آراء

ثورة 23 يوليو المصرية 1952.. أيقونة الاستقلال في زمن الاحتلال (3)

محمود محمد علينعود في هذا المقال الثالث عن دور ثورة 23 يوليو 1952 في تحرير مصر من ربقة الاحتلال الإنجليزي فنقول: وبالفعل تم تنفيذ خطة العملية بنجاح، حيث في الساعة السابعة والنصف صباحا أذاع البكباشي محمد أنور السادات بيان الثورة الأول، بعد أن تمكن الضباط الأحرار فى الثالث والعشرين من يوليو 1952 من السيطرة على المرافق الحيوية، ومنها الإذاعة. ونص البيان هو " اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم. وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين. وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمرها إما جاهل أو خائن أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها. وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب. أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب. وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أية غاية وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس. وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ويعتبر الجيش نفسه مسئولا عنهم والله ولي التوفيق."

ما يهمنا هنا في هذا البيان رد الفعل بعد إذاعة هذا البيان : هل يوجد ترحيب من الجيش والشعب لهذا البيان ؟

نبدأ أولا بموقف الجيش بمجرد إذاعة البيان سارعت جميع الوحدات العسكرية وخارجها بإعلان انضمامها للثورة، خاصة بعد أمسك زمام الأمور في الجيش المصري الشباب وذلك بعد أن نحوا كل القادة القدامي . وأما بالنسبة لموقف الشعب، فنجد ان الثورة قوبلت بتأييد شعبي لم يسبق له مثيل، حيث التقت الجماهير حول أجهزة الراديو تستمع للبيان في فرحة وحماسة، وذلك عندما خرج اللواء محمد نجيب في الساعة التاسعة من ملني رئاسة الجيش في عربة مكشوفة، واخترق الموكب شوارع القاهرة قابلته الجماهير بالتصفيق والهتاف.

وثمة نقطة مهمة وهي أنه عقب قيام الثورة في يوم الأربعاء وانتشارها في طول البلاد وعرضها، كان الملك فاروق قابعا في قصر رأس التينة في الاسكندرية، وقدم الهلالي استقالته للملك الذي أمر علي ماهر بتشكيل الوزارة الجديدة بناء علي طلب قادة الثورة . وفي مساء 23 يوليو عقد قادة الثورة اجتماعا يعتبر من أخطر اجتماعات الثورة، حيث  تقرر فيه عزل الملك فاروق، وتنازله عن العرش لابنه أحمد فؤاد الثاني  حيث يذهب إليه علي ماهر ليسلمه وثيقة التنازل، ثم إرسال بعض الوحدات العسكرية إلي الاسكندرية لتعزيز قواتها، وذهب علي ماهر وقدم للملك فاروق وثيقة التنازل عن العرش لابنه وغادر الملك يوم 26 يوليو 1952 وحملته الباخرة المحروسة إلي غير رجعة وبذلك انتهي حكم آخر حاكم من أسرة محمد علي .

وهنا يمكن القول بأنه ليس من الاجحاف بثورة يوليو أن نقول إن الذين فجروا شراتها حتي استطاعوا أن ينهوا حكم أسرة  محمد علي لم يكونوا يدركون تماما عظمة الحدث الذي أقدموا علي صنعه في تلك اللحظة التاريخية . لقد كانت مغامرة تفاعل فيها السخط مع البأس مع الأمل في آن واحد، فالضباط الأحرار الذين انتفضوا في تلك الليلة كانوا في المقام الأول أفراداً يعبرون عن سخطهم علي النظام القائم، ويأسهم من اصلاحه، وأملهم في أن يقتلعوه ويقيموا مكانه نظاماً جديداً . وباعترافهم هم كانت مشاعر السخط حارة، ومشاعر اليأس مرة، ومشاعر الأمل قوية . ولكن كل هذه المشاعر؛ وبخاصة مشاعر الأمل – كانت مبهمة وهلامية، وبلا قسمات ايديولوجية واضحة المعالم. وكان لديهم إدراك لا يقل ابهاما وهلامية، في أنهم في سخطهم ويأسهم وأملهم يمثلون آخرين غيرهم في الجيش وفي المجتمع . ولكنهم لم يدركوا في تلك اللحظة التي انتفضوا فيها أن معادلة السخط واليأس والأمل بكل مفعولها الانفجاري الكامن هي معادلة الثورة . فالأغلبية الساحقة للشعب المصري كانت تشترك معهم في كل هذه الأنواع الثلاثة من المشاعر، بل ولم يدرك هؤلاء الضباط المائة في تلك الليلة من صيف يوليو 1952 أن معادلة الثورة هذه بمكوناتها (السخط واليأس والأمل) هي معادلة ثورة قومية تتخطي الحدود القطرية للدولة المصرية . فالأغلبية الساحقة لشعوب الأمة العربية كانت تشترك معهم في تراكم هذه الأنواع الثلاثة من المشاعر.

لقد كانت ثورة يوليو استجابة طبيعية حادة لوجود أزمة اجتماعية سياسية حادة في داخل مصر، فقد تعثر النظام الملكي الحاكم في مواجهة المشكلتين الرئيسيتين اللتين شغلتا عدة أجيال مصرية متعاقبة منذ منتصف القرن التاسع عشر- وهما المشكلة الوطنية والمسألة الاجتماعية ؛ أو الاستقلال والعدالة. وكانت اخفاقات النظام المتتالية في مواجهة المسالتين في الفترة من 1923 إلي 1952 مرورا بتعطيل الدستور، ومهادنة الإنجليز، واطلاق يد كبار الملاك في النهب والاستغلال، وهزيمة حرب فلسطين، والفشل في إجلاء قوات الاحتلال من منطقة قناة السويس، والعبث بالحريات العامة، وازدياد حدة البطالة والتضخم، وانتشار الفساد – هي أسباب السخط واليأس والأمل الذي اعتمل في صدور الضباط الأحرار. لقد كانت هذه الاخفاقات في مجملها هي التي وضعت النظام الملكي في مأزق أزمته التاريخية في أوائل الخمسينات؛ وجعلت من الثورة حتمية تاريخية كاستجابة ضرورية لتلك الأزمة.

وعلي كل حال فقد نجحت الثورة في طول البلاد وعرضها، حيث بدأ الضباط الأحرار يصيغون لنا المبادي الستة للثورة: القضاء علي الاستعمار وأعوانه، والقضاء علي الاحتكار وسيطرة رأس المال علي الحكم، والقضاء علي الإقطاع، إقامة عدالة اجتماعية، وإقامة جيش قوي، وإقامة حياة ديمقراطية.

 وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم