قضايا وآراء

قراءة في قصيدة ـ اللوحة ـ للشاعر محمد البقلوطي

   صوتي .. وصار على شفتيّ رخام

     ليلى  ... وقلت تجيئني في منامي

             فلم تأت ليلى

              ولم أقبّل زهرتيها في المنام

             ها أنا أسمع صوتها في البعيد

             أآخذ حلمي وأتبعه

                      لعلّها الآن في حضرة لوحتها

             تواعد الألوان .. وتحنو على الريشة

             لعلّها في آخر اللّيل .. تطلّ من الشرفة

             تستدرج الله وزقزقة الطّير وشذا الأزرقين

             إلى اللّوحة

 

 ليلى.. يا ليلى                    

           كفّي عن الله وعن البحر وعن الشجر الميّت

           وارسمي دمعتي جدولا للشجر

           وارسمي غربتي بلبلا حالما .. أو قمر

           وارسمي قفصا باردا

           على جدار بارد

           هجرته البلابل كلّها

                        فغدا بغير غناء

           وغدا طفلا بلا لعب

           خمرا .. بلا فوضى

            بيتا .. بغير جرس

            وانظري يا ليلى

             أنا الآن تماما

           مثل ذاك القفص

 

شرح قصيدة ـ اللّوحة ـ

هي نصّ شعري لمحمد البقلوطي ورد في الصّفحة السّابعة من مجموعته الشعريّة (كن زهرة ... وغنّ) الصّادرة عن منشورات الإتحاد العام للأدباء والكتاب العرب – عمّان الأردن سنة 1994.

 

1) العنوان: اللّوحة

بالرجوع إلى الجذر الذي يتكوّن من اللاّم والواو والحاء يفيد لسان العرب أن اللّوح هو كلّ صفيحة عريضة من صفائح الخشب واللّوح أيضا هو الذي يكتب فيه وفي التنزيل قوله تعالى: "في لوح محفوظ" يعني مستودع مشيئات الله تعالى. وألواح الجسد عظامه ما خلا قصب اليدين والرجلين وهي أيضا كلّ عظم فيه عِرَضُ واللّوح النظرة كاللّحمة ولاحه ببصره لوحة: رآه ثمّ خفِيَ عنه ولحت إلى كذا ألوح إذا نظرت إلى نار بعيدة قال الأعشى:

       لَعَمري لقد لاحت عيون كثيرة

                                     إلى ضوء نار في يفاع تحرّق

 

 ولاح البرق إذا لمح وألاح البرق أومض فلوحة محمّد البقلوطي  من خلال هذا النّص وهي كذلك شعره المحفوظ الذي أودعه أحاسيسه وهي أيضا بعض من عظامه ثم هي ومضة تحير الكون إذا نظر إليها النّاظر

 

إلاّ أنّ العنوان يتضمّن معنَى آخر جديدًا في الإصطلاح ألا وهو  الصّور والمناظر والمشاهد ونحوها والتي ترسم على الورق والقماش والجدار وغير ذلك وهو مصطلح وافد على الحضارة العربيّة  وتعريب لكلمة Tableau  وهذا المعنى هو الأوضح في سياق هذه القصيدة التي تتحدّث في جملة ما تتحدّث عنه، عن رسامة في حضرة ألوانها وريشتها.

 

فاللّوحة هي لوحتان: لوحة الرسم ولوحة الكلام أو لوحة محمد البقلوطي في لوحة ليلى الرسامة هي مزج الشّعر بالرّسم وتزاوج الحروف بالأشكال والألوان بالحبر

 

2) الموضوع:

القصيدة استحضار أو رحيل إلى رسّامة تباشر لوحتها ورجاء أن ترسم شجون الشاعر بدلا من رسم شجونها.

 

3) مراحل القصيدة:

تبدأ القصيدة بالقلب وتنتهي بالقفص وبين القلب والقفص مسافة شاسعة من الأحاسيس وصور متداعية من الأحلام والأمنيات.

 

و المرحلة الأولى عبارة عن ثلاثة من الإيقاعات هي المنطلقات:

              قلبي .. واختلت مداركه

             صوتي .. وصار على شفتيّ رخام

              ليلى  ... وقلت تجيئني في منامي

             فلم تأت ليلى

              ولم أقبّل زهرتيها في المنام

             ها أنا أسمع صوتها في البعيد

             أآخذ حلمي وأتبعه

 

و في هذه المرحلة إقرار بغياب ليلى الفعلي وكذلك بتغيّبها حتّى عن خياله في النّوم فتراه يستدرج حضورها بالسّمع والحلم

 

والمرحلة الثانية قوله:

             لعلّها الآن في حضرة لوحتها

             تواعد الألوان .. وتحنو على الريشة

             لعلّها في آخر اللّيل .. تطلّ من الشرفة

             تستدرج الله وزقزقة الطّير وشذا الأزرقين

             إلى اللّوحة

 

وفي هذه المرحلة يصوّر الشاعر بالظنّ ليلى في حالة مباشرتها الرسم وقد ضربت معها الموعد

 

و لمرحلة الثالثة قوله:

            ليلى.. يا ليلى

           كفّي عن الله وعن البحر وعن الشجر الميّت

           وارسمي دمعتي جدولا للشجر

           وارسمي غربتي بلبلا حالما .. أو قمر

           وارسمي قفصا باردا

           على جدار بارد

           هجرته البلابل كلّها

 

و في هذه المرحلة نداؤه بإلحاح ليلى أن تتخلّى عن رسمها القديم وأن ترسم دمعته وغربته وأن ترسم قفصه البارد الذي هجرته كلّ البلابل.

 

و في المرحلة الرابعة قول الشاعر:

            فغدا بغير غناء

           وغدا طفلا بلا لعب

           خمرا .. بلا فوضى

            بيتا .. بغير جرس

            وانظري يا ليلى

             أنا الآن تماما

           مثل ذاك القفص

 

و هذه هي المرحلة الأخيرة التي يركّز فيها الشاعر على القفص الذي صار بدون بلابل مثل الطفل بلا لعب ومثل الخمر بلا فوضى والبيت بلا جرس وتأتي اللمسة الأخيرة أو اللحظة الحاسمة أو مرارة الختام في قوله:

       وانظري يا ليلى

       أنا الآن تماما

       مثل ذاك القفص

 

فمراحل القصيدة بعضها يفضي إلى بعض انطلاقا من القلب وانتهاء بالقفص فكأن كل كلمات القصيدة تصبّ في كلمة واحدة هي القفص حيث أنها نابعة كمن القلب الذي صار من حيث أنّه لم يصرّح – قفصا.

 

وكلّ هذه المراحل الخمس يمكن أن تؤلف حركتين وخاتمة هي الاستقرار.

فالحركة الأولى إذن تنطلق من المنبع هو القلب الذي اختلت مداركه لأنّ ليلى لم تأت في الموعد فـفقد الشاعر المقدرة على النطق حيث صار صوته رخاما على شفته وهذه صورة جديدة في الشعر العربي ذلك أن الرخام يمثّل في هذا السّياق الجمود والبرودة على الشفتين المتحركتين النابضتين اللّتين يخرج من بينهما الصّوت فبداية القصيدة تمثّل استحالة النطق لكنّ باقي القصيدة إثبات لقدرة الشاعر على الكلام بالرغم من اللّجام

 

أمّا ليلى فهي الاسم العربي للعشق المستحيل ويضيف محمد البقلوطي إلى ليلى القديمة صفة جديدة هي كونها رسّامة فهي حبيبة فنّانة تلامس الريشة وتواعد الألوان عالمها اللّوحة والله والطّير والبحر والسّماء وهي تطلّ من شرفتها في آخر اللّيل عند أوّل الفجر إذن فهي امرأة بين الأبيض والأسود وبين البحر والسماء وبين الطير والشجر وبين اللوحة والريشة وبين الشذا والزقزقة هي امرأة القلب وهو رجل القفص تلك هي ثنائية العاشق والمعشوق وفي هذه الحركة الأولى.

 

أما الحركة الثانية فهي ابتهلات للحبيبة أن تهجر عادات رسمها وأن تكتشف رسم دمعته لتكون جدولا للشجر ورسم غربته لتكون بلبلا حالما أو قمرا فالدّموع والغربة بالإضافة إلى القفص تمثّل ملامح اللوحة المنشود لدى الشاعر لأنها ملامحه وبصماته وهنالك تأكيد واضح على القفص مما يحمل على اعتباره في انغلاقه الدائم شبيها بزنزانة في السجن وهو سجن أو قفص خال من غناء البلابل مثل الطفل بدون لعب، أو الخمر بدون فوضى. فالطفولة رمز المرح البريء والخمر رمز للأحلام في استحالتها لأنها بلا نشوة وبلا سحر تماما كحياة الذين هزمتهم الحياة فغدوا بلا طموح وبلا جاذبية تشدّهم إليها والبيت الذي بدون جرس يمثّل الوحدة والغربة واللاّمبالاة التي يعيش فيها الشاعر

 

أما الذي يأتي بعد هاتين الحركتين فهو المرارة القصوى والخيبة الكبرى في قوله:

              انظري يا ليلى

              أنا الآن تماما

              مثل ذاك القفص

 

فالشاعر كأنّه رسم نفسه على لوحة لتنظر إليه الرسامة ليلى لعلّها تدرك حالته وقد صار الكلام مستحيلا على شفتيه فهنالك تداخل بين اللّوحة والقصيدة أو بين الرّسم وبين الشعر في هذه القصيدة التي أعتبرها تجديدا مهما في تاريخ الشعر العربي

 

إنّ قصيدة " اللّوحة" لمحة شعريّة فيها التركيز والتكثيف والإشارة والمباغتة التي تصبح هي بيت القصيد. إنها أنموذج للشعر الجديد الذي علينا أن نستنبط له أدوات نقديّة جديدة لنصل إلى رصد خصائص الإبداع الشعري فيه.

 

العلاقات الأخرى:

هذه العلاقة التي نلاحظها بين الشاعر والرسامة في هذه القصيدة هي علاقة جديدة في الأدب العربي بين الرجل والمرأة فلا هي علاقة حبّ روحاني ولا هي علاقة حبّ شهواني وإنّها هي الفنّ فالكلام  يحنّ إلى الألوان والقلم يدعو الفرشاة والورقة تحنّ إلى اللّوحة فالعلاقة هنا علاقة تناغم للتتمخّض عن سمفونية الفنّ الخالص.

 

وبقدر ما كانت ليلى الرسامة هادئة منسجمة مع ألوانها وفرشاتها إذ هي تواعدها وتنحو عليها وتطلّ من الشرفة في اللّيل مطمئنّة بالله والطّير والسّماء والبحر. ملء سمعها الزقزقة وملء عطرها الشذا، كان الشاعر يحيا انعدام التّوازن والفوضى بل صار صوته رخاما رمزا لعدم التّواصل مع الغير وهو إلى الحزن والكآبة والغربة لأميل رغم توقه إلى الضوء والغناء في قوله " البلبل والقمر" فإنّ  الشاعر في هذا القصيد يعاني من العلاقات الباردة فصار  وحيدا غريبا خاويا مثل القفص المهجور ومثل الطفل الحزين والخمر التي لا نشوة فيها وإذا كان القفص رمزا للسّجن دائما فإنه هنا يصبح رمزا للوحشة  وللغربة.

 

أما العلاقات الجديدة في اللغة فهي هذا الواو الذي هو واو العطف لكنّه يفيد الفصل ذلك أنه في هذا السياق يتضمّن معنى آخر هو إلى الاستدراك والتأكيد والتخصيص أقرب وعندما يتكرّر مرّات ثلاث يصبح إيقاعا صوتيا كلازمة مع إيقاع أشمل يضمّ الأسطر الثلاثة الأولى التي وردت على نفس التركيب تقريبا.

 

قد لاحظنا الصوت الذي صار رخاما ونلاحظ كذلك قوله: ولم أقبّل  زهرتيها في المنام حيث تحتمل أن تكون الزهرتان كناية عن الشفتين أو غيرهما ونلاحظ كذلك قوله ـ تواعد الألوان ـ حيث جعل علاقة لغوية جديدة بين الموعد والألوان والكلمتان تسندان إلى غيرهما من الكلام في العادة وكذلك قوله أن ترسم دمعته جدولا.

 

فالشاعر قد جعل كلامه في نسق جديد وذلك هو سرّ الإبداع الشّعري إذا صيغ في المعاني الجديدة فليس بالتخريج اللغوي وحده يكون التجديد بل لا بدّ أن يشمل الوجدان الجديد والمعاني العذراء.

 

و قصيدة اللّوحة تحملنا إلى أحاسيس جديدة في الشعر العربي بالإضافة إلى اكتشافها استعمالات جديدة في اللغة وهذا هو لعمري سرّ الإبداع فيها

أو ليس الشعر الجديد هو الذي يفتح المجال لجماليات جديدة؟

 

www.soufabid.com

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1294 الجمعة 22/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم