آراء

كيف عطلت كورونا تكتيكات جين شارب؟

محمود محمد عليمن كان يصدق أن كورونا اسم أُطلق علي شيكولاتة شهيرة، ثم تحول الاسم المحبب إلى اسم مرعب، مرادف للموت، عن طريق وحش خفي لا تعرف كيف ولا متى ولا أين ستواجهه.. إن كورونا كشف علي أنه كابوس مربك وفي حاجة إلى قرارات كبيرة وتدابير شجاعة ويتطلب ضرورات ملحة.. كما كورونا كشف لنا علي أنه يتطلب درجة عالية من الوعي الجماعي؛ خاصة بعد أن تبين لنا اجتياحه للعالم بسرعة صاروخية مذهلة، قد جعل العالم كله في وضع مهيب وجديد ومختلف، تتساوي فيه دولة غنية ودولة فقيرة..

لقد نجح هذا الفيروس أن يوقف حروب الجيل الرابع الذي انطلقت شرارته عقب سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي والمنصرم، عندما كتب وليم ليند مقاله الشهير عن " الوجه المتغير للحروب .. حروب الجيل الرابع "، وقد قامت تلك الحروب علي استراتيجية" الحرب بالإكراه، إفشال الدولة، زعزعة استقرار الدولة، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الأمريكية"، "، وهنا جاءت تكتيكات جين شارب Gene Sharp "  لتؤجج حرب اللاعنف، ضد الأنظمة المستهدفة؛ حيث ينطلق في كتابه " من الدكتاتورية إلي الديموقراطية" من فرضية أساسية مفادها أن النظم الديموقراطية هي البديل الحقيقي للشعوب الخاضعة لنظم دكتاتورية، وأن نضال اللاعنف يمثل الطريقة الوحيدة للوصول إليها، حيث "تأخذ شكل المظاهرات، والاعتصامات، والمقاطعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وذلك من خلال وسائل الأعلام الالكترونية، ومنظمات المجتمع المدني، والمعارضة، والعمليات الاستخبارية بجانب النفوذ الأمريكي، وذلك لزعزعة استقرار الدولة المستهدفة ومحاولة نشر الفتن والقلاقل، وإثارة الاقتتال الداخلي‏، من خلال إظهار مساوئ نظام الدولة المراد إسقاطها، وأول هذه المساوئ، أن هذا النظام نظام ديكتاتوري لا يحترم الحريات ولا حقوق الإنسان، وبالتالي لا بد من الثورة علي هذا النظام للقضاء عليه.

الآن في ظل فيروس كورونا تعطلت تلك التكتيكات، بل أزعم أنها فشلت تماماً، لأن شرط تنفيذ تكتيكات جين شارب التجمع والحشد بقصد التظاهر، وهذا لا يجوز في شريعة كورونا الذي يكشف عن نفسه ويكشّر عن أنيابه في التجمع والحشد .. تكتيكات جين شارب تعشق الزحام والنزول في الميادين حتي ينتفض المتظاهرون ودعاة العصيان المدني.. أما تكتيكات كورونا  فتقول بأن من يحاول أن يفعل ذلك فلا سبيل له إلا أن يتحمل عذباتي من خلال انتقال فيروساتي إلي جهازه التنفسى، فأجعله بعطس بشكل قوى، وهذا العطس يصاحبه الحمى والألم والقشعريرة، ثم الموت الذوئام  في النهاية.. تكتيكات جين شارب تنفذ ضد دولة ما يطلق عليها " محور شر" لأنها لا تنفذ طاعة العولمة ولا النظام العالمي الجديد القائم علي الهيمنة الأمريكية .. أما تكيكيات كورونا فلا تميز بين دولة ذات محور شر أو محور خير فالكل في نظرها سواء إذا لم يكن هناك حجرا صحيا أو عزلا اجتماعيا ..

تكتيكات جين شارب تتجلي بصور ومشاهد ومظاهر متنوعة، غالباً ما تكون حميدة في الشكل وليس في المضمون، ويجب أن ينفذها مواطنون من الدولة المستهدفة، عبر التدرج من التظاهر السلمي في بادئ الأمر، إلى المظاهرات والاعتصامات الصاخبة، ثم إلى أعمال عنف تؤدي إلى التمرد والعصيان على هيبة الدولة، وصولاً إلى خلق فكرة "الدولة الفاشلة"... أما تكتيكات كورونا فتعول علي الفيروسات والفيروسات كائنات عجيبة وغريبة، ودراستها تدعو أى باحث للتأمل فى خلق الله، سبحانه وتعالى، فالفيروس عبارة عن شريط غير حى يتكون من مادة وراثية خام موجودة داخل غلاف بروتينى، وهو لا يعتبر كائناً حياً لأنه غير قادر على الحياة بنفسه، بل عليه البحث عن خلية لتقوم بعمل العائل، التى يقوم هو باستنزافها لكى ينسخ نفسه أكبر عدد من المرات، وبعدها يترك بقايا تلك الخلية ليبحث عن غيرها، ويخرج منها فى عملية تسمى «الانسلال»، وعادة ما يقرر بعدها أن يدخل فى مرحلة ثانية تسمى «الكُمون»، وفيها يختار الفيروس أن يفعل «لا شىء»، فلا يبحث عن خلية أخرى، خوفاً من الجهاز المناعى للجسم الجديد، ويبقى الفيروس غير نشط لأى فترة من الزمن، ولو ملايين السنين، حتى ينشط بفعل عامل خارجى مثل: الضوء. وذلك كما قال رامى جلال في مقاله "كورونا" بين عصرين.

تكتيكات جين شارب تستهدف الدول ومجتمعاتها، إذ تستلزم أساليب وتقنيات خاصة، إضافة إلى تدريب مكثف على مواجهة وسائطها، وإلى مستوى عال من الوعي الشعبي، وذلك كونها "تُشن عبر الإعلام والمصادر المفتوحة لتصل لأفراد وشرائح المجتمع كافة، فيتم تحريض شعوب الدول المستهدفة لدفعها نحو التمرد وفقدان الثقة بالأنظمة التي تحكمها، تمهيداً لزعزعة الأمن والاستقرار ونشر ما يسمى بـ"الفوضى الخلاقة".. أما تكتيكات كورونا فمن السذاجة أن يتم التعامل معها بهذا الأسلوب التغفيلى. فالناس شركاء فى المرض، مثلما هم شركاء فى الموت. الكل يتألم حين يمرض، والكل يلقى وجه ربه حين يأذن خالق العباد، وما عند غيرك اليوم قد يأتيك غداً . إن أرقام القتلى والمصابين بفعل هذا الفيروس فى تزايد، ما يعطى مؤشراً أن منحناه ما زال فى الصاعد، ولا يعلم أحد حتى متى سيظل على حالة الصعود تلك، ليبدأ منحناه بعد ذلك فى التراجع.

تكتيكات جين شارب تعتمد على التقدم التكنولوجي ولا تستخدم فيها الأسلحة التقليدية، بل الذهنية (القوة الذكية)، كما أنها تعمل على تحويل الدولة المستهدفة من حالة الدولة الثابتة إلي الدولة الهشة، وهي تستهدف الدولة بالكامل (بما فيها المدنيين)، وتتسم أيضاً "بعدم وضوح الخطوط الفاصلة بين الحرب، والسياسة، والعسكريين، والمدنيين، وتعتمد على مجموعات قتالية صغيرة في الحجم وعلى شبكة صغيرة من الاتصالات والدعم المالي.. بينما تكتيكات كورونا تعتمد علي حالة من الهلع جراء انتشاره.. أزمة "كورونا" الحقيقية تجسدت في تحوله إلى شبح أثار الذعر في نفوس ملايين البشر حول العالم، ربما أكثر من الفيروس نفسه وأثاره، خاصة مع تواتر الحديث عن احتمالات إصابة بعض الشخصيات ذات الأهمية العالمية، على غرار رئيس وزراء إنجلترا "جونسون"، بالإضافة إلى إجراءات حكومية اتخذتها عدة دول بإغلاق مناطق ومقاطعات بعينها، وعزلها عن دولها، وهو ما قامت به الحكومة الإيطالية، وهو الأمر الذى ساهم في تعزيز المخاوف، في ظل الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها تلك الدول، لتتحول حالة "الحذر" المطلوب لمواجهة الخطر الصحى، إلى "ذعر" عالمى.

تكتيكات جين شارب تعتمد علي أساليب وأدوات حروب الجيل الرابع، حيث يصبح الإرهاب والتظاهرات بحجة السلمية في مقدمة هذه الأدوات، ويليها الاعتداء على المنشآت العامة والخاصة، والتمويل غير المباشر، لإنشاء قاعدة إرهابية غير وطنية، أو متعددة الجنسيات، داخل الدولة بحجج دينية، أو عرقية، أو مطالب تاريخية، والتهيئة لحرب نفسية متطورة للغاية من خلال "الإعلام والتلاعب النفسي، واستخدام محطات فضائية تكذب وتقوم بتزوير الصور والحقائق (تمويل لمحطات أو الإعلاميين أو أصحاب المحطات)، ويستخدم فيها وسائل الإعلام التقليدية والجديدة (مواقع التواصل الاجتماعي)"... بينما تكتيكات كورونا صارت تمثل دور النجومية فى كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية بمختلف صورها وأشكالها، فقد باتت تكتيكات كورونا تحتل عناوين النشرات الإخبارية وتتصدر الصفحات الأولى بكل الصحف، وحالة الفزع المرتبطة به، كارثية لدرجة أنها أثرت بصورة سلبية على حركة السياحة حول العالم، وأنتجت خسائر غير محدودة لشركات الطيران وما يتبعها من خدمات عديدة، بعدما تحول الفيروس من مجرد كائن دقيق إلى غول يلتهم العالم، ويغلق مدن ويعطل المرافق الحيوية، ولا نعلم متى تنتهى حالة الفزع، التى كلما ظننا أنها تنكمش وتتراجع تعاود الظهور مرة أخرى بصورة أشد ضراوة.

تكتيكات جين شارب تعتمد علي تطوير التكتيكات السلمية لاختراق وتجنيد التنظيمات داخل الدولة المستهدفة، والعمل باسمها وبغيرها من التنظيمات التي تأخذ الطابع المتطرف، واستخدام مرتزقة مدبرين، لتحقيق مخططات في الدول المستهدفة، بالإضافة إلي استخدام تكتيكات حروب العصابات، وعمل تفجيرات ممولة بطريق مباشر أو غير مباشر، والتمرد للأقليات العرقية أو الدينية، وضرب طبقات المجتمع بعضها البعض، واستخدام كل الضغوط المتاحة (السياسية والاقتصادية والجماعية والعسكرية... الخ)؛ مثل التلويح بقطع المساعدات، أو التهديدات الحربية.. الخ، واستخدام منظمات المجتمع المدني، والمعارضة، والعمليات الاستخبارية، وأخيراً استخدام العملاء في الدول المخترقة وتسليط الأضواء عليهم ومنحهم الجوائز العالمية، وتعتبر تكتيكات جين شارب هي التي تبدأ ولا يشعر بها أحد، وتستخدم القوة الذكية (Power Smart) والتي "تعتمد على التنوع الكبرى والاستخدام الذكي للقوة الناعمة والقوة الصلبة في تناغم عال مخطط طويل الأمد، حتي تستيقظ الدولة المستهدفة في النهاية وهي ميتة")"... بينما تكتيكات كورونا كشفت عن وحش كاسر لا تستطيع تحديد ملامحه، ذلك الفيروس الضعيف استطاع أن يحكم ويتحكم فى العالم، استطاع أن يدمر الاقتصاد ويهز البورصة العالمية، وأن يتسبب فى حالة هلع ورعب لدول كثيرة لمجرد شائعة أن بها مريضاً مشتبهاً فيه بإصابة فيروس كورونا.. لقد حل إرهاب الكورونا محل الإرهاب الداعشى، وصار أصحاب الحروب البيولوجية ومروجو الشائعات هم الدواعش الجدد.. بل جندنا نحن لنقتل بعضنا بعضًا بنقل الشائعات والأخبار والفتاوى المغرضة المضللة عن الفيروس ليتفشى فيما بيننا، فأراذل القوم أسافل الناس لن يرتاحوا إلا بعد إزهاق عدد لا بأس به من الأرواح.... استخدموا شتى أنواع الأسلحة، ثم تطورت الأسلحة فصارت ذرية، ثم كيميائية، ثم بيولوجية، حتى وصلنا لحروب الشائعات، فإما داعش أو الكورونا والإرهاب واحد.. تتعدد وتتنوع أساليبه لكن الموت واحد... موجة داعش الإرهابية توقفت بعد أن جفت منابعها وزهد فى تلك اللعبة ممولوها، فاتجهوا للعبة جديدة تهدف لإزهاق ما يتسنى لهم من الأرواح للتخلص من نصف الكوكب.. تلك هى غايتهم وجل أمانيهم، لقد استخدم السلاح بشتى أنواعه لسنين طويلة، فجاءنا الأكل المسرطن وحقنت الكائنات الحية بالهرمونات.. وكل ذلك كان له دور لا بأس به فى إنجاز عمليات القتل، وعندما أصبحت تلك الوسائل قديمة وغير فعالة «فتاكة»، وتأخذ ربما وقتًا طويلًا وتأثيرها تراكمى وبطىء، كان لا بد من تجريب واختراع الجديد، والوباء هو جديدهم، فبدلًا من إمداد المرتزقة من الدواعش بالسلاح والقيام بعمليات، قد تنجح تارة، وتفشل أحيانًا بفعل اليقظة الأمنية.. وبعد أن تعبت أو ملت تلك الذئاب المنفردة من عملياتها المتفرقة هنا وهناك وانكشف أمر سلاح العقيدة، وانفضح أمر المحرضين، وضعف مفعولهم وتأثيرهم على الناس.. كان لا بد من إيجاد طريقة جديدة فتاكة تودى بحيوات بشر كثيرين وبأقل التكاليف دون إمدادات أو مؤن. مجرد فيروس صغير يسير كالنار فى الهشيم ينتشر بسرعة تتجاوز سرعة الصاروخ.. يتفشى ويتمدد وينتقل من هذا لذاك ومن هنا لهناك ينقله الناس لبعضهم البعض وذلك كما قالت بسنت حسن في مقالها الرائع بصحيفة الدستور المصرية بعنوان إرهاب كورونا... وللحديث بقية عن تبعات كورونا في الأيام المقبلة إن شاء الله..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم