آراء

لماذا التعنت الأثيوبي في ملئ سد النهضة؟ (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن التعنت الأثيوبي في ملئ سد النهضة؛ حيث نتكلم عن الأمر الثاني من أمور التعنت وفي هذا يمكن القول: إن الذي جعل المفاوضات تتعقد وتصب وهي الاعتبارات الداخلية؛ وبالأخص علي الصعيد الداخلي فيما يتعلق بأثيوبيا تحديداً، فمنذ فترة طويلة تم حشد الرأي العام الداخلي في أثيوبيا حول مشروع سد النهضة باعتباره مسألة كرامة وطنية وأمل كبير جدا في تحقيق النهضة للأثيوبيين الذين يعاني من الفقر والعوز، وهذا ليس معناه أن السد ليس مهما للأثيوبيين، بل بالعكس فالسد بالغ الأهمية وضروري جداً للأثيوبيين الذين يعانون من فقر شديد في الكهرباء والتنمية، وإنما الخلاف علي حجم السد، لكن في النهاية تم حشد الرأي العام الداخلي الأثيوبي الذي مول السد من موارده الخاصة وجيوبه علي أنه مشروع قومي .

أما الوضع في مصر فهو مختلف عن أثيوبيا في كل التفاصيل؛ حيث أن الحكومة في مصر علي عكس الوضع في أثيوبيا، حاولت أن تبعد الشعب تماماً عن هذه المفاوضات، كما حاولت أن تتجنب وجود أي حشد شعبي حتي لا يؤدئ إلي تعقيد المفاوضات، لكن في النهاية الرئيس عبد الفتاح السيسي قال "أن السد يمثل لنا مسألة حياة "، ورفض أن يقول حياة أو موت كي لا يعطيها صيغة تهديد. لكنه قال هذا الكلام في أكثر من صيغة باللغة العربية، وقال في مرة من المرات " لا تقلقوا أنا ما ضيعتكمش قبل ذلك علشان اضيعكم في مسألة السد"، وبالتالي لا يمكن للسيسي ولا أي رئيس غيرة يستطيع أن يقول للمصريين نحن فشلنا والمياه أخذوها مننا " .

الأمر الثالث: العوامل الخارجية، وأخص بالذكر التدخلات الإسرائيلية والتركية والقطرية في هذا الشأن لتحريض أثيوبيا علي إقامة السد وتمويله كي يتم تعطش الشعب المصري، وبالتالي القضية في نهاية المطاف هي كما يقول الدكتور هاني رسلان في بعض مقالاته:"توازن قوى.. وتغيير هذا التوازن على حساب مصر هو مربط الفرس، وهو الهدف الذى يتم السعى إليه عن طريق التحكم فى المياه بواسطة السدود دون وجود أى التزامات على عاتق إثيوبيا فى كيفية التصرف فى المياه المحتجزة أو استخداماتها". ومن ضمن عشرات الشواهد والقرائن، وعلى سبيل المثال فقط، فإن الحديث يتم طوال الوقت عن أن غرض سد النهضة هو توليد الطاقة فقط، ولكن حين ظهر إعلان المبادئ أصرت إثيوبيا على إضافة عبارة فضفاضة جدا «.. وأغراض التنمية الأخرى».. وفى هذا السياق فإنه من الواضح لكل ذى عينين أن سد النهضة والسدود التى ستليه ليست سوى الأداة التنفيذية لهذه الاستراتيجية الساعية بمضاء ونجاح حتى الآن لإقرار هذا الواقع الجديد.

الأمر الرابع: إن المنطق الأثيوبي يقول: ماذا تريدون منا أيها المصريون .. المصريون يقولون أن هناك مجموعة من القوانين تعطيني الحق في المياه في النيل من سنة 1891، 1902، 1929، 1959.. والأثيوبيون يقولون لهم كل هذه الاتفاقيات لا نأخذ بها .. المصريون يسألون الأثيوبيين: ماذا تريدون من المياه .. هذه المياه لستم في حاجة إليها .. هناك أكثر من 900 مليار متر مكعب تسقط علي أراضيكم .. وعندكم حوالي 13 نهر .. يقول الأثيوبيون " النهر نهرنا والسد سدنا .

وفي الحالة نتساءل: ماذا لو مضي الأثيوبيون بهذا المنطق وقرروا إقامة السد كما يقولون وحدثت النتيجة المتوقعة وهو أن الماء انقطع عن المصريين وجف الماء من النيل .. ماذا يفعل المصريون ؟ ما هي السيناريوهات التي يمكن أن يتخيلها الأثيوبيون أمام شعب مصر الذي بدأ يعاني من الجفاف ؟ كيف يمكن أن ينعكس ذلك علي أثيوبيا ؟ هل هذا الشعب سوف سيظل طوال الوقت في حالة مفاوضات .. إذن صانع القرار الأثيوبي قد وضع نفسه أمام مشكلة خارجية كبيرة نتيجة أنه حشد الرأي العام ضدهم .

إذن ما هي الخيارات المطروحة الآن؟

هُناك ثلاثة خِيارات أمام الحُكومة المِصريّة: الأوّل: أن تُدافع مِصر عن مصالحها وأمنها المائيّ، بضرب هذا السّد وتدميره وتحمّل النّتائج كاملةً، وهي تملك القوّة والطائرات القادرة على القِيام بهذه المهمّة. الثّاني: أن تُعلن حربًا بالإنابة طويلة الأمد ضِد إثيوبيا، وتدعم أعداءها في القرن الإفريقي، وتثوير حركة تحرير إقليم أوغادين الصوماليّة الذي ضمّته إثيوبيا، وكذلك الحركات الانفصاليّة الإسلاميّة الأُخرى داخل إثيوبيا، وتتبنّى وجهة نظر إريتريا في الخِلاف الحُدودي الأريتري الإثيوبي، وإعادة إحياء هذا الخِلاف بطريقةٍ أو بأُخرى، والمُخابرات المِصريّة لها باعٌ طويلٌ في القرن الإفريقي كما يقول ستراتفو. الثّالث: أن تستسلم الحُكومة المِصريّة لأساليب المُناورة الإثيوبيُة، وتخضع للأمر الواقع تَجنُّبًا للحرب وما يُمكن أن يترتّب عليها من خسائرٍ.

والسؤال الأن: هل تَلجأ مِصر إلى الخِيار العسكريّ بعد انهِيار تِسع سنوات من المُفاوضات “العبثيّة” مع إثيوبيا حول سدّ النّهضة على غِرار مُفاوضات أوسلو الفِلسطينيّة الإسرائيليّة؟

لا نملك الإجابة، ولا نَستبعِد التّأجيل والتريّث تَجنُّبًا لمخاطر الحرب، خاصّةً أن المنظومات الدفاعيّة الإسرائيليّة هي التي تُوفِّر الحِماية لسد النهضة، والمُستشارون الإسرائيليّون هُم الذين يَقِفون خلف هذا الموقف الإثيوبي المُتشَدِّد.

ليس جديداً.. ولم يكن مفاجئاً.. تأجيل التوقيع علي العقد الخاص بدراسات سد النهضة الاثيوبي مع المكتبين الاستشاريين الفرنسيين لأجل غير مسمي.. فقد اعتدنا علي هذه المراوغات والمماطلات المريبة.. وتراكمت لدينا عقيدة بأن مسار التفاوض في ملف السد صار مخادعة هزلية.. تعتمد علي الغموض والتهرب من أي استحقاقات.. بالضبط كما تفعل اسرائيل في مفاوضاتها الهزلية مع أشقائنا الفلسطينيين حول حل الدولتين.. إثيوبيا تسير علي نفس النهج الاسرائيلي.. مدعومة بخبرة وتأييد حكومة نتنياهو الارهابية.. التي لا تقيم وزنا لقانون أو قرارات أو اتفاقات.. وأبسط دليل أن الاتفاق علي المكاتب الاستشارية تم في أغسطس ..2014 وبرغم ذلك فالتوقيع علي العقود التي تحدد المهام والدور القانوني والاستشاري للمكاتب لم يتم.. وبدا واضحاً لكل ذي عينين أن النية مبيتة لإغراقنا نحن المصريون في تفاصيل التفاصيل حتي يكتمل بناء السد ويصبح من المستحيل إجراء أي تعديل أو تغيير في التصميم توصي به الدراسات الاستشارية.. وبالتالي يصبح وجود المكاتب ودراساتها غير ذات جدوي (وذلك حسب قول مؤمن الهباء في مقاله سد النهضة.. ومسارات جديدة).

المشكلة من وجهة نظري أننا أعطينا اثيوبيا ثقة لا تستحقها.. واعتمدنا علي حسن النية.. بينما كانت استراتيجية اثيوبيا. ومعها السودان. تقوم منذ البداية علي المماطلة والمراوغة لحين فرض الامر الواقع.. وللأسف مازالت هذه الاستراتيجية تطبق بنجاح باهر.. ويكفي في هذا الصدد أن قرار تأجيل التوقيع الثلاثي علي عقد المكتبين الفرنسيين لم تعلن أسبابه بصورة محددة.. وإنما ترك الأمر للتخمين.. هل هناك خلافات قائمة بين المكتبين؟! هل هناك مشكلة في منح التأشيرات السودانية للوفود التي ستحضر التوقيع؟! هل سحبت اثيوبيا موافقتها علي المكتب الذي رشحته مصر؟.. أليس من حق المصريين أن يعرفوا ما يدور في هذا الملف الخطير الذي يتعلق بأمنهم القومي.. أم ان المطلوب ان نظل غارقين في تصريحات وزير الري البائسة التي لم نر لها علي الأرض أي ظل من الحقيقة؟.. فالرجل يردد تصريحات وردية جعلتنا نصدق ان الأمور تسير علي ما يرام.. وكل شيء تمام.. ليس هناك أي مشاكل (حسب قول مؤمن الهباء في مقاله سد النهضة.. ومسارات جديدة).

سد النهضة الأثيوبي أصبح حقيقة قائمة وواقعة.. وعلينا أن نتعامل مع هذا الواقع بمقتضي القوانين والأعراف الدولية وحسن العلاقات مع كل من أثيوبيا والسودان من خلال الوثيقة التي وقعها زعماء البلاد الثلاثة واعتبرت بمثابة إطار حاكم بحيث لا تضار مصر في حصتها المقررة من مياه النيل نتيجة لقيام هذا السد.

وفي نهاية حديثي يكفيني أن أرد علي حماقات " آبي أحمد" ببقية قصيدة شوقى عن الثعلب التى يختتمها قائلا: يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا.. وازهدوا فى الطير إن العيش عيش الزاهدينا.. واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا.. فأتى الديك رسول من أمام الناسكينا.. عرض الأمر عليه وهو يرجو أن يلينا.. فأجاب الديك عذرا يا أضل المهتدينا.. بلّغ الثعلب عنى عن جدودى الصالحينا.. عن ذوى التيجان ممن دخل البطن اللعينا.. أنهم قالوا وخير القول قول العارفينا.. مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

........

المراجع

1- سيد جبيل: لماذا تصر إثيوبيا على بناء سد يهدد حياة المصريين؟ - YouTube

2- سيد جبيل: ما هي خيارات مصر في مواجهة السد الاثيوبي؟ - YouTube

3- مقالات هاني رسلان حول سد النهضة.

4- ستراتفور: مصر وإثيوبيا.. صراع تاريخي مستمر على الماء النفيس، ترجمة: محمد الصباغ.

5- مؤمن الهباء: سد النهضة.. ومسارات جديدة (مقال).

 

 

في المثقف اليوم