آراء

سيف الحجاج ولسان الحسن: هراء الماضي والحاضر!

ميثم الجنابيعندما نتأمل تاريخ العراق وأحداثه القديمة والمعاصرة، فإننا نقف أمام احتمالات لا تحصى في المواقف منه. بمعنى انه يجبرنا على التفسير والتأويل بالشكل الذي يجعل اشد الناس كسلا وغباء قادرين على إبداء الرأي، واشد الناس جبنا على قول عبارات الوعيد والتهديد. وهي حالة لا يحسد عليها العراق والعراقيين، خصوصا حالما يمتزجا في "إرادة" قواه المتصارعة!! ويصعب حد هذه الحالة بدقة المنطق وجمال البيان، وذلك لخلو الواقع منهما. كما انه واقع عادة ما يجبر الوعي السياسي المباشر على افتعال أسهل الطرق واقصرها لبلوغ الغاية. ومن ثم سحب الجميع إلى مستنقع التخلف والانحطاط عوضا عن استشراف آفاق المستقبل من خلال تحليل ودراسة الواقع كما هو. بمعنى رؤية المستقبل واستمداد البدائل منه. وهو السبب القائم وراء ترديد عبارات الماضي ونمط رؤيته للأحداث المعاصرة ومجرياتها. ويعكس هذا الترديد ضعف الرؤية النقدية تجاه النفس. وليس مصادفة امتلاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بمواقف الاتهام المتبادل وأحكام التجريم والتخوين. بحيث لا يرى المرء في الحصيلة غير مجموعة مجرمين وخونة!

فعندما يقف المرء خارج إطار القوى المتصارعة لكي يحكم عليها بما تقول عن نفسها وعمن يعارضها، فإنه يتوصل إلى أن الذي يجمعهم هو تشابههم في الرذيلة! وهو واقع يستعيد نفسه بطريقة فجة، كما يتسم بقدر هائل من الابتذال والسطحية، الذي جعل أكثر أسلافنا غلوا وحماسة في بحثهم عن سر استمرار الاستبداد الأموي وتحول العراق إلى ميدان التجريب الخشن والقتل المجاني والعشوائي والتشريد والتخريب والتدمير والسجن، أن يطلقوا عبارة: "لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري لما قامت لبني أمية قائمة"! ويمكن فهم بواعث هذا الموقف النبيل في سياسة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي دفعه الصلف والخروج على ابسط قواعد الحق واللياقة لإطلاق قولته الشهيرة:"إني أرى رؤوسا أينعت حان قطافها"!

وحالما ننظر إلى واقع العراق الحالي، فإننا نقف أمام نموذج أو نماذج لحجاج جديد أو جدد تجمعهم سمة الخروج على منطق الحق واللياقة. وبما أن الحجاج كان في نظر العراقيين هو تجسيد الاستبداد السياسي، لهذا كان الرد سياسيا أيضا. وذلك لأن الخلاف الجوهري كان بين شيعة العراق، أي من تشيع للعراق، وحكم الاستبداد الأموي. وضمن هذا السياق يمكن فهم تذمرهم الخفي والمستتر من سلوك الحسن البصري، الذي فضل الصمت والهدوء ومعارضة العنف انطلاقا من رؤيته الأخلاقية الرفيعة حول ضرورة تربية الإرادة. وهو نموذج صنع قدرية المعتزلة وعقولهم الحرة، كما استثار نزعة التحدي والغلو المعنوي عند أولئك الذين وجدوا في طريق "إشهار السيف" الأسلوب الوحيد للقضاء على القهر والعبودية. وهي ظاهرة يصعب الحكم عليها بعبارة واحدة.

فقد كان من السهل الحكم على الحجاج بالرذيلة رغم قدرته الفائقة في تهذيب العبارة والبيان، بينما كان من الصعب اتهام الحسن البصري بالجبن والخنوع رغم دعوته العلنية والمستترة للاستكانة والتهدئة. وهي حالة يمكن لمن يتمثلها طائفيا القول:"لولا سيف الاحتلال ولسان السيستاني لما قامت قائمة لبني أمية الجدد". كما يمكننا العثور على هذه الفكرة بصيغ وصور مبطنة وجلية وبأشكال مختلفة ومتنوعة. تماما بالقدر الذي يمكن أن نعثر على رديف معنوي لها في اتهامات مقابلة مثل "لولا سيف الاحتلال الأمريكي ولسان هيئة علماء المسلمين لما قامت قائمة للصفويين". وهي حالة لا هراء فيها رغم أنها التجسيد النموذجي للهراء السياسي وانعدام ابسط مقومات الرؤية النقدية والوطنية واللياقة الأخلاقية. وذلك لأنها تجمع بينهما في الأسلوب والنتيجة. فكلاهما يعتبر الآخر صنيعة لقوى خارجية. بحيث نقف في نهاية المطاف أمام عراق بلا عراقيين، أو عراقيين لا جذور لهم!! وهي نتيجة منطقية للنفسية الطائفية السياسية منها والمذهبية.

فالنفسية الطائفية وذهنيتها السياسية، كما تبرهن تجارب الأمم، هي الأسلوب الفعلي للانحطاط المادي والمعنوي، ومن ثم السقوط في مستنقع الحروب الدائمة. وفيها ينبغي البحث عن سرّ الاحتلال والخنوع والخضوع والعبودية. فالعبودية لا تأتي مع الاحتلال، بل هي التي تجلبه. ولا عبودية للعقل والضمير اشد فاعلية من نماذج التفكير السيئ والمنحرف عن ابسط مقومات العقل والمنطق والأخلاق. فهو الأسلوب الذي يسحب الجميع، رغم اختلاف النية والغاية، إلى مستنقع الثأر والدموية، أي إلى اشد الأشكال همجية ولا عقلانية. وفيما لو أحصينا وعممنا مختلف المواقف تجاه بواعث وجذور الصراع الحالية في العراق، فإننا سوف نقف أمام تصوير مبتذل ومسطح للغاية لا يتعدى من حيث الجوهر انطباعات ما دعته تقاليد الرؤية الإسلامية بالنفس الأمارة بالسوء، وما تدعوه ثقافة العقل النقدي المعاصرة، باللاعقلانية. إذ نقف أمام تصوير يرسم لوحة العذاب العراقي باعتباره نتاجا للإرهاب الطائفي للنواصب، والفاشية العربية، والبداوة السلفية، والقتل على الهوية، ومن ثم مطالبة "المرجعيات" بالوقوف إلى جانب المقتولين والهتاف بمن يدعي انتمائه للشيعة: "أين أنت يا مقتدي وجيشك!"، و"أين أنت يا خالصي وإخلاصك!". وبالمقابل نسمع نفس رنين المواقف المذكورة أعلاه، مثل الإرهاب الطائفي للروافض، والشعوبية، والصفوية، والقتل على الهوية، ومطالبة الدول العربية والإسلامية والمجتمع الدولي بإيقاف القتل والتصفية وتشييع العراق وبغداد!

مما سبق يتضح حجم الفضيحة في "تأسيس" المواقف والحكم العملي بمجراها. وهي فضيحة تكشف أولا وقبل كل شيء عن فضيحة الواقع العراقي وأزمة وعيه السياسي الوطني وانحدار القوى السياسية ونخبها إلى حضيض الطائفية. بمعنى الانحدار صوب الغريزة، مع ما يترتب عليها بالضرورة من خروج على منطق العقل والمصلحة العامة وغريزة حب البقاء!! ولعل أتفه واخطر هذه الصيغ هو ما يسمى بالقتل على الهوية! إذ تعكس هذه العبارة بدون وعي غياب الهوية الفعلية عند من يقول بها. وذلك لأن مضمونها هو الهوية الطائفية. وهي هوية لا علاقة لها بالعراق والفكرة الوطنية. ومن ثم لا يعني إعلاءها والدفاع عنها سوى عين السقوط في مرحلة ما قبل الدولة. وذلك لما فيها من دعوة علنية ومبطنة، أي مؤثرة على النفس والوجدان واللاوعي، وقادرة على تفتيت الرؤية العقلانية والفكرة الوطنية والهوية العراقية من خلال إعلان صراع الطوائف. وليس مصادفة أن تظهر على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية نماذج فعلية أو متخيلة لسيناريوهات المواجهة مثل قطع مياه دجلة والفرات عن الجنوب في حال إعلان فيدراليته! أو مبادلة برميل الماء بواحد من النفط، وأخيرا تجميع المياه وهدها لتدمير مناطق الجنوب!! وبالمقابل الدعوة لقطع ثروات الجنوب وإبقاءها لأهلها! وفي كلتا الحالتين نقف أمام ذهنية تتصف بالتجريم والتخوين، لكنها لا تنتج في الواقع سوى ما تتهم به الآخر. وهي نتيجة مترتبة على طبيعة الذهنية الطائفية. فتصنيع الإيمان الطائفي هو إنتاج دائم للغشاوة الكثيفة أمام العقل. وبالتالي محاصرته وتعميته بالشكل الذي يجعله لا يرى سوى بقع الدم في ألوان الوجود. ومن ثم إثارة غريزة الانتقام والتشفي. والنتيجة هي تحجيم وتحجير العقل. أما العقل الممكن فيه فهو بصيرة حولاء، أي ترى الأمور بصورة مشوشة ومشوهة. وليس مصادفة ظهور مختلف أشكال اللاعقلانية والهمجية التي لا حدود لها، مثل استدراج المرء لأبناء جلدته ليحرقهم سوية في عملية "جهادية"!!

إن هذه "الخاتمة" النموذجية للنفسية الطائفية تعكس أزمتها الشاملة وموتها الكريه وانغلاق آفاقها الفعلية. الأمر الذي يجعل من الضروري إعادة النظر بفكرة "لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري" بطريقة تنفي فكرة الغلو أيا كان شكله ومحتواه وغايته، والسير صوب العقلانية السياسية من خلال نقد الذات بمعايير الرؤية الوطنية والاجتماعية.

بعبارة أخرى، إن العراق بحاجة إلى كسر سيف التقاليد التوتاليتارية ونماذجها المتنوعة من أصوليات دينية ودنيوية لا تنتعش إلا في مستنقع الطائفية. وتفترض هذه المهمة قلب المعادلة بطريق تصبح مهمة تأسيس لسان الحسن السياسي والوطني ضد القبح الهمجي للطائفية الشعار العملي للقوى السياسية والنخب العراقية. إننا بحاجة إلى ثلم سيف التخلف والانحطاط والانحراف عن مجرى الفكرة الوطنية والدولة الشرعية. وهي مهمة تقع أولا وقبل كل شيء على عاتق النخب السياسية، بوصفها مهمة عملية أولا وقبل كل شيء. بمعنى أن النخب السياسية لا يمكنها بلوغ أي شيء في ظروف العراق الحالية دون بلوغ الحد الأدنى من الوحدة الوطنية. وإلا فإن النتيجة لا تتعدى الانهيار المستمر والضعف الدائم والخضوع والخنوع للاحتلال.

إن إدراك هذه الحقيقة البسيطة يفترض بدوره العمل باليقين القائل، بأن إشكالية العراق ليست في الماضي، بل في المستقبل. إذ لا ماض بالمعنى الدقيق في العراق الحديث، لأنه في حصيلته لا يتعدى كونه مجموعة من الأفعال الهمجية وزمن لا تراكم فيه للرؤية العقلانية بوصفها منظومة. ويمكن رؤية الملامح الناتئة لهذه الحصيلة في طبيعة ونوعية المأزق الذي تعرض ويتعرض له في مستويات الدولة والمجتمع والثقافة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. بحيث تحولت فيه حتى مقومات الحياة إلى وسيلة للموت. وسوف  تلتهم هذه الحالة كل بقايا العقلانية والنزعة الإنسانية المتناثرة في خزين الذاكرة التاريخية ما لم يجر تذليل مقدماتها الفعلية في الوعي السياسي والممارسة الاجتماعية، أي تذليل نفسية وذهنية الفرقة والتفرقة والنزوع الراديكالي صوب أولوية الفكرة الوطنية بأبعادها الاجتماعية.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم