آراء

الأبعاد الحقيقية للغزو الأمريكي لأفغانستان (4)

محمود محمد علينعود ونكمل حدثنا في هذا المقال الرابع عن البعد الحقيقي لعزو الولايات المتحدة لأفغانستان وذلك عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة، وفي هذا نقول: أقامت الولايات المتحدة قاعدة جوية أمريكيـة في قيرغيزستان، وصفها قائد الحملة الأمريكية علـى أفغانـستان "تـومى فرانكس" Tommy Franks بأنها قاعدة نقل جوى رئيسية، ويتمركز فيها ثلاثة آلاف جندي أمريكي، بالإضـافة إلى طـائرات مقاتلـة وطائرات دعم أخرى. وقد بدأت الولايـات المتحـدة في بداية يناير 2002م،في تعزيز تلك القاعدة علـى أسـاس مذكّرة تفاهم بين البلدين حصل الأمريكيون بموجبها على حقوق سيادية في هذا البلد، منها إدخال أسلحة وإعفاء من التفتيش وتمتع المواقع والمـواطنين الأمـريكيين بالحـصانة الكاملة وعدم إخـضاعهم للقـوانين المحليـة والـسماح للمواطنين الأمريكيين بالدخول والخروج من قيرغيزستان ببطاقات الهوية، مما جعل أحد جنـرالات الاسـتخبارات الروسية ويدعى " فاسيلي ليوفوف " يتحـدث عـن "تحويـل قيرغيزستان إلى بلد محتل "، كما أعيد تجهيز مطار "ما نـاس" لاستقبال ثلاثة آلاف خبير عسكري أمريكي وعدد كـبير من الأجهزة والطائرات الأمريكية . وتكتـسب القواعـد الأمريكية العسكرية في قيرغيزستان أهمية خاصة مع كونهـا تقام في مناطق قريبة من الصين، ولهـذا سـيكون بوسـع الولايات المتحدة استخدام هذه المرتكزات للإشراف علـى المناطق الغربية وعلى الحدود الهندية الباكستانية.

أما طاجيكستان، والتي كانت تعد أقرب حليف لروسيا في المنطقة، فقد أخذت تعزز علاقتها مع الولايـات المتحدة الأمريكية، فوافقت على وضع قاعدة "كولياب" الجوية الواقعة على بعد 100 كيلو متر من الحـدود الأفغانيـة، تحـت تصرف القواعد الأمريكية والفرنسية، كما وافقت علـى نشر ما يقرب من 4000 عسكري أمريكـي وأوروبي في تلك القاعدة، في الوقت الذي طالب الرئيس الطـاجيكى "إمام على رحمانوف "، موسكو بـدفع 200 مليـون دولار سنوياً لقاء وجود قاعدة روسية في أراضي بلاده . وكانـت الولايات المتحدة قد ألغت الحظر الذي فرضته سابقاً علـى تصدير السلاح إلى طاجيكستان مما يوحي بأنها تريـد أن تشارك في إعادة تجهيز القوات المسلحة الطاجيكية تمهيـداً لتقليص الاعتماد على روسـيا.

هذا بالإضافة إلى القواعد الأخرى وسط آسيا مثل قاعدة "دييجو جارسيا" في المحيط الهادي بالمشاركة مع القوات البريطانية، والتي تعد قاعدة دعم لأسطولها ولجيشها في وسط آسيا وقواعدها الجوية في اليابان (كادينا بأوكيناوا وميساوا ويوكوتا)، و(قاعدة أنجرليك الجوية في تركيا )، بالإضافة إلى قواعد في كوريا الجنوبية وفي الفلبين، وفي أوربا الشرقية هناك قواعد بويدز وكرزيسنى الجوية في بولندا، وقاعدتي بيرمير وجراف إجناتيف الجويتين في بلغاريا، بالإضافة إلى قاعدتين أرضيتين وهما مركز آيتوس اللوجستى ونوفو سيلو، ومرفأ البحر الأسود كونستانزا في رومانيا.

وكان هدف الولايات المتحدة من ذلك هو الاحتفاظ بقواعد عسكرية قرب الدول المناوئة لها لتسيطر من خلالها واشنطن على مختلف السياسات في آسيا الوسطي والقوقاز بالذات لتذويبه في حيز جيوسياسي واستراتيجي واسع يمتد حتى الوطن العربي ومنطقة الخليج العربي، بقصد الهيمنة على أوراسيا، وهذا يعنى أن احتلال أفغانستان يمثل بداية حلقة السيطرة على الشرق الأقصى،ويحد من أي توسع لنفوذ روسيا أو الصين، ويؤدي كذلك إلى توسيع النطاق العسكري والسياسي لحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

ولا شك في أن التواجد الأمريكي في آسيا الوسطي من خلال تلك القواعد العسكرية نقل الاستراتيجية الأمريكية من مرحلة الدبلوماسية الهادئة إلى التواجد العسكري المباشر بعد أحداث 11 سبتمبر2001م، بعدما انتهي التقييم الاستراتيجي للفرص والمزايا والمخاطر والتهديدات التي تنطوي عليها المنطقة،

والذي دفعها إلى قمة أولويات الانتشار الأمريكي، بوصفها منطقة جيواستراتيجية مهمة في لعبة الصراع العالمي على منطقة النفوذ وموارد الطاقة.

وعليه فقد وجدت الولايات المتحدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م الفرصة سانحة، لتحقيق مراميها الاستراتيجية في التحكم في موازين الطاقة العالمية ليس فقط عن طريـق السيطرة على منابع النفط، ولكن أيضاً عن طريق إيـصال موارد بحر قزوين إلى البحار المفتوحة، ومنها للأسواق العالمية عبر طرق آمنة ومضمونة؛ حيث وفرت الحرب الأمريكيـة المزعومة ضد الإرهاب للجيوش الأمريكية التواجد في آسيا الوسطى، عن طريق القواعـد العـسكرية في تركمنـستان، وأوزبكستان، وأفغانستان، ومن ورائهم باكستان، فضلاً عن التواجد المسبق في دول القوقاز "أذربيجان، جورجيا.

وبالتالى يمكن تلخيص الأهداف الموسومة بالاستراتيجية لأمريكا في المنطقة تميزا لها عن الأهداف الظرفية والتكتيكية (نشر الديمقراطية، محاربة الإرهاب، وتثبيت دعائم الاستقرار، منع النزاعات والحروب الاثنية وتطبيق حقوق الإنسان...) في العناصر الثلاثة:

العنصر الأول : عزل روسيا : من السلام الساخن إلى الحرب الباردة الجديدة :

تشكل روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي المصدر الثاني للقلق الاستراتيجي الأمريكي على مستقبل مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم، إذ لا تزال روسيا بمثابة الثقب الأسود واللغز المحير في المشروع الاستراتيجي الأمريكي للهيمنة الشاملة على عالم ما بعد الحرب الباردة، بالرغم من تراجع الدور الروسي في العقد الأخير من القرن العشرين على الساحة العالمية، إلا أن التطورات الداخلية التى حدثت في روسيا، ومنها وصول "فلاديمير بوتن" Vladimir Putin إلى سدة الرئاسة سنة 1999م، حفزت روسيا على النظر إلى ما وراء أفقها الداخلي وأثبتت السياسة الروسية في السنوات التالية وفي علاقاتها الخارجية على عودة منظورة للدب الروسي إلى لعبة الصراع الدولي بعدما انقضت فترة السلام الساخن التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. وقد استشعرت الولايات المتحدة هذه التوجهات فسارعت إلى تبنى استراتيجية لعزل روسيا جيوسياسياً عن طريق منعها من العودة إلى مناطق نفوذها السابق في أوربا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطي كشرط أساسي لأية علاقات أمريكية – روسية، الأمر الذي دعا إليه " هنري كيسنجر" بضرورة احتضان روسيا كجزء من النظام العالمي الجديد بشرط أن تفهم عملية مشاركتها المتعبة . وعليها أن تعي أنها ليست مخولة بأن يتم تسليمها مناطق النفوذ التي طمع بها القياصرة والمسؤولون في الحزب الشيوعي على طول حدود روسيا الشاسعة لمدة 300 عام، فإذا أزمعت روسيا أن تكون شريكاً جاداً في تشييد نظام عالمى جديد، فعليها أن تستعد للامتثال لضوابط الاستقرار، ومن ضوابط الاستقرار تسليم مناطق نفوذها وعدم العودة إلى سياسة الأخ الأكبر والتخلي عن حديقتها الخلفية.

أرادات الولايات المتحدة أن تعيق عملية بناء قوة روسيا كلاعب استراتيجي في منطقة أوراسيا، وعملت بكل قوة على حرمان روسيا من ثلاث ركائز هى : أوكرانيا، وأوزبكستان، وأذربيجان، فأوكرانيا تطل على البحر الأسود الذي يؤدي إلى المضايق التركية، ويقف النفوذ الأمريكي في أوكرانيا حائلاً أمام النفوذ الروسي ومساعيه لنشر الأساطيل، وفي هذا الشأن تسعى الولايات المتحدة عبر الأبواب الخلفية لإقناع تركمنستان بقبول بناء خط ترانز- خزر المتجه للشواطئ الأذربيجانية لكى تقلل من الفوائد الروسية وتقلص فرص نجاح موسكو في السيطرة على مصدر حيوي مثل   الغاز.

ويقول بريجنسكي:" إن هدف الولايات المتحدة ينبغي أن يكون دائماً الحفاظ على التعدديات الجيوستراتيجية في منطقة أورآسيا بكل ما تعنيه من خصوصيات ثقافية وخطوط تماس عقائدي. فالحفاظ على التعدديات الجيوسياسية يمنع نشوء تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة، وعلى واشنطن أن تبحث عن شركاء استراتيجيين يساعدونها في بناء أمنى الأوراسي – الأطلسي على المدى البعيد".

وتنطوي استراتيجية عزل روسيا من خلال التواجد العسكري في آسيا الوسطي على اعتبار هذه الأخيرة تشكل قاعدة مثالية لتهديد روسيا بالاقتراب من حدودها الجنوبية وإحاطتها بكماشة تستكمل حلقة النفوذ الأمريكي من جهة أوكرانيا، فإذا عزمت روسيا على تحدي الدور الأمريكي السياسي والعسكري، فإن هذه المنطقة هي الأصلح لإيذاء روسيا لتوفر مجموعة من الذرائع والتبريرات للتدخل في هذه المنطقة وشؤونها فقد خلقت الإمبراطورية السوفيتية المنهارة عدداً كبيراً من المشكلات الإقليمية التي تصلح للاستغلال، فهناك النزعات الحدودية والقومية وتصاعد دعوي الاستقلال والانفصال القومي والديني، وهي عوامل لها امتدادات واسعة داخل العمق الروسي نفسه، وجيوسياسياً مهدت الولايات المتحدة من خلال آسيا الوسطي، إلى بناء عائق استراتيجي نحو التوجهات الروسية في آسيا حيث الهند والصين، وينم ذلك عن مخاوف أمريكية عميقة من تشكل حلف استراتيجي أو مثلث استراتيجي بين روسيا والصين والهند، وهو الذي دعا إليه الرئيس الروسي" فلاديمير بوتن" عند زيارته كل من الصين والهند في عام 2004م.

فهكذا تحالف لا شك أنه يشكل أكبر قيد على التحرك الأمريكي لعزل روسيا على ثلاثة أعمدة رئيسية:

أ- هو إقامة تحالفات وعلاقات سياسية مع دول الجوار الروسي خاصة في القوقاز وآسيا الوسطي وأوربا الشرقية.

ب- توسيع المظلة الأمنية لحلف الطاقة بمنع روسيا من التحكم في خطوط نقل النفط وعبر الممرات السوفيتية السابقة .

وتتلخص عملية عزل روسيا ضمن استراتيجية الاحتواء العالمي أو الاحتواء الشامل، إنه بالمزج بين الوسائل الاقتصادية والوجود العسكري المباشر علي حدود روسيا سوف يزيح كل أوهام روسيا بشأن احتمالية قيام نوع من الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية يتيح لها أن تضم دول الجوار إلي دائرة نفوذها أو تشارك في أي شكل من أشكال التحالفات المضادة "المشكلة للحد من التفوق الأمريكي في أوراسيا ". لذا يتعين علي الولايات المتحدة الأمريكية أن تتبع سياسة تقديم معضلة البديل الوحيد أمام روسيا، علي أن تعمل-في الوقت ذاته – علي الحيلولة دون قيام أي تحالف محتمل مع الصين وإيران ضد هيمنتها، وقد ساعد ذلك علي جعل روسيا تبعد اهتمامها وتركيزها عن جمهوريات آسيا الوسطي، ويمكن للولايات المتحدة من تنفيذ لاستراتيجيات في أوراسيا دون أي عقبات تذكر، وذلك فيما يمكن اعتباره أساساً استراتيجيا في الاحتواء العالمي من جهة أخري، وقد كشفت أزمة القوقاز الأخيرة بين روسيا وجورجيا علي صحة التحليلات التي تري في الأزمة الأخيرة بوادر حقيقية علي عودة الحرب الباردة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، قاعدة انطلاقها هي السيطرة علي آسيا الوسطي والقوقاز وهو ما دفع بوسائل الإعلان والتحليلات السياسية الدولية إلي الحديث عن حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا .

كما سعت الولايات المتحدة لتطويق روسيا عبر عدة وسائل من أبرزها تشجيع حالة عدم الاستقرار السياسي الداخلي للولايات والأقاليم التي تحاول الانفصال عنها، وبالتالي تفتيت الوحدة الوطنية الروسية، إضافة إلى منعها من إعادة البناء الاقتصادي وتنشيط اقتصادها، مما يؤهلها لاستعادة النفوذ السوفيتي ولتنهض كقوى عظمى وهو مسعى الحكومة الروسية الحالية، ويتأكد ذلك من خلال توجهاتها نحو استعادة نفوذها على الجمهوريات السوفيتية السابقة، ومنها جمهوريات وسط أسيا وتطوير اقتصادها بالاعتماد على ما تمتلكه هذه الجمهوريات من موارد معدنية (نفط وغاز)، وهو ما تعارضه الولايات المتحدة، لأجل ذلك اتبعت الولايات المتحدة عدة وسائل لمنع روسيا من الوصول إلى هذا الهدف، ويأتي في مقدمة تلك الوسائل هو اختراق الجمهوريات السوفيتية السابقة، ومنها جمهوريات وسط أسيا، والهيمنة، والسيطرة عليها لقطع الطريق أمام روسيا، وكذلك أثارت النعرات الأثنية والانفصالية في الداخل الروسي لإضعافها وتفتيتها.

العنصر الثاني: احتواء الصين في مثلث الاحتواء الشامل:

أما الصين صاحبة أكبر عدد سكان في العالم والموقع الجغرافي المهم، والتي تطرح نفسها كقائدة لآسيا، وأن أي محاولة لمنعها من هذه القيادة، قد يؤثر على الولايات المتحدة أكثر من الصين، لأنها ستفتح الباب أمام روسيا من جديد، أو على أقل تقدير سيدخل الطرفان في صراع، أو حتى حرب لا تخدم الطرفيين، الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة لاستخدام أسلوب جديد مع الصين، يختلف عن الأدوات التي استخدمتها مع روسيا، وتمثل هذا الأسلوب باستغلال العلاقات المتوترة مع جيرانها، مما يبعث برسالة إلى الصين، بإمكانية أثارة الاضطرابات مع الدول المجاورة، وبالتالي يفتح الباب واسعا" أمام التدخل الأمريكي ضد الصين، مما قد يؤثر في نهاية المطاف على الاقتصاد الصيني.

ويمثل الصعود الصيني المطرد والمتنامي اقتصادياً، وعسكرياً، وثقافياً هاجس التفكير الاستراتيجي الأمريكي، ومبعث القلق الشديد في الأوساط الأكاديمية دوائر التخطيط الأمريكية لفترة ما بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي عن مسرح العلاقات الدولية والسياسة العالمية، إذ لم تعد الصين ذلك العملاق النائم كما درجت الأدبيات السياسية وصفه، بل أضحي ذلك التنين الأصفر ذو الرؤوس الاقتصادية والمالية والعسكرية المخيفة، والذي استحق به لقب زعيم آسيا بدون منازع، فبعد قرون من السبات تهب الصين، لتقف على قدميها لتحتل المرتبة الأولي في العالم، كأسرع معدل للنمو، والمرتبة الثانية كثاني أكبر وأوسع اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وكثاني أكبر مستورد ومستهلك للطاقة في العالم، وثاني أكبر دولة في الانفاق العسكري السنوي.. الخ ... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم