آراء

عبد السلام فاروق: الأشد سخونة على مر العصور!

يكاد صيف هذا العام يلفظ آخر أنفاسه الملتهبة تاركاً العالم فى دهشة وترقب.. حرائق فى كندا وشمال أمريكا وجزيرة هاواى ثم فى اليونان والجزائر احترقت أثناءها آلاف الهكتارات من الغابات والأشجار التى هى رئة الأرض. ولأول مرة تشهد منطقة الشرق الأوسط موجة حر هى الأعنف والأشد التهاباً على الإطلاق؛ بفعل اجتماع ظاهرتى القبة الحرارية والنانو معاً للمرة الأولى فى المنطقة!

تلك الظواهر وغيرها دفعت الأمين العام للأمم المتحدة للخروج بتصريح يعبر عن هلع عالمى تجاه ما يحدث من ظواهر مناخية استثنائية، فيقول: إن الانهيار المناخى قد بدأ! فما مغزى هذا التصريح الخطير؟

غوتيريش يدق ناقوس الخطر!

فى السادس من شهر سبتمبر الحالى أعلن مرصد كوبرنيكوس أن صيف نصف الكرة الشمالى لهذا العام كان الأكثر حراً على الإطلاق.. وقد سبق أن كشفت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة أن الأشهر الثلاثة الماضية شهدت أعلى معدلات درجة حرارة تم تسجيلها على الأرض منذ بدء تسجيل الحرارة عالمياً حتى الآن، وهو الأمر الذى دفع الأمين العام للأمم المتحدة لتحذير العالم من القادم قائلاً: ""المناخ ينفجر بوتيرة أسرع من قدرتنا على المواجهة مع ظواهر جوية قصوى تضرب كل أصقاع الأرض".. فما معنى قوله إن المناخ ينهار؟! وإلام يشير مثل هذا التصريح؟

الحق أن اشتداد الحر هذا الصيف لم يكن إلا القشة التى قصمت ظهر البعير! فعلى مر الأعوام القليلة الماضية شهدت الأرض عدداً من الظواهر التى أثارت رعب الخاصة والعامة.. كثرة الزلازل وموجات تسونامى، ووصول الأعاصير لدرجات غير مسبوقة من العنف، وفيضانات فى أماكن ومناطق لم تشهد مثل تلك الفيضانات من قبل قط، وجفاف أنهار كبري وبحيرات.. ناهيك عن ظواهر لم تجد من العلماء تفسيراً شافياً كظاهرة دوران الحيوانات، وصراصير المورمون فى نيفادا، والجراد فى جزيرة العرب، وانفجار ينابيع المياه فى صحراء الربع الخالى.. سلسلة من الظواهر المنذرة بتغيرات كونية جذرية تحدث على مرأى ومسمع من خبراء الأرصاد وعلماء الفلك والجيولوجيا تدفعهم جميعاً للتأكيد بأنها مجرد مقدمات لأمور أخرى ستأتى وأن على العالم أن ينتبه جيداً لما سيحدث ويستعد له.

إن تتابع تلك الظواهر وانتشارها بين ربوع الأرض، ثم ديمومتها وارتفاع وتيرتها وشدتها، هو السبب وراء تصريح غوتريتش المرتعب بأن الانهيار المناخى قد بدأ.. وهو تصريح يشمل لفظين مثيرين للتساؤل: لفظ "الانهيار" وأنه قد "بدأ".. إن مدلول كلمة الانهيار يستتبع أن تؤثر الحرارة على غيرها من عوامل المناخ كحركة الرياح وهطول الوابل والانهيارات الثلجية وحرائق الغابات وغيرها من العوامل.. وكلمة "بدأ" تعنى أن كل ما سبق لم يكن سوى الأبسط والأخف والأيسر وأن الأسوأ لم يأتى بعد.. هكذا يمكننا أن نفسر تصريح غوتريتش، وأزعم أنه التصريح الأخطر؛كونه صادر عن منظمة كبري لديها كل المعلومات الكافية لإعلان مثل هذا التصريح المخيف!

كيف يؤثر المناخ على مصر؟

كان لابد أن يكون لمصر بادرة بالتحرك الإيجابى نحو الاستعداد لتداعيات التغير المناخى، ولهذا تم إنشاء المجلس الوطنى للتغيرات المناخية عام 2015، يتمثل دوره فى رسم وصياغة الاستراتيجيات والسياسات العامة للدولة فيما يخص التكيف مع هذه التغيرات فى ضوء الاتفاقيات الدولية والمصلحة الوطنية.. وهكذا أثمر عمل المجلس إلى صياغة "الاستراتيجية الوطنية للتغيرات المناخية 2050" لتعزيز حوكمة وإدارة العمل الخاص بالتكيف مع التغيرات المناخية فى مصر فى المستقبل..

إن مصر من أكثر الدول الإفريقية تأثراً بالتغيرات المناخية، وبخاصةً تهديدات الجفاف بسبب ارتفاع الحرارة.. وكان المفترض أن المساعدات الدولية ستتوافر للمساهمة فى مكافحة بعض تأثيرات التغير المناخى بعد أن استضافت مصر النسخة الأخيرة من مؤتمر التغيرات المناخية.. لكن الذى حدث أن تلك المساعدات تأجلت أو تراجعت، ربما بسبب الصراع الدائر بين حلف الناتو وروسيا على أراضى أوكرانيا..

وزارتا البيئة والتعاون الدولى تلقتا بعض المساعدات من البنك الدولى للقيام ببعض المشروعات البيئية، لكن هذا لم يستمر ولم يكن بالحجم المأمول لتحقيق تسارع لإنجاز العمل بما يواكب تسارع وتيرة حدوث تلك التغيرات.. الأمر الذى قد يستلزم ضغطاً خلال مؤتمرات المناخ القادمة لحث الدول المانحة على القيام بالتزاماتها تجاه الدول الأكثر تضرراً بالتغيرات ومن بينها مصر..

إن بناء منظومة الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة بات أمرا أساسياً فى اتجاهات وسياسات الدولة المصرية للسنوات القادمة.. لكن هناك مخاطر تتهدد عملية البناء تلك.. أهمها ما يتهدد الرقعة الزراعية كنتيجة مباشرة لارتفاع درجات الحرارة والجفاف ونقص المياه والعواصف الترابية.. ما يتسبب فى انخفاض مستوى خصوبة التربة، وقلة حجم الإنتاج الزراعى ، بل وضعف جودة ذلك الإنتاج.. المسألة مصيرية تتعلق بغذاء المصريين وتلبية حاجاتهم المعيشية، وليس الأمر ترفاً زائداً عن الضرورة.

هل يمكن التكيف مع تغيرات المناخ؟

أساليب التكيف مع تغيرات المناخ تختلف وتتراوح بين الإجراءات البسيطة قليلة التكلفة إلى حد الإجراءات الحادة المكلفة مثل إجراء الانتقال الجماعى من منطقة إلى أخرى احترازاً لكارثة متوقعة..

وفى بعض الحالات تأتى التوقعات أضعف من حجم الكارثة كما حدث فى هاواى، وهو ما أدى لارتفاع عدد الضحايا الناجم عن الانتشار الكبير للحرائق، والتى أدت لمحو البنية التحتية فى مناطق بأكملها بإحدى الجزر الكبيرة بهاواى.. هذا بالضبط هو السبب فى أن الإنفاق المسبق على الإجراءات الاحترازية مهما ارتفع أقل تكلفة بكثير من التدمير الحادث بعد الكوارث البيئية.. إن الإنفاق الآن يجنب البلدان مخاطر سقوط الضحايا وانهيار البنى التحتية تحت تأثير الأعاصير والحرائق والزلازل والفيضانات فى المستقبل القريب والبعيد..

هناك فئات عمرية ومجتمعية هم الأكثر عرضة لتأثيرات الكوارث البيئية وتداعيات التغيرات المناخية، كالأطفال والكهول والمرضى والمعاقين والفقراء، والبلدان النامية هم الأكثر احتياجاً لبرامج الدعم الموجهة من قِبل المنظمات الإغاثية والدول المانحة، لأن انتشار الفئات الأكثر ضعفاً واحتياجاً للمساعدات بالدول النامية والفقيرة يجعلها الأولى بالدعم ومد يد العون.

زرعوا الشر وحصدنا المصائب

الدول الصناعية كانت هى الأكثر إسهاماً فيما نجنيه الآن من تغيرات مناخية خطيرة مدمرة.. فالانبعاثات الكربونية تنطلق من مصانعهم، والغابات الشاسعة لديهم تقلصت بفضل التدمير الممنهج لها، ومخلفات سفنهم وأساطيلهم البحرية أفسدت الحياة البحرية،ناهيك عن المخلفات النووية المدفونة بطرق احتيالية فى صحارى البلدان النامية.. كل هذا دفعهم لأكثر من مجرد الاعتراف بتلك الجرائم البيئية الضخمة.. إذ أن اتفاق باريس وميثاق جلاكسو للمناخ ألزم الدول الصناعية الكبري بمضاعفة التمويلات اللازمة لدعم الدول النامية من أجل التكيف مع آثار التغيرات المناخية.. ومثل هذا الالتزام ليس من باب التفضل أو المنحة غير المرتبطة بجدول زمنى، بل إن تسارع وتيرة التغيرات المناخية يلزم تلك الدول الغنية بتقديم كل الدعم العاجل حتى يمكن سباق الزمن لتحاشى الأضرار القادمة المدمرة للتغيرات المناخية فى الصيف والشتاء القادمين..

إن رؤية الأمم المتحدة تتمثل فى كون الجهود البيئية لا يمكن أن تسير منفردة، بحيث أن ما تبنيه دولة فى شأن مكافحة تأثيرات التغير المناخى تدمره دولة أخرى بجهالة أو غفلة أو قلة حيلة.. لهذا جاءت الدعوة لتكاتف الجميع من أجل إنقاذ الكوكب من مصير مجهول مخيف إذا تفاقمت آثار التغير المناخى إلى الحد الذى يصعب علاجه وتدراكه أو بعد فوات الأوان.. الإجراءات الاستباقية والاحترازية فى الشأن البيئى هى الأفضل لتحاشى كوارث طبيعية قد تكلف العالم أضراراً بشرية ومادية يمكن تجنب أكثرها بقليل من الاهتمام والجدية والسرعة فى اتخاذ القرارات وتحقيقها على أرض الواقع.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم