آراء

تشاندران نير: على الغرب أن يتهيأ لدفع حسابٍ طالَ إنتظاره

تشاندران نير Chandran Nair

المدير التنفيذي ومؤسس المعهد العالمي من أجل الغد [GIFT]

ترجمها عن الأنكليزية: يحيى علوان

***

ثمةَ مؤشراتٌ رئيسة 5 توضحُ كيف يتغير العالم، وأنه يجب على الغرب أن يتعامل مع حقيقة أنه لم يعد قادرًا على فرض "قيادته" على العالم كما كان يفعل سابقاً.

إن النظام الدولي ما بعد الغربي متعدد الأقطاب في أُفولٍ، آخذ إلى زوال، في حين يكافح العالم مع الآثار المترتبة على هذا التحول في السلطة، وتتشكل أسس تقديراتٍ لتحوُّلٍ هائلٍ. سوف يتحدى هذا التحوّل المعتقدات والهياكل الراسخة التي حافظت على الهيمنة الغربية على العالم على مدى مئات من السنين الماضية، وكشف على طول الخط طبيعة استحقاق الغرب المتصور لقيادة نظام التراتب العالمي. ستكون النتيجة النهائية إعادة تقييم مهمة للعلاقات الدولية كما عرفناها حتى الآن.

هذا التحول الهائل سيكون محمولاً بخمس مؤشرات رئيسة، ستُجبر الدول الغربية على مواجهة المستقبل والتكيف معه حيث تَجب مشاركة "القوة" مع البقية في عالم متعدد الأقطاب. إن الفشل في التعرف على هذه المؤشرات أو محاولة مقاومتها بقوة، قد يشكل خطراً كبيراً ليس فقط على الغرب نفسه، ولكن أيضًا على الاستقرار العالمي. ومع ذلك، يمكن تجنب النزاعات المستقبلية إذا تم النظر إلى فترة التغيير هذه على أنها فرصة لبناء عالم أكثر إنصافًا، وليس أزمة تهدد الامتيازات المتطاولة على حقوق الآخرين وسيادتهم، والراسخة في ذهنية "الغرب".

خمسة مؤشرات تستدعي التأمل

إن المستقبل الذي ينتظر الغرب - الانتقال السلس نحو التعددية القطبية أو فترة عدم الاستقرار والصراع المحتمل - سيعتمد إلى حد كبير على كيفية استجابة صُنّاع السياسة للمؤشرات الخمسة التالية:

الأول: هو تفكك رواية التاريخ حتى الآن. لقد مارس الغرب، عبر تاريخه الاستعماري، وأتقن التفسير الانتقائي وسرد الأحداث، واختار تصوير نفسه على أنه مُنشئ الحضارة الحديثة وقوة إرشادية خيّرة. هذا يتغير الآن. لقد كسرت تقنيات المعلومات، مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، احتكار المعلومات والتاريخ الذي كانت تملكه في السابق مؤسسات حراسة البوابات الغربية (شركات الإعلام والجامعات ودور النشر... وغير ذلك). نتيجة لذلك، يدرك الناس في جميع أنحاء العالم أن التاريخ لم يعد مقصورًا على التفسير الغربي - بما في ذلك إستهجان أعماله "الخيرية"!

فقد كان أحد المكونات المهمة في ذلك هو فشل الغرب المتكرر في الاعتراف بماضيه المشين. على الرغم من تضخيم الأخطاء المتصورة للآخرين . فقد إلتزم الغرب الصمت بشأن تأريخه البغيض، مثل تدمير الرواد الأمريكيين الأوائل لثقافات السكان المحليين الأصليين، أو الاستغلال الأوروبي للقارة الأفريقية، أو معاملة أستراليا للشعوب الأصلية- الأبروجينز-. إن معالجة هذه الأحداث التاريخية مهمة بشكل خاص لأنها تؤثر على السلوك الحالي.أنَّ الدول الغربية تواجه أيضًا مشاكل في الاعتراف بالأخطاء والنوايا المعاصرة.

المؤشر الثاني: هو إعادة تقييم النظام الدولي "المستند إلى القواعد". قد لا يحب صانعو السياسة في واشنطن سماعه، لكن هذا المفهوم غدا موضع الكثير من السخرية في جميع أنحاء العالم ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه أداة يستخدمها الغرب للسيطرة على الشؤون العالمية والحفاظ على هيمنته. هناك استياء كبير يتنامى ضد الدول الغربية نظرًا للانتهاك المتكرر لقواعدها الخاصة، مما يعني أن شرعية هذا النظام أصبحت موضع تساؤل على الرغم من جوانبه الإيجابية.

وتتزامن مع هذا الإحباط المتزايد حقيقة أن توزيع القوة عبر المزيد من الدول يغير النظام العالمي الحالي ويخلق فرصًا وتحديات جديدة. لقد احتلت الصين مكانة أكثر بروزًا، حيث قدمت المنافع العامة العالمية مثل صنع السلام ومعالجة تغير المناخ بطريقة لا ترغب الدول الغربية أو لا تستطيع القيام بها. وبالمثل، بدأت الهند في التأكيد على حقوقها، شأنها في ذلك شأن الدول الصغيرة الأخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا...

ومع تحديد المزيد من الدول لمساراتها في القرن الحادي والعشرين، يجب على الغرب أن يدرك أن ميزان القوى الدولي قد تغير! ولا يمكنه الاستمرار في فرض إرادته على الآخرين - إن صعود الصين ودول أخرى دليل على ذلك-. على الغرب أن يتصالح مع هذا الواقع الجديد وأن يدرك أن هناك حاجة إلى نهج جديد وأكثر براغماتية ومتعدد الأقطاب، حيث تنتهج الدول سياسات خارجية ملتزمة بالتعايش، تحدوها مصالحها الخاصة بدلاً من الانحياز إلى "جانب واحد" "أو الآخر.

ثالثًا: سقط القناع عن عمليات "حفظ السلام" الغربية، على الرغم من تصوير نفسها على أنها الضامن للأمن العالمي، فإن الكثير من دول العالم ينظر الآن إلى الولايات المتحدة - وأوروبا إلى حد أقل-، على أنهما يستفيدان من الحروب، بدلاً من الاهتمام بتعزيز السلام الحقيقي. إن المجمع الصناعي العسكري الغربي – وخاصة في الولايات المتحدة - قوي للغاية لدرجة أنه باتَ معروفًا الآن أنه يقود السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى الحد الذي يؤدي إلى استمرار الصراعات للاستفادة بالتالي من الحروب.

تقود الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو، حالياً زيادة هائلة في الإنفاق العسكري العالمي، حيث تنفق أمريكا على "الدفاع" أكثر مما تنفقه الدول العشر التالية في الناتو مجتمعة. كما أنه من المعروف أيضًا أن ما يقرب من نصف ميزانية البنتاغون يذهب إلى متعاقدين من القطاع الخاص كل عام، ويتبرع المجمع الصناعي العسكري بملايين الدولارات للتنافس داخل الكونجرس الأمريكي، مما أدى إلى الاستيلاء على الدولة وزيادة كبيرة في ميزانيات الدفاع.

لقد أدركت بقية العالم أنه لا يمكن الوثوق بالغرب وحده لقيادة جهود السلام العالمية، خاصة إذا كان جزء كبير من اقتصاداته موجهًا للاستفادة من الصراعات والحروب. مقابل ذلك، يحدث تغيير إيجابي، إذ توسطت الصين في اتفاقيات سلام رائدة - بين المملكة العربية السعودية وإيران، على سبيل المثال – إضافة إلى أن زعماء العالم مثل إندونيسيا جوكو ويدودو، وناريندرا مودي في الهند، والبرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، يساهمون في السعي لفض النزاعات الحديثة بصورة سلمية مُرْضِيَة.

المؤشر الرابع: يجري حالياً سعيٌ حثيثٌ للإطاحة بالبنية المالية الغربية الفوقية. إن استخدام الغرب لقوته المالية على نطاق واسع لتحقيق مكاسب وأغراض جيو- سياسية ليس سرًا كبيرًا - يتحدث صانعو السياسة والخبراء علنًا عن "تسليح التمويل" وفرض عقوبات على الدول التي لا تمتثل للنوايا الغربية. وبالمثل، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على تجميد وحتى مصادرة احتياطيات الدول ذات السيادة - أفغانستان وفنزويلا وروسيا - تسببت في حدوث موجات من الصدمة في جميع أنحاء العالم.

نظراً لذلك ولسجل الغرب الخاص من الجشع المالي وسوء التصرف - الذي أدى إلى أزمات مدمرة مثل الأزمة المالية 2007-2008 والانهيار الأخير لبنك "وادي السيليكون"Silicon valley Bank، الذي كانت له أصداء عالمية – مما أدى إلى عدم الثقة في الغرب ورفضه للهياكل والبنى المالية وهو ما يتنامى من جديد، عبر جهود تجري الآن لتفكيك الامتياز الباهظ الممنوح للولايات المتحدة من خلال عملتها.

إن إلغاء "الدولرة"- نسبة إلى الدولار الأمريكي – يحدث بصورة متزايدة، إذ انخفضت حصة العملة من الاحتياطيات العالمية إلى 47 في المائة العام الماضي، مقابل 73 في المائة في عام 2001. يضاف إلى ذلك، تبحث البلدان عن بدائل لنظام سويفتSWFT، والذي تم استخدامه أيضًا لصالح الدول الغربية، على أساس العقوبات، وبالتالي أزعج غالبية دول العالم. ومع إكتساب البلدان ذات العملات المستقرة تأثيرًا، يظهر نظام اقتصادي متعدد الأقطاب يعيد تشكيل التحالفات الجيو - سياسية والدبلوماسية الاقتصادية وتوازن القوى داخل المؤسسات الدولية، قد يمنح هذا التغيير الدول النامية مرونة أكبر في إدارة عملاتها وسياساتها النقدية ويحدُّ من قدرة الغرب على فرض عقوبات من جانب واحد. علاوة على ذلك، تجاوزت دول البريكس مؤخرًا مجموعة الدول السبع من حيث الناتج الإجمالي المحلي، مما يشير إلى إعادة توزيع القوة الاقتصادية ويشيرُ إلى مستقبل من التعاون في التجارة والاستثمار والبنية التحتية والمساعدة التنموية.

خامساً: وأخيراً، هناك الانهيار الملحوظ في مصداقية الصحافة الغربية. يأتي هذا في منعطف حرج، حيث أدت أوجه القصور المتكررة في السنوات القليلة الماضية إلى زيادة الوعي العالمي بدور الإعلام الغربي في إدامة الجوانب المفضلة للغرب في النظام العالمي الحالي - غالبًا على حساب الدول الأخرى.

على سبيل المثال، أدى تقريع الصين المستمر في عناوين الأخبار الغربية إلى تكريس رواية سلبية، بل مثيرة للخوف عن بكين باعتبارها تهديدًا لمواطنيها والعالم بأسره. لقد تم حشد السياقات الجيو- سياسية لهونج كونج و تايوان، على الرغم من تعقيدها، بشكل خاص وانتقائي لدفع رواية "نحن ضدهم"، بدلاً من تشجيع التفاهم بين الغرب والصين.

كذلك، فإن التغطية الأحادية الجانب بشكل كبير للنزاع الأوكراني تتجاهل بانتظام التعقيدات الجيو - سياسية الوطنية والإقليمية في العلاقة الروسية - الأوكرانية، طويلة الأمد وتاريخ توسع الناتو في أوروبا.كما يعد الإفتقار إلى التقارير الواقعية حول تفجير نورد ستريم، الذي يعتقد الكثيرون أنَّ منْ ارتكبه هو "الغرب" - مع تقارير لدعم هذا الادعاء – كل ذلك أحدث فجوة صارخة ساهمت في انعدام الثقة بوسائل الإعلام الغربية في كل من الغرب والقراء على حد سواء. فبعد أشهر فقط، اعترفت الصحافة الغربية بهدوء بالذنب الغربي المحتمل، أو على الأقل المعرفة به!

علاوة على ذلك، أدت التغطية غير الكافية والمتحيزة للنزاعات غير الغربية، مثل تلك الموجودة في اليمن وميانمار وفلسطين، إلى اتهامات عالمية بالإهمال والتحيز وحتى العنصرية.

فِكرةٌ للتأمُّل

تحتاج الحكومات الغربية، التي تواصل حتى الآن، إنكار صدى للتواصل مع أصدقائها في جميع أنحاء العالم وإدراك ما هو واضح للجميع باستثناء أنفسهم: أن تُدرك بأن العالم ليس كما كان في حقبة ما بعد الحرب الباردة. لقد انتهت الطرق القديمة، والغرب ببساطة لا يملك القوة السياسية والمالية، ناهيك عن الشرعية الدولية، كما فعل في السابق! إذ يجب عليها - الدول الغربية - أن تتكيف مع هذه البيئة الدولية المتغيرة، بدلاً من الإصرار بعناد على العمل كـ"المعتاد"! إن عدم القيام بذلك سيجعل العالم مكانًا أكثر خطورة ويقوض مصداقية وتأثير الغرب أكثر.

***

في المثقف اليوم