قضايا وآراء

غنائية للعراق الجميل

بجنائنه المعلّقة في بابل ..ننطق باسمه ونحن نعني العراقة والأصالة والجذور الضاربة في الأعماق ..لكأنه لؤلؤة في المخيال العربي والإنساني ..عطاءاته لا تحصر ولا يحيط بها عدّ..أثمرت أرضه أعلاما تركوا بصمتهم على العقول والقلوب ..بصمة لن تزول حتى تزول الشمس والقمر وينطفئ النور في العيون والقلوب والبصائر ..هذا   الثراء الفا دح لم يمنع هؤلاء المعتدين المهووسين من ارتكاب ما ارتكبوا من فظائع وجرائم لا يبرّرها شئ ولا يغفرها الضمير الحيّ  ..

يقولون ليلى بالعراق مريضة

ألا ليتني كنت الطبيب المداويا

الأوطان والبلدان والمدن والأمم شأنها شأن الإنسان تعتريها أحوال كرب وشدّة وبأ ساء وضرّاء ومرض وألم وهبوط معنويّات ..و بلسم جراحها وجابر عظمها إشادة عالية بتاريخها المجيد وصفحاتها الوضّاءة وأحداثها العظيمة ووقائعها المشهودة وأعلامها الممتازين مصابيح الهدى علامات الطريق رصيد الحقّ والخير ..و للعراق أياد بيضاء على الكثيرين لا يملكون  جزاءها الله يملك جزاءها وجزاء كل معروف ..و هو الآن في شدّة ومحنة وامتحان وأقلّ ما يمكن أن يقابلوه به  الحبّ والوفاء والإخلاص أوّلا وثانيا وثالثا ...ذلك أن الحبّ بلسم عجيب يداوي أصعب الجراح وأعمقها ..ثمّ يأتي بعد ذلك العمل على التجاوز تماما كما أن الوعي بالمرض بداية الشفاء .. وليلى هي كلّ شئ أصيل وجميل في العراق ..النخيل والبساتين ودجلة والفرات وبغداد والمكتبات والمتاحف والآثار والمعالم ..و من قبلها كل إنسان حرّ أصيل شريف مطعون وموجوع بسبب ما حصل ويحصل ..في هذا السياق وفي غمرة هذا الظرف تتجلّى هامة شعريّة حبيبة تشيع في القلب الجريح النازف الدفء والأنس والأمل ..هذه الهامة إ سمها  بدر شاكر السيّاب ..في شعر السيّاب توحّد رائع يصل حدّ التماهي بين الحبيبة  و..العراق  ..تركيب فريد حميم بين الأرض وأسمى  رمز يتعلّق بالإنسان  /  الحبيب  يقول هذا العاشق المتيّم لبلاد الرافدين  وكلّنا ذاك الرجل ..

"أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه

يا أنتما مصباح روحي أنتما وأتى المساء

و الليل أطبق فلتشعّا في   دجاه فلا أتيه

لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كمل اللّقاء!

الملتقى بك والعراق على يديّ ..هو اللقاء!

شوق يخضّ دمي إليه كأ ن كل دمي اشتهاء

جوع إليه ..كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء

شوق الجنين إذا اشرأب من الظلام إلى الولادة!

إنّي لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!

أيخون إنسان بلاده ؟

إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس أجمل في بلادي من سواها ..و الظلام

- حتّى الظلام - هناك أجمل فهو يحتضن العراق

واحسرتا ه متى أنام

فأ حسّ أنّ على الوسادة

من ليلك الصيفيّ طلاّ فيه عطرك يا عراق؟..

العراق معنى يضمّ في جنباته كلّ المعاني ..هو عراق الروح ..عمارتها ..أثاثها ..سرّها ..عراق الوريد النابض بالحياة وبالنّخيل وبالإباء ..فكيف لا يكون ملهم الشعراء وسبب خلودهم؟

العراق من أغزر بقاع الأرض مياها ومن أكثرها خصبا ..ينحدر نهراه العظيمان دجلة والفرات من ذرى الشمال ويتحاوران  وهما يقطعانه - قربا وابتعادا - ناشرين  روافدهما ومكوّنين شبكات من الأراضي الخصبة المرويّة ليلتقيا متعانقين  في محافظة البصرة في الجنوب مشكّلين شطّ العرب ..العراق قصّة رائعة تحكي التحام  الأرض بالمياه أصل الحياة ..وهي طهارة وخصب ونماء وزكاة وتجدّد ..أرض هذا  شأنها لا تعترف  بالموت والفناء لأنّ قدرها الإنبعاث المستمرّ والتجدّد والخلود ...

كم أتذكّر نخيل البصرة بلونه الأخضر البديع الذي يملأ القلب حبورا وسلاما وسكينة وقنوات المياه تسري بين جنباته تنعكس عليها الخضرة والضوء والظلّ ..إنّ مثل العراق كمثل تلك الشجرة الطيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين ..و إذا كانت أرضه قد شهدت ولادة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل  عليه السلام رافع لواء التوحيد محطّم الأصنام مفحم النمرود با ني الكعبة أوّل بيت وضع للناس ..فهي مؤهّلة أن تكون منطلق فكر تقدّميّ إنسانيّ يوحّد مجتمعات العالم الباحثة عن الأمن والسلام بعد أن  شهدت أرضه المعطاء نشر أقدم شريعة ..شريعة حمورابي .

كلّهم يسأ ل عن العراق ويطيل السؤال والجواب كامن فيه ..أرض بهذا الثراء النادر والتاريخ الحافل والتراث الباذخ والوقائع الموقّعة بالمجد والفخار حتما ستبدع حاضرها ومستقبلها تماما كما أبدعت ماضيها الحافل  الماثل

"سألتني عن العراق وقالت

" قد سمعت أن العراق جميل ..."

قلت  يا لندا لا تثيري شجوني

فحديثي عن العراق طويل

تلك أرض سماؤها مثل عينيك صفاء

و ماؤها سلسبيل

الجنان المعلّقات وعدن في رباها

و في رباها النّخيل ..

فاعذريني إن لم ترق لي أرض بعد أرضي

أو عزّ عندي البديل  * "

 

محسن العوني

كاتب وباحث / تونس

                  

.................

*وجدت النص ولم أعثر على اسم الشاعر

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1284 الاثنين 11/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم