تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

بكر السباتين.. إسقاطات فكرية وتاريخية في عمق الأزمة الفرنسية

هل تعيد الأحداث الجارية في فرنسا البلاد إلى روح تجربة الثورة الفرنسية من خلال ثورة جديدة أخذت تتجلى في الوقت الراهن، كردة فعل ضد إجراءات وقوانين جائرة أصدرتها دولة يحكمها اليبراليون الجدد، الذين خالفوا مبادئ الثورة الفرنسة، وذلك من خلال سن قوانين هجينة تتجاوز مضمون تلك المبادئ حتى تبرر لقيم العنصرية بذريعة مقاومة الإرهاب وإعادة تفسير الظلم وحقوق الإنسان والحريات.. ناهيك عن التلاعب بمستحقات الشعب الفرنسي وخفص مستواه المعيشي لمواجهة التضخم والتعامل مع الأقليات العرقية والدينية كمجاميع طارئة، رغم دورها الأساسي في التنمية الفرنسية المستدامة من باب المواطنة والانتماء.

من هنا يمكن القول بأن فرنسا في أزمة تشريعية فكرية واقتصادية من الصعب تجاوزها بارتجال القوانين دون معالجة الأسباب الحقيقة والتعامل معها بشجاعة وموضوعية.

وكان الأولى بفرنسا الاعتراف بأن للأزمة الراهنة في فرنسا جذور تاريخية من خلال ممارسة التهميش للفرنسيين من أصول أفريقية، وخاصة حاملي الهوية الدينية الإسلامية، والتعامل معهم وفق مفهوم "الإسلامفوبيا" المرتبط جوهرياً بقانون الإرهاب، خلافاً لقوانين معاداة السامية وحماية المثليين.

فالتاريخ البعيد القريب يقرّ دون مجال للشك بالدور الفرنسي الاستعماري في نهب ثروات مستعمراتها في أفريقيا، التي تُعَدُّ منبعاً للهجرات غير الشرعية إليها، وما نجم عن ذلك من ظلم وفقر واضطهاد.. على نحو ما حصل إبان ثورة تحرير الجزائر (1954-1962) التي لقبت من جرّائها ببلد المليون شهيد.

مع أن فرنسا لا تنكر احياناً دور أولئك المهاجرين في الدفاع عن فرنسا إبان الغزو النازي وإسهاماتهم المشهودة في البناء؛ لكنهم ظلوا في عين اليمين الفرنسي فئة غير أصيلة لا بد من اجتثتثها.

وهذا يفسر ما يجري الان في فرنسا من أحداث عصيبة واحتجاجات تجاوزت في اسبابها مقتل الشاب الفرنسي نائل وهو من أصول جزائرية، على يد شرطي فرنسي، بعد تنبيهه لمرتين، أعقبهما إطلاق النار عليه بدم بارد، متذرعاً بتطبيق القانون.

حدث ذلك في مشهد انتشر كالنار في الهشيم عبر الفضاء الرقمي واضعاً الدولة الفرنسية برمتها على المحك.

ما يحدث الآن في فرنسا أحرج موقفها في مجال حقوق الإنسان.

إذ حث مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحكومة الفرنسية يوم الجمعة الماضية، على "معالجة جدية للمشاكل العميقة للعنصرية والتمييز في إنفاذ القانون".

وقالت مفوضة حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، دنيا مياتوفيتش، إن أعمال العنف المتفرقة لبعض المتظاهرين أو أفعالا أخرى مُدانة ارتكبها آخرون خلال التظاهرات، لا تبرر الاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر تابعة للدولة.

وقد أدينت فرنسا من قبل رئيس رابطة حقوق الإنسان باتريك بودوان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش وهذا من شانه أن يضر بسمعة فرنسا التي ارتبط اسمها بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وفق مبادئ الثورة الفرنسية.

والغريب في الأمر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تجاوز عمق الأزمة المدمرة للبلاد وما رافقها من عنف شبابي لافت، معزياً أسبابها- فقط- إلى إدمان الشباب على ألعاب الفيديو التي ساهمت في ترسيخ العنف في العقول والتحريض على ممارسته، دون وعيٍّ منهم لمخاطره على النفس والمجتمع.

كما درج ماكرون -وفق ما يرى مراقبون على مدار أعوام خلت- على الاستخفاف بالقضايا التي دأبت على تثوير الشارع الفرنسي، على نحو ارتفاع معدل المعيشة بسبب التضخم الناجم عن توريط البلاد في الحرب الأوكرانية، وقوانين الضمان الاجتماعي الجديدة التي رفعت من عمر التقاعد، وأزمة البطالة التي عزاها ماكرون إلى تكاسل الشباب في البحث عن فرص العمل التي قال بأنها متوفرة، ما ثوّر اليسار الفرنسي عليه.

وفي سياق ذلك قالت ماتيلد بانو النائبة عن حزب فرنسا الأبية اليساري المتشدد، إن "ماكرون أصبح صورة كاريكاتورية لماكرون".

وكأنها تشير إلى عجزه عن اجتراح الحلول، والدوران نمطياً حول نفسه دون أن يفكر خارج الصندوق.

لا بل اعتبرت النائبة بانو أنه "بإظهار ماكرون هذا الازدراء للناس، فإن الشخص الوحيد الذي نأمل أن يكون عاطلاً عن العمل هو إيمانويل ماكرون نفسه".

وهذه دعوة مبطنة ساخرة لإسقاطه في الانتخابات المقبلة.

وفي وقت سابق هذا العام، اتهم وزير الداخلية جيرالد دارمانان اليسار المتشدد بالرغبة في "مجتمع من دون جهد" والدفاع عن "الحق في الكسل".

وهذا استخفاف من قبل الحكومة الفرنسية بأسباب الأزمة المستفحلة في فرنسا، مما سيصعب على أصحاب القرار اتخاذ ما يلزم بشانها، لا بل من شأن ذلك أيضاً تسجيل بعض النقاط لصالح اليسار الذي يسعى لتجيير الأزمة لصالحة، مزاحماً في ذلك اليمين الفرنسي الذي يُحَمّلُ سياسة ماكرون تبعاتها.

ولكن الطامة الكبرى تتمثل بتحذيرات وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي للفرنسيين مهدداً:

"أقول للمحرضين في مواقع التواصل الاجتماعي إننا سنصل إليكم".

محذراً الأسر الفرنسية من مغبة سماحها لأبنائها بالخروج ليلاً من البيوت؛ بغية التفاعل مع الأحداث، منذراً باعتقال كل من يقبض عليه بالجرم المشهود من المشاركين في الأحداث وأولياء أمورهم، في سابقة فرنسية غير مشهودة، وتخالف مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن فرنسا باتت من جمهوريات الموز التي اغرقت البحر الكاريبي بالدماء.

فكيف تقوم الأسرة بالدور المنوط بها في ظل قوانين جائرة تهمش دورها التربوي!

بحيث يعتمد هذا التهميش على إعادة تفسير معنى "الأسرة" بمضمونها التربوي ودورها في التكاثر الطبيعي، واستهدافها بالتفكيك المبرمج ومن ثم إغراقها بالأزمات التي تساعد على ذلك، على نحو سن قوانين حداثية تنتهك الظروف المعيشية المتميزة للمواطن الفرنسي تحت شعار مواجهة التضخم، الذي بات كما يبدو مزمناً، ما أثر سلبياُ على تماسك الأسرة، وقد رافق ذلك ما نجم من أزمات أسرية تجاوزتها القوانين بغية بناء إنسان فرنسي مبرمج على الطاعة العمياء والسطحية الخالية من الأسئلة العاصفة البناءة، وكأن المجتمع بات يحتوي على تقاسم نوعي بشريِّ جديد تتراوح عناصره الأربعة ما بين: الذكر، والأنثى، والمثليّ، والإنسان(الريبوت) الآلي.

فيقوم هذا التقاسم غير الطبيعي على إعادة تعريف مفهوم الحريات العامة من خلال التحرر من كل القيود الاجتماعية والدينية وتسطيح العقل الفرنسي، لا بل والغربي برمته! بالانقلاب على الثوابت العلمية والدينية التي تغذي الإسرة بمعطيات البقاء والتأثير الإيجابي والتي تستكمل المؤسسات التعليمية التربوية رسالتَها؛ لتقبل المتغيرات الشاذة التي حولتها السياسات التربوية الغربية إلى واقع مستدام فصار من الطبيعي قيام جامعة عريقة بريطانية، مثل أوكسفورد التي تضاهي السوربون في المكانة، باستقبال نجمة الأفلام الإباحية مايا خليفة لتلقي محاضرة في الطلاب من نفس المنبر الذي شهد محاضرات قدمها أشهر خريجيها من امثال: ماريغريت تاتشر، وليستر بيرسون، وديفيد كميرون، وتوني بلير، ووليان جوندينغ.. وغيرهم من رجال العلم والسياسة!

نعم الأسرة التي يُحَمِّلُها وزير العدل الفرنسي تبعات الأزمة هي نفسها المستهدفة أيضاً من خلال دعم القوانين الفرنسية -كسائر الدول الغربية- دعم المثلية والتزاوج الشاذ لبناء أسر فارغة المحتوى، بهدف ضرب الأسرة التقليدية الطبيعية التي تعتبر نواة المجتمع المستهدف من قبل الليبراليين الجدد.

فهل يستقيم العتب والتجني على أسرة مكبلة بالقيود؟

لذلك فقبل تحميل أولياء الأمور مسؤولية الاحتجاجات الأخيرة وما نجم عنها، لا بد من إجراءات إصلاحية جذرية تساعد على بناء الأسرة لا هدمها.. ما يعني بأن الكرة باتت في ملعب وزير العدل الذي خاطب الجماهير الفرنسية كقائد عسكري تحركه الشهوة إلى الانتقام.. في تصعيد يتوافق مع العقلية الأمنية الفرنسية التي تتصدى للاحتجاجات بالحديد والنار ما جعلها تستفحل وتمعن تخريباً في البلاد.

لذلك لجأت قوات الأمن الفرنسي إلى الاستعانة بخبرات أعتى أنظمة الفصل العنصري في العالم، "إسرائيل" التي اكتسبت خبرتها من خلال الاحتلال وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين منذ ثمانية وأربعين حتى هجوم جنين الأخير دون رادع أممي.

وما بين الاستخفاف الرئاسي بالأزمة ومحاولة التصغير من دوائرها المنداحة، إلى جانب تلك العقلية الأمنية التصعيدية، تقف فرنسا وتاريخها على المحك في أحوال تذكر الفرنسيين بالأسباب التي فجرت الثورة الفرنسية الكبرى أواخر القرن 18، التي غيرت العقل الأوروبي عبر قرون خلت، وما زالت مبادئها تتفاعل في العقل الغربي إلى أن جاء من يسعى لطيّ صفحتا إلى الأبد! من خلال الليبرالية الجديدة وتمدد نتائجها تدريجياً في عموم القارة العجوز.

***

بقلم: بكر السباتين

4 يوليو 2023

في المثقف اليوم