آراء

كيف كانت الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية؟

محمود محمد عليلا شك في أن الصراع الدائم منذ بدء الخليقة يدور حول المياه وكيفية تأمينها والاحتفاظ بها والدفاع عنها كعنصر أساسي وحيوي من أجل البقاء. كانت المياه أهم مسببات الحروب والغزوات في تاريخ العرب والشعوب الأخرى، كما أن معظم الانتصارات كانت لمن يملك الماء أو يسيطر على مصادره أو يصل إليه أولاً؛ وقد قامت كل الحضارات وازدهرت حول منابع المياه وضفاف الأنهر والأودية، كحضارة ما بين النهرين إلى حضارة وادي النيل، ويحلو للمصريين أن يرددوا دائماً أن مصر هبة النيل، كما يحلو للسوريين والعراقيين أن يتغنوا بعطاء الفرات ودجلة.

وتعد قضية المياه إحدى قضايا الأمن الإسرائيلي، فالحروب التي قامت بها إسرائيل بعد عام 1948 رمت في جوانبها الرئيسية إلى السيطرة على منابع المياه العربية، وكل المشاريع لإقامة دولة إسرائيل في أرض فلسطين تضمنت مخططات لكيفية الحصول على المياه، ففي عام 1885 ركز "تيودور هرتزل" في مذكرات على ضرورة ضم جنوب لبنان وجبل الشيخ وفي عام 1947 نصح "ديفيد بن غوريون" في كتابه «ارض إسرائيل» ان تشمل منابع نهر الاردن والليطاني وثلوج جبل الشيخ واليرموك  . وفي عام 1955 أكد: «ان اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مستقبل إسرائيل»، وأضاف في عام 1967 في رسالة إلى الرئيس الفرنسي "شارل ديغول": أمنيتي في المستقبل ان يصبح الليطاني حدود إسرائيل الشمالية وفي عام 1983 وبعد ما يقارب مئة عام على مذكرات "تيودور هرتزل" وجه ديفيد كيحمي رسالة إلى وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز يؤكد له فيها اثر توقيع اتفاقية 17 مايو: «أن انسحاب إسرائيل من لبنان مرتبط بحصولها على حصة من مياه الجنوب اللبناني»، وفي عام 1985 كتب شمعون بيريز في ما اسماه بـ"الشرق الأوسط الجديد" اننا "احتجنا في الحرب إلى أسلحة، ونحتاج في السلم إلى مياه" .

كما كشف تقرير لوكالة الدفاع بالمخابرات الأمريكية الذي صدر في عام 2015 ، حيث حذر من أزمة مياه عالمية تؤدى إلى عدم الاستقرار السياسي وتعوق النمو الاقتصادي، وبخاصة في مناطق جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا (أغلب أراضي العالم العربي تقع في المنطقة الجافة وشبه جافة، التي يقل فيها معدل الأمطار عن 300 مم سنويًا) ، وكشف التقرير عن أن استخدام المياه كسلاح، أو لأهداف إرهابية جديدة سيصبح أيضًا أكثر احتمالاً، بخاصة في الأحواض المشتركة، التي يتوقع أن تستخدمها الدول على نحو متزايد للضغط على جيرانها، مما يهدد بنشوب صراعات مسلحة على المياه، قد تؤدى إلى إشعال حرب عالمية ثالثة .

كما جاء في هذا التقرير أن الفقر الشديد وحاجة الشعوب للمياه العذبة سيتفاقم بحلول عام 2040، وسيؤدى هذا العجز في مياه الشرب إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وسيهدد أسواق الغذاء للخطر، وستكون مناطق الشرق الأوسط وحوض النيل وشمال إفريقيا، وجنوب آسيا من أكثر المناطق التي ستواجه عجزا في المياه العذبة وستدخل في مواجهة الأمن المائي، مما سيؤدى لعجز في توافر احتياجات الاستهلاك الآدمي وإنتاج الغذاء وتوليد الطاقة، وبعد عقد واحد من الآن ستبدأ مناوشات دولية بسبب المياه ، وسيكون مصير هذه الدول مرتبطا بالأساليب والإجراءات التي ستتخذها الدول لحل إشكالية عجز المياه دون الدخول في مواجهات عسكرية مع دول أخرى، وستأتي الدول التي تتشارك في أحواض للأنهار في مقدمة الدول التي ستتواجه عسكريا «على غرار دول حول نهر النيل»، حيث ستبادر بعض الدول في الضغط على جيرانها من خلال حرمانهم من حصص لهم في المياه ؛ مما يتذر بخطر داهم يقرع طبول الحروب، فالتغيرات المناخية التي تفاقمت أخيرا، كالاحتباس الحرارى والجفاف، قد تتسبب في جفاف عديد من الأنهار الرئيسية خلال الخمسين سنة المقبلة، وهو ما حذر منه تقرير صدر عن الأمم المتحدة تحت عنوان المياه في عالم متغير حين أشار إلى أن نصف سكان العالم سيعيشون بحلول عام 2030 في مناطق شحيحة بالمياه .

وكشف التقرير أيضا بأن الأنهار التي تتشارك أكثر من دولة في أحواضها، فستكون هي مصدر الصراعات والحروب بين الدول المتشاركة، وهو ما تمهد له إثيوبيا الآن ببناء سد النهضة، وتقليص حصة مصر وأيضا السودان من المياه لحسابها بإيعاز وتخطيط صهيوني.

كما كشف موقع القناة السابعة التلفزيونية الإسرائيلية عن قيام شركات متخصصة في مجال الاستشارات الهندسية والإنشاءات في إسرائيل بتقديم عروض للحكومة الإثيوبية يتضمن مقترحات للمساهمة في القيام بمشاريع استثمارية سكنية علي النيل، وذلك بتشجيع من وزارة الخارجية الإسرائيلية. وأوضح موقع المعهد الإسرائيلي للتصدير والتعاون الدولي أن إسرائيل قدمت عام 2009 إلى كل من الكونغو الديمقراطية ورواندا (من دول المنبع) دراسات تفصيلية لبناء ثلاث سدود كجزء من برنامج متكامل تهدف إسرائيل من خلاله إلى التمهيد لمجموعة كبيرة من المشروعات المائية في هذه الدول خاصة رواندا، حيث يتوجه الاهتمام الإسرائيلي بوجه خاص إلى نهر كاجيرا الذي يمثل حدود رواندا مع بوروندي في الشمال الشرقي لإقامة أكثر من سد عليه . ونجحت إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في تأمين سيطرتها على بعض مشاريع الري في منطقة البحيرات، حيث تقوم بتقديم الدعم الفني والتكنولوجي من خلال الأنشطة الهندسية للشركات الإسرائيلية في مجال بناء السدود المائية. وقدمت إسرائيل دراسات تفصيلية إلى زائير ورواندا لبناء 3 سدود، كجزء من برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى .

وفي كتاب " حرب المياه على ضفاف النيل حلم إسرائيلي يتحقق"  الذي ألفه عمر أحمد فضل الله وهو كتاب يعرض أزمة مياه النيل الحالية وما يمكن أن يترتب عليها من أخطار ومهددات لدول حوض النيل والمنطقة بأسرها في حال تفاقمها. وخاصة بعد إعلان إثيوبيا الشروع في بناء سد النهضة ، حيث يتناول هذا الكتاب باختصار جوانب هذه المسألة بعرض المعلومات ومناقشتها بالحيادية والتعقل.

يطرح المؤلف في الكتاب عدداً من الأسئلة التي تسلط الأضواء على أبعاد المشكلة وجوانبها مثال: هل نحن على شفا حرب ستستعر بين دول حوض النيل حول اقتسام مياه النيل؟ وإلى أي مدى تمثل إسرائيل تهديداً للأمن القومي المصري فيما يتعلق بمنابع النيل؟ وهل تعتبر الخطوة التي قامت بها إثيوبيا مؤخراً بعد إعلانها الشروع في بناء سد النهضة مجرد مساومات سياسية وورقة للضغط على مصر لتحصل على نصيب لها من مياه النهر وفق اتفاقية قانونية أم أن ما تقوم به هو عمل يهدد الأمن القومي للمنطقة ويصب في استراتيجيات ومصالح جهات أخرى؟.

وهل سد النهضة عمل تنموي محكم يخدم الشعب الإثيوبي ودول المنطقة بالفعل أم أنه حلقة أخرى في سلسلة حرب المياه للسيطرة على أهم روافد الحياة لمصر والسودان؟ وهل سد النهضة هو مشروع إثيوبي وطني حقاً أم أن وراءه مصالح لجهات ودول أخرى؟ وهل تتفق خطط المياه في كل دولة من دول المنبع والمصب مع الاتفاقيات التاريخية لاستغلال مياه نهر النيل؟ هل تكفي مناسيب مياه النيل الحالية لجميع الدول المشاركة فيه أم أنها تهدد بكارثة قادمة؟ هل الاتفاقيات التاريخية الموقعة قانون يحكم التصرف في مياه النيل أم أن النيل (مشاع) لمن سبق؟ من الذي يتحكم في مياه النيل وهل يحق لأي دولة القيام بعمل انفرادي في أي رافد من روافد نهر النيل دون الرجوع للدول الأخرى؟ وهل حرب المياه مجرد دعاية إعلامية تهويلية ومبالغ فيها أم أنها حرب حقيقية بدأت بالفعل منذ زمان والناس عنها غافلون؟ وماذا يقول الخبراء والمحللون السياسيون؟ وأين هو موقع إسرائيل من كل ما يدور في منطقة حوض النيل وما حولها؟ وهل تقف إسرائيل ببراءة أم أن لها وجود فعلي مؤثر وراء ما يحدث من نزاعات خفية أو معلنة؟ نهر النيل إلى أين؟ دول حوض النيل إلى أين؟ ومصر إلى أين؟ كما يتناول الكتاب حقيقة الوجود الإسرائيلي في دول منابع النيل في سعيها للسيطرة على المنابع وضرب طوق من الحصار على مصر والسودان، ويقدم مقترحات حل أزمة المياه الحالية وتجنيب المنطقة كارثة حرب مدمرة بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الأخرى المتعلقة باتفاقيات ومشاريع مياه النيل .

هذا من ناحية ومن ناحية أخري فقد أخذ الصراع العربي الإسرائيلي أبعادا متعددة، منها المواجهات المباشرة، لكن خبراء استراتيجيين يحذرون من مساع إسرائيلية حثيثة لتعطيش مصر والسودان، من خلال الاستيلاء على منافذ مهمة على نهر النيل، والتأثير في دول المنبع، حتى تقيم السدود وتفرض سيادتها الكاملة على المياه التي تنبع من أراضيها، مما يعني أن حروب المياه باتت سلاحا خطيرا ضمن مؤامرات الكيان الصهيوني. ولم تكد أزمة سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق، التي مثلت خطرا على حصتي السودان ومصر، تهدأ، بعد التوصل إلى تفاهمات بين الدول الثلاث، بعد مفاوضات ماراثونية، واتفاقها على مبدأ عدم الإضرار بحقوق أي من الأطراف، حتى فوجئت الدولتان بجهود حثيثة تبذلها دولة جنوب السودان، في صمت تام، لإقامة سدين جديدين على النيل الأبيض، أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، ومما أثار التساؤلات هو مصدر التمويل الذي يمكن لدولة الجنوب الوليدة، التي تعاني مصاعب اقتصادية حقيقية، جراء الحرب الأهلية الطاحنة التي كانت تشهدها خلال العامين الماضيين، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط، المورد الوحيد للدولة، وهو ما جعل حكومة الرئيس سلفا كير ميارديت تطلق نداء استغاثة للمجتمع الدولي لمساعدتها، بعد أن بات خطر الموت جوعا يطارد ثلثي سكان البلاد. وأشار مراقبون إلى أن إسرائيل تقف وراء الأمر، رغبة في استغلاله كورقة ضغط على الدولتين، لتحقيق مكاسب سياسية.

من كل ما سبق يمكن القول بأن الإسرائيلي، حيث يشكل الماء محور الجغرافيا السياسية في كل مرحلة من مراحل التاريخ في المنطقة. كما أن الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية بشكل عام والمياه الفلسطينية بشكل خاص، هي جزء من مفهوم إسرائيلي متكامل لسياسة السيطرة على الموارد, وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في الجولان وما تبقى من جنوب لبنان وأراضي الضفة الغربية، إنما يعني لها التخلي عن "غنائم الحرب". فالمياه تشكل أحد أهم عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية (السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية) التي تنطلق من مسلمات أبرزها التمسك ببقاء السيادة الإسرائيلية على مصادر الموارد المائية. ومن هنا لا يستطيع أحد إنكار أن المستقبل يخبئ في طياته مفاجآت، فالأمن الغذائي العربي مهدد برمته، لأن المياه وحدها تؤمن الغذاء، والدول العربية الآن تستورد ما يقارب 40% من مجمل ما يستورده العالم الثالث من المنتجات الغذائية.

لقد وقعت إسرائيل عدة اتفاقيات بشأن المياه مع الجانب الفلسطيني، إلا أنها لم تطبق هذه الاتفاقيات، وضربت عرض الحائط هذه التواقيع ولم تكترث بها. واعتبرت إسرائيل أن الماء والنفط سيان لأهميتهما لدى الجانبين؛ وقد منعت إسرائيل الشعب الفلسطيني من حفر آبار أو تخزين الماء للحاجة الضرورية للماء، وتريد تعطيش الشعب كي يبقى خاضعاً سياسياً للجانب اليهودي.

إن سرقة الماء من الأنهار والروافد الفلسطينية واللبنانية والسورية هي من مهام المنظمة الصهيونية، لأن الماء هو عصب الحياة لدى المستوطنين، حتى إن الاستهلاك الإسرائيلي للماء هو أضعاف ما يستهلك الفلسطيني، وحتى أن الفلسطيني يشتري الماء من الإسرائيلي علماً أن الماء هو داخل المخزون الأرضي للفلسطينيين لكن إسرائيل استولت عليه وسحبته إلى مستعمراتها ومدنها.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم