آراء

مصعب قاسم عزاوي: الدور الوظيفي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي

مصعب قاسم عزاويمؤسستا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وليدتا اتفاقية بريتون وودز في العام 1944، والتي مثلت النهج الذي اتفق بناء عليه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية وعلى رأسهم الولايات المتحدة على كيفية ضبط وتوجيه الاقتصاد الكوني في مرحلة ما بعد الحرب، والذي تمثل آنذاك بمهمتين كبريتين؛ الأولى إعادة إعمار اقتصادات الدول التي هشمتها الحرب العالمية الثانية، واستدماجها في منظومة الهيمنة الرأسمالية الكونية التي تتصدرها الولايات المتحدة وشركاتها العملاقة والعابرة للقارات، من خلال تمويل مشاريع إعمار تلك الدول في أوربا واليابان، مثلما كان في مشروع مارشال، والذي كان مشروعاً شمولياً لاستخدام رأس المال الأمريكي ممثلاً بشركاته العملاقة والعابرة للقارات للقيام بإعادة إعمار تلك الدول المهشمة وتصميم اقتصاداتها خلال عملية إعادة الإعمار لتكون في مرحلة ما بعد الحرب منخرطة بشكل عضوي عميق في منظومة عمل تلك الشركات العملاقة والعابرة للقارات، وغير قادرة على الانفصال عنها، وهو الحال الذي لا زال راهناً حتى اللحظة المعاصرة. والهدف الوظيفي الثاني لتلك المؤسستين تمثل في ضبط مسارات النمو في الدول النامية في مرحلة ما بعد انعتاقها من مستعمريها الأوروبيين عقب الحرب العالمية الثانية، وتوجيه عملية التنمية باتجاه خدمة مصالح الدول التي تسيطر على الحصة الأكبر من رأس المال في تلك المؤسستين، والتي لا زالت تتصدرها على مر العقود دون منازع الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك عبر استخدام رأس المال ذاك لأجل إقراض تلك الدول النامية بشروط معينة تقتضي منها في غالب الأحوال توجيه اقتصاداتها باتجاه خدمة مصالح الأغنياء في دول الشمال الصناعي المتقدم عبر تحجيم أهداف التنمية في الدول النامية، وحصرها في عدد محدود من الصناعات غالباً يتوضع حول الزراعة لغرض التصدير وليس تلبية الاحتياجات الداخلية و الاستهلاك المحلي، بالتوازي مع استخراج المواد الأولية والثروات الباطنية وتقديمها بأسعار شبه مجانية للشركات العابرة للقارات التي تقوم باستخدامها لاحقاً في ماكينتها الصناعية لإخراجها منتجات لا بد للاقتصادات النامية من استيرادها وعدم التفكر بمحاولة تصنيعها محلياً لضمان عدم انقطاع صبيب إقراض البنك الدولي.

وذلك النهج في إعادة نظم دول اقتصادات الدول النامية في خارطة الاقتصاد العالمي كان جوهر الدور الذي لعبه البنك الدولي منذ تأسيسه وحتى اللحظة الراهنة، والذي تمخض عن بقاء الدول النامية نامية حتى بعد مرور ما يقارب العقود الخمسة على تاريخ انعتاق جل دول المستعمرات عن مستعمريها القدماء، وعدم نهوض أي منها إلى رتبة الدول الصناعية على الرغم من عدم شح الموارد الأولية أو القدرات البشرية والعلمية فيها، وإنما لعدم قدرتها على الإفلات من أحابيل واشتراطات إقراض البنك الدولي الذي أصبح اللجوء إليه بمثابة أسهل الحلول للإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية للطبقات السياسية في تلك الدول النامية، والقائمة فعلياً بدور النواطير المكلفين بحفظ مصالح الأغنياء في أرض الفقراء، وذلك عبر الإيغال في الاقتراض من خزائن البنك الدولي المفتوحة على مصراعيها، ما دامت تلك الطبقات السياسية ملتزمة بالحفاظ على بقاء اقتصادات المجتمعات التي تستأسد بمصائرها نامية، وحصر دورها الاقتصادي الراهن أو ذلك المحتمل في قابل الأيام في تعزيز قدرتها على زيادة إمدادات نتاجها المحلي بحسب ما يتطلبه السوق العالمي تصديراً، ودون التفكر أو الالتفات إلى حاجات الاقتصاد الداخلية، أو العمل لتلبية احتياجات المواطنين فيه، الذين لا بد لهم من الاقتناع بأن الفقر العميم في حيواتهم من طبائع وقوانين الطبيعة وليس نتيجة للنهوج الاقتصادية والسياسية الخانعة والتابعة التي دأب على تبنيها المستبدون بأوطانهم.

وفيما يخص صندوق النقد الدولي International Monetary Fund فإن وظيفته الأساسية من الناحية النظرية حسب مشروع إنشائه هو ضمان استقرار معدلات الصرف بين العملات العالمية، والذي كان عدم استقرارها وتلاعب دول الشمال الغني بها أحد إرهاصات ومقدمات الحرب العالمية الثانية. وهو الدور الذي تحور وتعضى وتعقد مع مرور الزمن بحيث أصبح صندوق النقد الدولي الملجأ لكل الدول النامية ذات الاقتصادات المتعثرة والعملات المحلية المتهاوية في قدرتها الشرائية لأسباب بنيوية تتعلق أساساً في عدم تنوع الأنشطة الاقتصادية الداخلية فيها، وانحشار معظم تلك الأنشطة الاقتصادية في خدمة اقتصادات الأقوياء بحسب شروط البنك الدولي السالفة الذكر، والمتمركزة حول تصدير الموارد الأولية للشركات العابرة للقارات في اقتصادات الأقوياء سواء كانت تلك المواد الأولية نتاجاً زراعياً أو ثروات باطنية، ودون الالتفات إلى تلبية احتياجات السوق المحلية، التي دون تنامي الطلب المحلي فيها، قد يستحيل تحقيق أي نمو اقتصادي راسخ فيها.

 وكان هناك دائماً وصفة جاهزة لدى صندوق النقد الدولي تمثلت تاريخياً فيما يدعى الوصفة السحرية لليبرالية المعولمة المتوحشة أو التي تدعى أحياناً الليبرالية الجديدة Neoliberalism والتي ليس فيها شيء من الليبرالية التقليدية بالشكل الذي تأصلت عليه في فكر آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت ميل. وتتلخص تلك الوصفة السحرية لحلحلة كل مشاكل التعثر الاقتصادي بالاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي يأتي دائماً و أبداً مشروطاً بما يدعى سياسات التصحيح الهيكلي، و المتمحورة حول خفض الإنفاق العمومي، وإلغاء القوانين التنظيمية للحد الأدنى للأجور، والخصخصة المنفلتة من كل عقال لكل ما تمتلكه الدولة، وإلغاء دور الدولة في ضمان الأمان الاجتماعي للفئات المستضعفة فيها، والتي لا خيار لها إلا الاندثار من الحياة الدنيا أو التضرع للسماء علَّ ذلك يحل بأسرع الآجال، وفتح الأسواق المحلية على أعنتها دون أي ضوابط تحد من استيراد نتاج الأقوياء، وما سوف ينتج عنه عفوياً من اندثار للصناعات المحلية التي لا تستطيع منافسة نتاج دول الأقوياء الذي غالباً ما يتم بيعه بالسوق المحلية في الدول النامية بأسعار أقل من تكلفة سعر إنتاج تلك المنتجات محلياً، وهو ما تمثل مثلاً في كارثة عزوف المزارعين في المكسيك عن إنتاج البندورة بعد إغراقها بنتاج المزارع الأمريكية الكبرى المدعومة حكومياً، وكما حدث في موات صناعات النسيج في العديد من الدول العربية، وخاصة في بلاد الشام ومصر بعد انفتاح أسواقها المحلية استجابة لشروط صندوق النقد الدولي.

والناتج الفعلي الذي لا يتغاير لتلك الوصفة الخبيثة هو تزايد معدلات الفقر، وتفاوت الدخل المريع بين المفقرين المعدمين و بين المترعين بثرائهم الفاحش، وتردي مشعرات الصحة العامة، وتزايد معدلات الوفيات، ونقص متوسط عمر الفرد في تلك المجتمعات السارية في نهج تعليمات صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى زيادة إيغالها في الاقتراض فوق ما اقترضته سابقاً من البنك الدولي، وهو ما يجعلها مرغمة أكثر على الانصياع دون قيد أو شرط لأية شروط جديدة تطلبها تعسفاً تلك المؤسسات الدولية، وهو الواقع المؤوف الذي يفصح عن نفسه في التفاوت في معدلات الثروة بين دول الشمال الغني ودول الجنوب المفقر المنهوب، وهو ما تمثل في عسف الحقيقة الكالحة التي نشرتها منظمة أوكسفام Oxfam في العام 2017 والذي فحواه أن ثمانية رجال في مجتمعات الشمال الغني يملكون ثروة تعادل كل الثروة التي يملكها نصف البشرية الأفقر في عموم كوكب الأرض والذي يبلغ عدده 3.6 مليار إنسان يكمن أس الحظ العاثر لكل منهم بأنه كائن حي لا خيار له إلا في أن يأكل ويشرب للحفاظ على حياته، وهو «الطلب المفرط في شططه وترفه» وفق معايير و اشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الذين يعملان في كل زمان ومكان  كرأسي حربة أفعوانية لا تكل في عملها المستدام لخدمة الممولين الأساسيين لها من اقتصادات دول الشمال الغني، وخاصة الولايات المتحدة،  و من لف لفها من أصحاب الصوت الأقوى في توجيه دفتها ووجهة عملها.

 

دكتور مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم