تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

موت الكتابة

وفق رؤيتي، إلى عنصر نشط في انتخاب الكتابة المضادة أو الحث العقلي، بصياغته اللغوية بالطبع، منتق عنوانات براقة أو عدوانية تحمل من الاستفزاز ما يكفي لتلويث بقايا الطِيبة الادبية التي نوفر اعتقادنا بامتلاكها إلى وقت الفوضى .

أهذا هو وقت الفوضى؟ إن ما نسميه نقدا، أو نعقتد اننا نمارسه كظاهرة صحية، لا يعدو كونه تجميدا لحسنا النقدي لمصلحة حسنا الحقدي، وقفزاتنا المثقوبة باتجاه ما نعده تمييزا أو تقيما لحالات نعاني منها، حتى تصبح في احايين كثيرة تسقيطا شرها يحمل حاسة النحلة التي لا تميز بين الوردة السامة وتلكم ذوات الرحيق العبق .

ان الوظيفة النقدية للغة، والتي يمثلها سيل عارم من المقالات، لا أشك ان بلدا في العالم فيه كتاب ومحللون وناشطون لغويا ولو على سبيل الاشتراك والمساهمة مثلما العراق (ثمة لذة هائلة لدى البعض حين يرى اسمه معلقا في كل الدواليب، تلك هي متعة الاشتراك حتى لو كانت العملية الجماعية هي مسعى للموت او الحرب) لن تحظى بكرامة التاريخ لأنها فقدت وهجها الفلسفي التحليلي ذاك الذي على تعبير عارم للفيلسوف كانط (توقظ الفيلسوف من سباته الدوغمائي) .

في مقابل واقع الحال هذا سيكون على الانسان ان يختار حس البداوة ليتعامل مع تفسيرات لما يراه من مرارة، ويتجه بذلك إلى حساسية خاصة تحيل، فيما تحيل إليه، إلى خشونة ترتد إلى حياة البداوة، ولست هنا ناقدا نمط عيش بل هو لون يصبغ سلوكنا تجاه الآخر بالوعورة والتصحر، فلا نعود قادرين على رؤية الأخرين إلا بعدستين فيهما تموجات من الحقد والكراهية وشيئا والحب والبكاء في آن .

(فيا ايها الشجعان المحيطون بي، ايها الشذاذ المكتشفون يا من تقتحمه مجاهل البحار مستسلمين للشراع الغدّار وانتم تسرون بالمعميات والالغاز، عبروا رؤى المنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ماكان وما سيكون. أي هذه الرموز يدل على مافات، وأيها يدل على ما هو آت؟) هكذا تكلم زرادشت.

تاركا كل الأسماء التي في طريقي على طريقة البنيويين المتهمين بالتلصص على الذهنيات استطيع القول ان الكتابة التي يمارسها أغلبنا فقدت قوت اشتعالها، واحتوت قارءها وجعلت منه مسيرا بشكل مسبق باحثا عن مصيدة هنا، أو فضيحة هنا، ضاربا عرض الحائط بكشكوله الاخباري ليحصد مع مواسم التحديث قلقلا وايمانا جديدا، وهو ليس معنيا البتة بذلك بقدر انشغالاته بهم اسمه الاستقرار، ومع هذا الغم اللذيذ وما يحتفره كل مساء يصبح سلبيا حتى بالتعامل مع آمالنه، في حين تصير احتفالاتنا بما ندعوه، عقلا قادرا على التمييز، محضية من محضيات الرمل المتحرك وكثبانه، فلا تستقر لنا قدم، ويلهو بأعصابنا الأخرون الذين يمشون في جنازة اللغة نحو مدفن صلابتنا ولا ترددنا وشجاعة قلوبنا .

فهل ان اللغة التي نقرأها كل يوم، والتي تملأ وصور اصحابها، واجهات المحال الألكترونية تمتلك حتى ذرة من شرف متعة القراءة المهدورة؟ أليس من حق القارئ ان تشكل لديه القراءة هاجسا محوريا يعيش لحظاته فيه بترف؟ أم اننا صرنا أسرى لما أسماه فرويد قابلية التكيف الثقافي بحيث تصبح مجموع حوافزنا بالكامل تقع تحت تأثير الانانية والشبقية .

إنني اعلن هنا موت الكتابة بنسجها المقالي، أو ما يعتقد البعض أنه نمط قريب، وهو لا يتجاوز في كل الأحوال فتح ملف والتعليق او الرد أو النقل او النسج خارج كل ما عرفناه وتعلمناه من بلاغة اللفظة وقدرتها على الأقناع ومتانتها، تلك ايضا من مصائب استسهال التكنلوجيا وكسل القلم.

إنني من خلال هذا الموت أستطيع القول أن أبسط اشتراطات المعرفة اللغوية وآلياتها لا يمتلكها ثلثا كتاب المقالات، وهي بلا أدنى شك معادلة يقابها ثلثان آخران من القراء، والمسؤولين منهم على وجه التحديد، اولئك الباحثون عن أسمائهم في عناوين القدح والمدح، والرعب الكامن وراء افتتاح أبواب المحال الالكترونية، وثمة تقاتل من نوع أخر باتجاه تزيين الذات وتحسين وطنيتها بالأجابة على تلك الخواطر، المقالات، حتى تحولت بعض الصحف إلى واجهات تمارس دور العرضحالجي في مكان ودور المسؤول الذي لا هم له إلا حل مشاكل الناس في مكان اخر، ولو انه وفر جزءا من حساسيته الدعائية، ومن حساسية الخوف من تلك الكتابة الميتة إلى خدمة أخرى لرؤي منه العجبُ، ولاختفى ذلك الألق السريع المرصود على صفحة الانترنيت، حيث يقول البعض (الحمد لله لم يتطرق الى اسمنا أحدٌ اليوم، العيار الذي لا يصيب يدوش قالها المصريون).

ترى هل لو أن تلك الشكاوي حملها صاحبها ووقف على باب المسؤول سيفتح له الباب، أم أن الخوف من رذالة وفضائحية وقبح الكتابة هو المحرك والمهيج لبقايا الضمير .

ماتت الكتابة، وصارت أصناما منحوتة تعبد على عجل .

لا أظن أننا نقرأ كثيرا الآن، إننا نستمتع بالبحث عن الفضائح والمستور لا غير، أننا نمارس عن لا وعي لعبة احضار الارواح، وتملكّنا الرعبُ القادم من وهج الكلمات وافتضاح المستور، حتى لو تطلب الأمر ان نكّون من بنات افكارنا الموجهة مستورا نصنعه من لفائف الجرحى والموتى كي نشعل حريقا بشخص كتب عليه، ولسبب ما، أن يكون المحقود عليه هذا المسا .

بمثل هذه الانثيالات المضادة لمثالية نيتشة وانسانه السوبرمان أشيع، أمام مسامعي، الكتابة بالطريقة العراقية تلك .

 

أسامة العقيلي

برلين

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1295 السبت 23/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم