آراء

كيف تماهت الحدود الفاصلة بين حالتي السلم والحرب؟

محمود محمد عليليس من قبيل المبالغة القول بأن الحدود الفاصلة بين حالتي السلم والحرب قد تماهت إلى درجة كبيرة جداً، فقد تجاوزت الحروب المواجهات العسكرية التقليدية، لتشمل توظيف أدوات جديدة كالأدوات الاجتماعية، والاعلامية، والاقتصادية، والافتراضية والأدوات الناعمة، وعلى هذا فقد تنوعت اجيال الحروب انطلاقا من توقيع “معاهدة صلح وستفاليا”، عام 1648 التي ارتبطت بنشأة الدول القومية واحتكارها الاستخدام الشرعي للقوة، حيث تنوعت أساليبها وسائلها؛ فقد التمييز بين عدة أنواع من الأجيال فحروب حروب الجيل الأول، اعتمدت على استخدام البنادق والمدافع البدائية، بينما حروب الجيل الثاني ارتبطت نشأتها بظهور معدات عسكرية حديثة، مثل المدرعات الثقيلة، والطائرات المقاتلة، فضلاً عن الاستفادة من الاقتصاد الصناعي للدول الأوروبية لإنتاج العتاد العسكري بكميات ضخمة .

أما حروب الجيل الثالث” وهي الحروب التي ظهر فيها استخدام أسلوب التسلل خلف خطوط العدو والقيام بعمليات تضعف من دفاعات العدو كالتجسس والمناورات والأقمار الصناعية واستخدام التكنولوجيا المتطورة. وتندرج تحتها الضربات العسكرية الوقائية أو الاستباقية، وكذلك مفهوم الحرب على الإرهاب، كالحرب على العراق مثلاً، ويعرفها الخبير الأمريكي "وليم ليند" ويصفها بأنها طوُرَت من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية، وسميت بحرب المناورات، وتميزت بالمرونة، والسرعة في الحركة، واستخدم فيها عنصر المفاجأة، وأيضاً الحرب وراء خطوط العدو.

في حين تمثلت حروب “الجيل الرابع “، أو كما يطلق دمر نفسك بنفسك، ويتم خلالها استخدام أبناء الوطن نفسه لإثارة الفتن، وحركات التمرد، ليواجه أبناء الوطن الواحد بعضهم البعض، ويدمرون وطنهم بأيديهم، إذ تسعى دولة أو جهة ما إلى استغلال إحدى هذه القوميات أو المذاهب، وتقوم بتجييشها مادياً وإعلامياً وعسكرياً، لتعمل على بث الفرقة وإضعاف مؤسسات الدولة وإنهاك جيشها، ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها بشكل غير مباشر، وهو أمر حدث في العديد من دول الربيع العربي. وسميت أيضا بالحروب اللامتماثلة Asymmetric Warfare، وتستخدم فيها وسائل الأعلام الجديد والتقليدي ومنظمات المجتمع المدني والمعارضة والعمليات الاستخبارية والنفوذ الأمريكي في أي بلد لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات البنتاجون .

ولم تقف الحروب عند هذا الجيل، بل توالت أجيال الحروب بشكل مطرد إلى الجيل الخامس من الحروب، وهذا الجيل يعتمد علي فكرة الحرب بلا قيود، وهو يستهدف الدولة والمجتمع معاً، ويستخدم فيه كافة الوسائل لإجبار العدو على الرضوخ، لإرادة الأطراف التي تخوض الحرب أو تدميرها من الداخل عبر فترات ممتدة من المواجهات العسكرية وغير العسكرية وبتوظيف أساليب وتكتيكات متعددة اقتصادية وثقافية ومعلوماتية وتقنية بصورة متزامنة، ومن خلال تحالفات شبكية تضم الدول والفواعل المسلحة من غير الدول التي تقوم على المصالح المشتركة بدلاً من الأهداف الأيديولوجية أو الوطنية .

وعن العوامل التي أدت لصعود حروب الجيل الخامس فنجد أنها تتمثل في عدة عوامل منها تراجع احتكار الدولة للقوة العسكرية، وظهور فواعل مسلحة من غير الدول قادرة على شن الحرب، مثل التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، وتزايد الترابط بين المشكلات الاقتصادية والتهديدات الأمنية نتيجة زيادة الاعتماد المتبادل في الاقتصاد الدولي الذي جعل من بعض القضايا الاقتصادية، مثل انقطاع أو وقف إنتاج السلع الأساسية، مصدر تهديد للأمن الوطني والدولي، إلى جانب صعود الولاءات البديلة؛ وهي اتجاه بعض الأفراد لنقل ولائهم من الدولة إلى الولاء لقضايا معينة، وتسارع التطورات التكنولوجية، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو.

وأما عن خصائص هذا الجيل من الحرب، فنجد أنها تقوم علي انتشار المناطق الرمادية ويقصد بها التفاعلات الصراعية بين وداخل الفواعل من الدول ومن غير الدول، والتي تقع في منطقة وسط بين ثنائية الحرب والسلام، واتباع تكتيكات الحروب الهجينة HYBRID WARFARE، أو الحرب خارج الحدود، أو الحرب الغامضة، أو الحرب المقترنة أو المركبة ؛ حيث أضحي التزايد المطرد للإرهاب الحديث، وسبل وأدوات تنفيذه، يعطي العديد من المؤشرات التي تتعلق بالفجوات المجتمعية التي تستغلها الجماعات الإرهابية للتسلل من خلالها وتنفيذ أهدافها. وتلك الفجوات المجتمعية ربما تكون فكرية، أو مؤسساتية، أو بنيوية، وغيرها. وهذا ما أدى إلى قيام العديد من الدول، بالعمل على تطوير استراتيجياتها لمحاربة الإرهاب الحديث، حتى تمكنت -كما هو مشاهد اليوم- من مواجهة الإرهابيين، وتفكيك شبكاتهم، بل وتحديد قياداتهم.

وعلى الرغم من تعاظم خطر الإرهاب والجماعات الإرهابية، ولكن الخطر الأكبر هو دخول بعض الدول العظمى في خطٍ موازٍ مع ما تتبناه الجماعات الإرهابية من أهداف، رغم اختلافها مع مبادئها وأساليب تنفيذها لعملياتها، في سبيل تحقيقها لهذه الأهداف. فالوقائع التي نراها أمامنا تشير إلى أن بعض الدول العظمى قد بدأت في شن معارك متفرقة تحت مظلة الحروب الحديثة التي لا قبل للدول الإقليمية بها، ولا تمتلك الأدوات المناسبة لصدها أو مواجهتها. ويمكن مشاهدة بعض أوجه هذه المعارك في الهجمات التي شنتها روسيا على إستونيا عام 2007، وعلى جورجيا عام 2008، وأخيراً على أوكرانيا في 2015 .

فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية مناقشات جدية حول تحول الحرب، وكانت هناك مقاربات مختلفة تثبت الطبيعة غير المتماثلة للحرب في المستقبل، والاستخدام المتزامن للوسائل التقليدية وغير التقليدية، والابتعاد عن ساحة المعركة التقليدية أو القطاع العسكري إلي القطاع المجتمعي والمراكز الحضرية الكثيفة، حيث يلاحظ بأن البيئة الأمنية في المجتمع الدولي، لا سيما في السنوات الأخيرة، قد تعرضت لتغيرات كبيرة مما أدي إلي اتساع الصراعات والتحديات التي تواجه السلم والأمن الدوليين نتيجة لتطور مفاهيم الحروب وأدواتها، الأمر الذي ولد مفاهيم جديدة لم تكن معروفة سابقاً، مثل مفهوم الحرب غير الخطية أو ما يسمي بـ” الحرب الهجينة”، والذي من بين آثاره المتعددة، هو طمس الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة والنزاع والسلام والجندي والمدني والعنف في ساحات القتال والمناطق الأمنة، كما هو الحال بالنسبة للتنظيمات الإرهابية، وكذلك الصراعات الجديدة في هيئتها التي حصلت في جورجيا، وشبه جزيرة القرم، واستونيا، والعراق وسوريا، وليبيا، وكذلك ما يسمي بـ ” الربيع العربي” …الخ.

إن هذا الشكل الحديث للحرب قد نشأ من فقدان احتكار الدولة القومية للعنف، صراعات ثقافية وعرقية ودينية، سرد متغير للمشاركة في الصراع ومن انتشار العولمة، ولا سيما التكنولوجيا المتقدمة، حيث أصبحت القدرة علي التكيف، وخفة الحركة في القوي، والوصول إلي الاتصالات الحديثة والعالمية والتكنولوجيات الحديثة، فضلاً عن الموارد المتنوعة، من بين الأساليب المبتكرة في شن مثل هذه الحروب والتي مكنت الجهات الفاعلة من غير الدول تحديدا بأن تلعب دوراً أساسيا في هذه الحروب باعتبارها أدوات مكملة أحياناً ورئيسية أحياناً أخري تستعين بها الدول لتنفيذ سياستها خارج الحدود المرسومة. إن هذا الوضع الجديد نجم عنه فقدان وضعف احتكار الدول للسلطة وقلل الحدود بين الأمن الداخلي والخارجي داخل الولايات والمناطق .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم