آراء

رشيد الخيّون: الشّيخ ياسر.. هل سبَّ العنبَ الأسود؟!

لو أراد الشّيخ الجليل اللّبناني ياسر عودة، راحة الخاطر وملء الرِّضا، مِن العوام والميليشيات العقائديّة الولائيّة، لحصل على ما أراد، فمّا عليه إلا الصّمت، ولا داعي حتّى لأن يُسبح باسم الكهنوت. يسكت عن المشاهد الفظائعيَّة المخزية، التي أقيمت، خصوصاً هذا العام، في العاشر مِن محرم، والتي فاقت ما تبناه العهد الصَّفويّ (1501- 1723م) من اختراعات، مشاهد جعلت الإنسان السَّوي يحار بين الحقيقة والخيال، ومع سَوق هذه الجموع إلى كهف الخرافة، يصبح التَّمييز بين الصَّحيح والخطأ صعب المنال، خصوصاً أن الجميع يتحدث بالدّيموقراطيّة، وكلّ يفهمها وبطلبها وفق مفاهيمه.

حصل أن صَدر (2023/7/4) توجيه من أعضاء في مجلس الإسلاميّ الشّيعي الأعلى في لبنان (هيئة التّبليغ في المجلس) بنزع الأهلية الدّينيّة عن خطباء ودعاة، وبالتالي هم مطالبون بنزع العمائم، والذّوات هم: ياسر عودة، سامر عبد الحسين غنوي، بلال إبراهيم سليم، محمد يوسف الحاج حسن، نزار محمد حمزة، إبراهيم حسن حرز، عبد الكريم الشيخ علي، يوسف حسن كنج، أحمد عباس عيدي، أبو الحَسن عباس حمود مخ، محمد علي الفوعاني، هاشم علي الموسوي، محمود عبد الله فقيه، عبد السّلام نيازي دندش ونظير جمال الجشي. مع أنهم اعتمروا العمائم ليس منحة أو تشريفاً من جماعة التّبليغ في المركز، بل من دراستهم الحوزويّة.

كان الأبرز، بالنّسبة إلى الوسط العراقيّ بين هؤلاء، صاحب العمامة البيضاء الشّيخ ياسر عودة، فصوته يصل إلى العراق، ويتداوله العراقيون، بين مؤيد، من شاجبي قتل الثمانمئة متظاهر من الشّباب العراقي، ومن الذين يشعرون بمعاناة بلادهم مِن الفساد الفظيع، ومبغضٍ من أتباع كتائب وعصائب ولائية.

كذلك تجري متابعة الشّيخ ياسر بكثافة، من قبل العقلانيين العراقيين، بسبب كثرة  المنابر وتكاثرها، التي ترمي بالخرافات على الشّباب، حمماً من الجهل والشّعوذة، مع علم المتابعين بأنّ صوت الشّيخ ياسر يضرب في الصّميم، لذا يمكن القول إنّ الضّغط الذي جرى على الشّيخ عودة، والأربعة عشر من المتنورين، هو تضامن ميليشيات لبنان والعراق الولائيّة ضدهم.

يعرف الجميع، أنه بعد الحوادث السّوريّة، وقبلها احتلال وسط بيروت مِن قبل ميليشيا "حزب الله" في (7/5/2008)، تغيرت النّظرة إزاء هذا الحزب، فمن ألق المقاومة لتحرير فلسطين إلى الإحباط بتحرير بيروت من أهلها، حصل حادث اجتياح وسط بيروت نتيجة لقرارين مِن مجلس الوزراء اللبناني: السّيطرة على شبكة الاتصالات، والتي يعدها الحزب من حقّه، ضمن منطق "دولة داخل دولة"، وإقالة مدير أمن المطار، وهو أيضاً لـ"حزب الله"، وليس هناك مِن دولة تعترف بها الأمم المتحدة، ولها علم ونشيد ودستور، وتكون شبكة الاتصالات وأمن المطار بيد حزب مِن الأحزاب، تابع علانية لدولة أجنبية.

بعد اجتياح وسط بيروت، خفت ألق "حزب الله"، من أنه المقاومة والمقاومة هو، لذا صار الاتجاه إلى كسب الشّعبيّة وإدامة الولاء، إلى حماية الخرافة والفساد، فالخرافة تُخضع البسطاء من النّاس، وتمنع أيّ احتجاج وطنيّ صادق، بل على العكس يتحول الاحتجاج إلى نصرة الخرافة والشّعوذة أو الشَّعبذة، وهذا الواقع يتماهى تماماً مع الواقع العراقي وهيمنة الميليشيات الولائيّة، الواقع المرير في الوسط الشّيعيّ الذي يتصدى له الشّيخ ياسر، بفكر وحماسة.

 يُذكّرنا ما اجتمعت مِن أجله لجنة التّبليغ داخل المجلس الإسلامي الشّيعيّ في لبنان؛ بما حصل مع السّيد محسن الأمين (تـ: 1954)، في مطلع القرن العشرين، مع تجار المواكب الحسينيّة الذين يقدمون الطّائفة الشّيعيّة، أو المذهب الشّيعيّ الإماميّ، خارج التّاريخ، عبر مواكب الجلد بالسّلاسل ومواكب التّطبير بالقامات والسّيوف، إلى درجة أنّ أحدهم، وقيل السّيد صالح الحلي (ت 1940) قال من الجارحات بحقّ السّيد الأمين: «يا راكباً إما مررت بجِلَّقٍ/ فابصق بوجه أمينها  المُتَزَنْدِقِ»! ومعروف جِلَّق اسم من أسماء دِمشق قديماً. بينما نصر السّيد الأمين الشَّيخ مهدي الحجار (تـ: 1939) بالقول: «تأسَ يا محسن في ما لقيت بما/ لاقاه جدك من بغي ومن حسدِ» (انظر: الخليليّ، هكذا عرفتهم). إذا كان الحلي خطيب معارضة «التّنزيه» في النّجف، وقف عميد المنبر الحسيني في زمانه الشّيخ محمد علي اليعقوبي (تـ: 1965) نصيراً للتنزيه. فصار المجتمع الشّيعي، على مستوى الفقهاء والخطباء، بحسب شائعات المنحدرين مع الشّعوذة والخرافة، فريقين هما: أمويون وهم الأمين ومؤيدوه، والفريق الآخر علويون. عموماً كانت المجالس الحسينيّة واللّطم من اختراعات الصّفويين (التكابني، قصص العلماء)، أما اختراعات اليوم، والتي تعدت اختراعات الأمس فمن صناعة مرجعيات، كالشّيرازيّة ولها حضور في كربلاء، وضعت كل ثقلها في التّمادي، بما يصفونه بالشّعائر الحسينيّة، حتّى تعدت المعقول.  

إذا كان السّيد محسن الأمين تناول الممارسات في عاشوراء، ولم يتحدث عن أيّ أمر آخر (رساته التّنزيه 1928)، فإن الشّيخ ياسر عودة، والمطالبين بنزع عمائمهم جميعاً، خطيئتهم مزدوجة، أكبر وأخطر، فهم يتصدون ضد مصادرة الطّائفة، وضد ذوبان الأوطان في ولاية أجنبيّة، يقفون ضد التّيار الجارف بالشّيعة إلى انتزاعهم من أوطانهم، لمصلحة مشروع لا يبقي عليهم ولا يذر، فشبابهم يُقتل في ميادين الحروب بالوكالة، ومناطقهم يرثى له.

 بهذا من حقّ جماعة التبليغ أن تعد الشّيخ ياسر عودة وزملاءه غير مؤهلين، فالعمائم، وفق جماعة التبليغ، مهمتها إنشاء الوطن الطّائفة، بقهر الآخرين وأولهم النّاجون من عقيدة هذا المشروع، بما عُبر عنه منذ البداية "الفخر في حزب ولاية الفقيه". فماذا تريد هذه الولاية غير غسل أدمغة الأتباع من الولاء لأوطانهم، بالفساد وبالخرافة، وبالخدعة العقائديّة، وبأيّ أسلوب كان، هذا ما يقف ضده المشار إليهم بعدم الأهليّة، والمقصود، في حقيقة الأمر، عدم الأهلية لهذا المشروع! فماذا يترتب على هذه المعارضة؟! يترتب التّسقيط، والإقصاء، والمطاردة، والاغتيال إذا اضطر القائمون على المشروع لتنفيذه، والخطوة الأولى خلع العمامة، مع أنّ معتمرها لا يحتاج إلى رخصة أو إجازة أو شهادة، غير شهادة الدّراسة لا شهادة السّياسة.  

بما أنّ المشروع واحد، في أذهان عمائم ولاية الفقيه وقادة الميليشيات الولائيّة، بين الوضع العراقي والوضع اللّبناني، حصل التّضامن بين أصحاب المنابر والمؤسسات، وقصة ذلك طويلة.

حاولتُ أن أجد لكناية "سب العنب الأسود" أصلاً وفصلاً فلم أجد، وما شاع في التواصل الاجتماعي عنها سببها قولها، لا أجده صحيحاً، وهي كناية "عمن تعرض للسلطة الحاكمة بانتقاد" (الشّالجيّ، موسوعة الكنايات البغداديّة)، فكيف والشّيخ ياسر العودة انتقد ما هو حكومة على الحكومة، في لبنان والعراق معاً، لكنني أُخمن أن أصل الكناية هو "سب الحجر الأسود"، الذي يُعتبر خطيئة بل جريمة كبرى، وبما أنّ "عبارة الحجر الأسود" فيها من المحاذير ما يصل إلى التّكفير، ولم تتداول في أي من مجامع الأمثال ومعاجمها التّراثيّة، فقد اختص بها العراقيون، وهم معروفون بالتّمرد، فأجدهم استبدلوا العنب بالحجر.  

ربّما كان الشّاعر الشّعبيّ البغداديّ عبود الكرخي (تـ: 1946) وثق لهذا المثل عندما أغلقت جريدته فقال: "ما ذنب الجريدة دائماً تنسد/ هل سبت عنب زرباطية الأسود" (موسوعة الكيانات البغداديّة). أخبرونا يا جماعة التّبليغ، هل الشّيخ ياسر عودة سب العنب الأسود؟! وإن سبه فهل كان عنب زرباطية، المنفذ الحدودي مع الجمهوريّة الإسلاميّة، أم عنب بيروت، حيث نفوذ الجمهورية الإسلاميّة أيضاً، فهاج عليه النّفوذان بلا هدنة وهوادة!

***

د. رشيد الخيّون

في المثقف اليوم