياتهم الخاصة تسقط أقنعة الوقار في حفر الدنس، وقصورهم مجرد خرب تتسع لكل ما هو مرذول ونجس، فالخادمات يهتك سترهن من الخدم وأبناء الأسياد، والشيوخ منغمسون في الرذائل، وفي داخل كل نساء المدينة بغايا يغنمن كل الفرص المتاحة لإشباع رغباتهن . وبذلك يسقط الفكر اليساري المركز ويجعله يتساوى مع القاع، يشي بالمحظور والمرذول فهو في روح شخصية هشام الذي تمعن في إسقاط هذا الدنس على واقع الشخصيات، فثمة صراع بين الجانب الروحي الذي تمثله علياء والجانب المادي الذي  يمثله هشام، صراع يتجه نحو القاع، فهشام يريد أن يغدي فيه الشر وعلياء تبحث فيه عن الركن الخير، صراع بين الظلام والنور . صراع الذي يخترع القصص الكاذبة لكتابة واقع جديد وعلياء التي تناهض هذا التمرد . صراع بين الثابت والمتحول، بين عراقة العلم والفقه والأدب وبين القاع الخالي من كل روحية والدال على الحضيض بكل تجلياته . وهشام هو نواة تجربة الصراع الذي يؤجج نقمة الوحش الجاثم في حقي وقاع المدينة، لأن القيم الدينية والروحية بالنسبة لأهل القاع ما هي إلا اجتماع الفكرة المدمرة بالأرض الخراب .

 

كما أن هشام المترصد لهذا الواقع الجديد الذي اقتحم فيه المهمشون للمدينة بالعنف المادي واللفظي أدرك أن العنف هو الذي يجعل من هؤلاء المهمشين الأسياد الجدد المندسين في أزقة وحواري المدينة . ولئن اقتحم البعض هذه المدينة لما ينطوون عليه من عنف، فإن البعض الآخر لا يقدر على ولوج هذه المدينة إلا بعد مراحل، حين يتحول الخوف والقسوة إلى تمظهر للجانب العنيف الذي يدافع فيه المهمش على ذاته، وكعينة لهذه العينة للمهمشين أفرد الكاتب الفصل الأول من رواية " الصرير " ليبرز كيفية تحول المهمش الأبله "حقي " إلى مهمش معترف به في المدينة .

 

 ولكن هذا الاندساس بصعوبة بمكان في رواية "الصرير" التي دارت رحى أحداثها أثناء تجربة التعاضد في تونس، حيث أن المدينة تتسم بالعنف وبعصابات الشنق، وبالملفوظ الذي يحيل على السخرية والتهكم من النازحين، فتستبطن ذات المهمش العنف لتعبر من خلال العنف على أحقية وجودها في فضاء المدينة، فكان حقي أنموذجا للمهمش الأبله الذي اقتحم المدينة حين تعرض للعنف ورد الفعل بعنف أشد .

 

أسباب التهميش ومخلفاته

 في رواية "الصرير" يجسد أهل القاع المندسين في المدينة قانون القوة والعنف والبلطجة، فهو فضاء أسود "صاباط الظلام"، وهو وكر عصابة الشنق، فالقاع يسوده قانون الغاب، فالأقوى والأعنف يترصد الأضعف والإجرام مستفحل بصورة توحي بغياب الأمن والسكينة فهو أشبه بسجن مظلم وضيق، ينطبق على مرتاديه الجدد، ويطبق على أنفاسهم، ومن بينهم حقي الشخصية الأساسية في الرواية الذي قدم من صحراء الجدب والقحط وشح الأمطار والفقر المدقع . وتنقله في المدينة كعالم غريب يستوجب العنف المادي . والعنف في المدينة يتخطى عنف العصابات إلى عنف الجهاز الأمني " ولما أعيتهم بلاهته جر إلى أقرب مركز للأمن أين ضرب حتى الإغماء " ص13، " وفجأة تسلل أحدهم من خلفه وأسقطه أرضا وهو ينتفض كالمسعور يلعن أم حقي ورجال البوليس والشياطين والصبيان' ص15 . فحقي كسكان القاع لا يستطيع أن يواجه الآخرين إلا من خلال العنف والقتل ليتربع على عرش السقاية، لذلك فإن قتل سقائي المدينة لم يكن صدفة رغم غياب الفاعل في الرواية بل ارتبط ببقاء الأقوى. حيث لا بقاء للسقاء العجوز والسقاء الأعرج في خضم هذه المنظومة. وفي ردة فعل حقي تجسيد لملامح أهل القاع وهو يعبرون عن نقمتهم من مجتمع لا يمنحهم الشعور بالأمن ويمعن في التنكيل بهم . لذلك لا مكان لأهل القاع في المدينة إلا لمن استبطن العنف وجسد روح هذا القاع المتسم بالعنف والفجور والدجل.

تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1278 الثلاثاء 05/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم