تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

كريم المظفر: روسيا مستعدة للمفاوضات.. ولكن!!

من الواضح تمامًا للأغلبية الساحقة من الخبراء غير المتحيزين أن العامل الرئيسي الذي يعيق البحث عن طرق لحل الأزمة الأوكرانية سلميًا، هو دعم الغرب المستمر لنظام كييف، على الرغم من معاناته الواضحة وعجزه عن تحقيق مهمته التي يمليها عليه، وهي إلحاق الضرر بالنظام في روسيا، و "هزيمته استراتيجيا"، أو كما بدأوا يقولون في الآونة الأخيرة.

مرة أخرى يعقد مجلس الامن الدولي جلسته المخصصة لمناقشة الأوضاع حول أوكرانيا، تلك الأوضاع التي تسوء يوم بعد آخر، لسبب بات معروفا " للمجتمعين "  قبل غيرهم، حيث الاستمرار بإمداد هذا البلد بالأسلحة الغربية، وإرسال مرتزقتهم  إلى هناك، وكشفت الإجراءات التي اتخذتها روسيا  مؤخرًا لتدمير المرتزقة الفرنسيين في خاركوف، والحقيقة كما عبر عنها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في كلمته امام المجلس، هي أنه على الرغم من الفشل الكامل للقوات المسلحة الأوكرانية في ساحة المعركة، فإن أنصار نظام كييف الغربيين يواصلون بإصرار مهووس دفعه إلى مواصلة المواجهة العسكرية التي لا معنى لها.

ويحاول الغرب وتحت شعارات كاذبة مفادها أن انهيار نظام زيلينسكي يشكل "تهديدًا وجوديًا" للأوكرانيين الذين تريد روسيا "استعبادهم"، فبالنسبة لأولئك الذين يفهمون أصل الأزمة الأوكرانية، فمن الواضح أنه لا يوجد ذرة من الحقيقة في هذه الادعاءات، فروسيا التي  أطلقت عمليتها العسكرية الخاصة في فبراير 2022، لم تكن ضد أوكرانيا،  وليس ضد الشعب الأوكراني، الذي لا تزال تربطه والشعب الروسي  علاقات أخوية، فليس من قبيل الصدفة أن ما يقرب من 7 ملايين أوكراني وجدوا الخلاص في روسيا بعد عام 2014.

وإن السبب وراء تصرفات الغرب بهذه الطريقة الساخرة والإجرامية  بات واضحا، ففي واشنطن وغيرها من العواصم، ترددت مؤخراً أصوات علنية مفادها أن الغرب يشن حرباً ضد روسيا بمساعدة الأوكرانيين، دون أن يخسر أرواح جنوده، وهي حرب لا بد من "وضعها في مكانها"،  حتى أن الرئيس الأميركي جورج بايدن وصف هذا الوضع بأنه «استثمار ممتاز»، وقد أعرب عن أفكار مماثلة مسؤولون أمريكيون آخرون وزملاؤهم من فوجي ألبيون.

لقد اضطرت روسيا إلى شن عملية عسكرية خاصة  ضد النظام  في أوكرانيا، الذي  ذهب بعيداً جداً عن الشعور بالإفلات من العقاب، على الرغم من الجهود العديدة التي بذلتها موسكو على مدى سنوات عديدة، أن يتخلى عن الحرب ضد مواطنيه في الجنوب والجنوب الشرقي لأوكرانيا، وسياسة التمييز التام ضد الأوكرانيين الناطقين بالروسية، الذين لا يزال هناك أغلبية في هذا البلد، فقد تم ذلك من قبل نظام فلاديمير زيلينسكي،  في انتهاك ليس فقط لاتفاقيات مينسك التي وافق عليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكن أيضًا للمبادئ الأساسية لعمل مجتمع متحضر وفي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك حقوق المواطنة الوطنية.

إن القيمين الغربيين على نظام كييف، الذين وقفوا وراء الانقلاب المناهض للدستور في كييف قبل 10 سنوات، خلال كل هذا الوقت لم يكبحوا جماح قادة زمرة كييف فحسب، بل قاموا أيضًا بهدوء، تحت غطاء حزمة مينسك من التدابير، تسليح أوكرانيا وإعدادها للحرب ضد روسيا، وهذا ما نعرفه اليوم يقيناً من خلال اعترافات الشخصيات التي شاركت بشكل مباشر في ذلك، وصياغة وتوقيع اتفاقيات مينسك، وعرضها على مجلس الأمن الدولي للموافقة عليها.

وفي محاولة لإقناع المعارضين في الكونغرس بالموافقة على حزمة مساعدات جديدة لأوكرانيا، يبدو ممثلو الإدارة الحالية أكثر تشاؤماً، ووفقا لخطاباتهم، على وجه الخصوص، أن 90٪ من الميزانية العسكرية التي خصصها الأمريكيون لنظام كييف، تظل في الولايات المتحدة وتذهب إلى تطوير القطاع الصناعي العسكري في البلاد، وتجديد الأسلحة، يتم التخلص من "الخردة" القديمة في أوكرانيا، وتم بيع معظم المصانع والشركات الأوكرانية الكبيرة، بما في ذلك إنتاج الليثيوم، لنفس الأمريكيين، وتم أيضا تأجير الأراضي الخصبة لهم مقابل إيجار رخيص ودائم، وأحد الأمثلة البارزة هو استلام هياكل جيه سوروس لتربة "تشيرنوزيم"  للتخلص من النفايات من الصناعة الكيميائية الغربية، ويؤكد وزير الخارجية الأمريكي إي. بلينكن، أن استمرار المساعدة لأوكرانيا هو ضمان لخلق فرص عمل جديدة في الولايات المتحدة، وكما يقول الوزير لافروف " وكأننا لا نتحدث عن تمويل حرب أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص في أوكرانيا، بل عن نوع من المشاريع التجارية المربحة".

ربما حان الوقت لكي يستيقظ الأوروبيون ويفهموا أنه بمساعدة نظام فلاديمير زيلينسكي، فإن الولايات المتحدة لا تشن حربًا ضد روسيا فحسب، بل إنها تحل أيضًا المهمة الإستراتيجية المتمثلة في إضعاف روسيا بشكل حاد، وأوروبا كمنافس اقتصادي، فقد قوضت واشنطن أمن الطاقة لديها، مما أثار اتجاهات أزمة خطيرة في الاقتصاد الأوروبي والمجال الاجتماعي، ناهيكم عن موضوع الهجمات الإرهابية على خطوط أنابيب نورد ستريم، حيث تمنع الولايات المتحدة بشدة أي محاولة لإجراء تحقيق دولي نزيه، ويظل الزعماء الأوروبيون الحاليون، وخاصة في ألمانيا، صامتين مطيعين، مستسلمين للإذلال العلني، وفي الوقت نفسه، يواصل غالبية أعضاء الاتحاد الأوروبي الوفاء بطاعة  خمسة أوامر من واشنطن لتزويد كييف بالمزيد والمزيد من دفعات الأسلحة، وإفراغ ترساناتها، والتي، بالطبع، سيتم تجديدها من خلال شراء منتجات من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وسيضطر الأوروبيون إلى إيجاد المال لهذا الغرض.

إن تجار الموت وكما أوضح وزير الخارجية الروسي،  لا يشعرون بالحرج على الإطلاق من أن أسلحتهم، بما في ذلك الذخائر العنقودية وقذائف اليورانيوم المنضب، والتي تضرب أهدافاً مدنية بحتة بشكل منهجي وبلا رحمة ومتعمد، كما كان الحال خلال الهجمات على المناطق السكنية في بيلغورود في 30 ديسمبر/كانون الأول 2023 و الاحد الماضي  21 يناير من هذا العام، في أسواق ومحلات دونيتسك، لتسفك  دماء العشرات من المدنيين القتلى لتلطخ أيدي وضمير أولئك الذين يسلحون نظام V. A. زيلينسكي ويعلنون في الوقت نفسه رسميًا أن سلطات كييف نفسها لها الحق في اختيار أهداف للضربات، وقد وصل هذا الوضع الفاضح إلى أبعاد لم يعد من الممكن السكوت عليها، وحتى الولايات المتحدة كان عليها أن تعترف رسمياً بالمشكلة، ويشير تقرير حديث للبنتاغون، إلى أن الأسلحة المخصصة للقوات المسلحة الأوكرانية قد تسربت بما يزيد عن مليار دولار،  وأربعون ألف قطعة سلاح، بما في ذلك الطائرات بدون طيار وقاذفات القنابل اليدوية، ببساطة "لم يكن لديها الوقت لأخذها في الاعتبار"، حيث لم يتم الاحتفاظ بالمخزونات.

لقد سمعنا أكثر من مرة، ويرددها الغربيون في كل المحافل حتى داخل مجلس الامن، فرضية ماكرة تتلخص في حقيقة مفادها أنه "إذا توقفت روسيا عن القتال، فسوف تنتهي الحرب، وإذا توقفت أوكرانيا عن القتال، فسوف تنتهي أوكرانيا"،  حتى أن أعلى المستويات في الولايات المتحدة، اتفقت على أنه بعد ذلك ستهاجم روسيا بولندا ودول البلطيق وفنلندا، وهي محاولة  كما قال عنها الوزير لافروف،بانها لن تفضي الى شيء سوى  ابتزاز الأموال من الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، وإقناعهم بضرورة الاستمرار باستمرار في مساعدة أوكرانيا على حساب مواطنيها حتى آخر دولار ويورو.

وفي الوقت الذي يطالب الغرب فيه روسيا بوقف العملية العسكرية الخاصة، فهم يفهمون جيدًا أنه إذا حدث هذا فجأة، فإن نظام كييف،  وبعد أن لعق جراحه، وكما أكد الوزير لافروف في كلمته، سيواصل مسار إبادة كل الهوية الثقافية والتاريخية والدينية الروسية، والتي كانت موجودة على هذا الكوكب لعدة قرون، وسيواصل نظام زيلينسكي، الترويج للقومية المتطرفة الكارهة للبشر والغريبة عن غالبية السكان، وتمجيد أولئك الذين دمروا، مع النازيين، مئات الآلاف من اليهود والغجر والروس والبولنديين والأوكرانيين خلال الحرب الثانية.

وزير الخارجية الروسي خاطب الشعب الأوكراني في كلمته باعتبارهم "وقودًا للمدافع"، بالتوقف  عن الموت من أجل المصالح الجيوسياسية الغربية، وكما يقولون، "من أجل القيم الديمقراطية"، فلم تكن هناك مصالح للشعب الأوكراني في الحرب ضد روسيا، ولا يوجد سوى مصالح الأنغلوسكسونيين وأتباعهم والنخبة الإجرامية الفاسدة في كييف، المرتبطة بالغرب بالمسؤولية المتبادلة والتي تخشى أن يتم جرفها في اليوم التالي لنهاية الحرب، وقاموا معًا بتخريب اتفاقيات مينسك وداسوا معًا  على فرصة شهر أبريل 2022، عندما منعت الولايات المتحدة وبريطانيا،  كييف من إبرام معاهدة سلام، لانهم لا يريدون السلام اليوم، على الرغم من أن نظام كييف لم يتمكن من البقاء إلا بفضل المساعدات الغربية.

لقد بدأ غالبية الأوكرانيين يفهمون من هو عدوهم الحقيقي،  ومن كان يخدعهم لسنوات عديدة، ويخيفهم بروسيا، وينشر الأكاذيب حول روسيا  و"يلغي" تاريخ البلدين  المشترك، فالتغييرات في وعي الأوكرانيين أصبحت  واضحة للعيان حتى على الشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من الرقابة الشديدة، بدأت الحقيقة في الظهور حول كيفية عيشهم في شبه جزيرة القرم وغيرها من المناطق التي انضمت مؤخراً إلى روسيا، وعلى النقيض من توقعات مروجي الدعاية في كييف، فإن الروس والأوكرانيين وغيرهم من الجنسيات يعيشون هناك في سلام، والحكومة الجديدة تحل مشاكل الناس وتحسن حياتهم وتطور البنية التحتية ولا تفكر في كيفية ملء جيوبها، وإن التناقض واضح للغاية لدرجة أنه من غير المجدي إنكاره، لذلك يحاولون في أوكرانيا والغرب إسكات هذه المعلومات، وهذه الحقيقة، بأي وسيلة، لأن هذا الأمر بالغ الخطورة بالنسبة لهم، لأنه يوضح كيف يستطيع الروس والأوكرانيون، بل وينبغي لهم، أن يعيشوا في ظروف حيث لا يُسمح للغرب بالتدخل في العلاقات بين شعبين شقيقين، وتأليبهما وفقاً للمنهجية الاستعمارية القديمة.

وفي كلمته في اجتماع المجلس شدد وزير الخارجية الروسي،  على موقف بلاده  واستعداده للمفاوضات، ولكن تلك المفاوضات التي  لا تدور حول كيفية إبقاء قادة نظام كييف في السلطة والانغماس في أوهامهم، بل حول التغلب على إرث النهب المدمر الذي دام عشر سنوات للبلاد، والعنف ضد شعبها، وحول القضاء على أسباب الوضع المأساوي لأوكرانيا، وان جميع الخطط والمنصات و"الصيغ" الأخرى التي يُفترض أنها سلمية، والتي لا يزال نظام كييف وأسياده يديرونها بلا جدوى، لا علاقة لها بالسلام،  ولا تخدم بحسب رأي لافروف،  إلا كغطاء لمواصلة الحرب وضخ الأموال من دافعي الضرائب الغربيين، وعبر لافروف عن اسفه من أن الأمانة العامة للأمم المتحدة، تخاطر بسمعتها من خلال المشاركة في "صيغة كوبنهاغن" السريالية للغاية.

كل هذه "الصيغ" هي طريق إلى اللامكان، وكل ما أسرعت واشنطن ولندن وباريس وبروكسل في إدراك هذه الحقيقة، كلما كان ذلك أفضل بالنسبة لكل من أوكرانيا والغرب، حيث خلقت "الحملة الصليبية" ضد روسيا بالفعل،  مخاطر واضحة على سمعتها ووجودها، ونصح الوزير الروسي الجميع الى الاستماع جيدًا لهذا، بينما لا يزال هناك وقت.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم