آراء

نهاد الحديثي: المثقف والاستقامة

قال الشاعر نزار قباني ـ قولاـ بليغا ذات يوم:

وإذا أصبح المفكـّـرُ بوقا ً

يستوي الفكر عندها والحذاء ُ

وقال جان جاك روسو: " الإستقامة معيار للعظمة الإنسانية" وهذه الكلمة أعظم من مكتبة ستندال بما حوته من حكمة وجمال".

قال أبو ذر عامر الداغستاني فقيد الفكر التقدمي وخريج أكاديمية السجون العراقية  "على السلوك أن يجاري الفكر في مختلف الظروف والأحوال!"، وعلى مدى عقود الدولة العراقية الحديثة واجه المثقفون سؤالاً بسيطاً ولكنه كان وما يزال غاية في التعقيد: كيف يفترض أن تكون علاقة المثقفين بالسلطة؟

فقد كانت إجابة غالبية المثقفات والمثقفين واضحة وسريعة: مع إرادة ومصالح الشعب وضد اغتصاب السلطة لتلك الإرادة والمصالح. ورأينا هنا كيف التحم المثقفون بالشعب ونضاله على مدى عقود الحكم الملكي بشكل خاص. ولكن تواصل هذا الموقف فيما بعد أيضاً، ولللآسف كانت هناك وباستمرار مجموعة من المثقفات والمثقفين، وأن كانوا من الأقلية، الذين اختاروا طريقاً آخر، طريق الوقوف مع السلطة وضد الشعب، والبعض الآخر حاول مسايرة الجانبين. ولم يكن الموقف مع السلطة في غالب الأحيان خال من القسر والقهر، بل كان نتيجة النهج الاستبدادي للسلطة. وكانت هناك قلة قليلة حقاً هي التي اصطفت كلية إلى جانب السلطة فكراً وممارسة. وقد سجل العهود السابقة حالة فريدة بالنسبة لجمهرة واسعة من العراقيات والعراقيين المثقفين الذين رفضوا الخضوع والخنوع لقسر النظام السياسي، فكان أمامهم واحداً من ثلاثة خيارات: إما الهجرة إن سنحت الفرصة، وإما السكوت أو استخدام لغة كليلة ودمنة في الكتابة، وإما القبول بالمعارضة المكشوفة ودخول السجن أو حتى القبول بالموت على أيدي جلاوزة النظام.

وبعد الاحتلال أصبح المهجر القسري والشتات العراقي داراً آمنة عموماً لعدد هائل من المثقفات والمثقفين المبدعين الذين رفعوا مع إخوتهم في الداخل راية نضال الشعب العراقي عالياً وواصلوا المسيرة. في حين اضطر البعض الآخر ممن هم في الداخل، وهو الأقل على مسايرة النظام والبعض الآخر غاص في الدفاع عنه ونماذج من هؤلاء البشر قلة،، فكم فقدنا من الادباء والفنانين والصحفيين خارج العراق يتمنون شربة ماء من النهرين الخالدين!!

السلطة السياسية ومجمل مكونات النظام السياسي التي حلت مكان النظام السابق بعد الاحتلال، والتي ناضل الناس من اجل أن تكون دولة حرة وديمقراطية ويتمتع شعبها بالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والأمن والعدالة الاجتماعية، لم تصبح كما كان مقدراً لها، وقد ساهمت الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال المباشرة وسياسيو الصدفة والاحزاب الاسلامي، دفع الأمور من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى وجهة غير إنسانية وغير عقلانية ومنمية للصراعات الطائفية، وجهة تقوم على التمييز بين المواطنين على أساس الدين والطائفة على نحو خاص، وكرست بذلك نظاماً سياسياً يستند إلى قاعدة المحاصصة الطائفية اللعينة بين سكان البلاد.

 ولكن المهم في الأمر أن المثقفات والمثقفين (الديمقراطيين)، سواء أكانوا في داخل العراق أم خارجه ابتعدوا عن الطائفية والسياسية، وعملوا لأن تكون لهم مواقف مستقلة عن الحكم وعن القوى الطائفية السياسية وتحكيم ضمائرهم ورؤيتهم للأحداث في اتخاذ المواقف المناسبة، وبقيت فئة قليلة منهم تدافع عن السلطة السياسية القائمة في العراق من منطلق لا يمكن أن يكون إلا طائفياً ويهاجم من ينتقد السلطة السياسية ويدعي الحكمة في دفاعه عن السلطة لإبعاد القوى الديمقراطية عن التطرف الذي ساد سلوكها عبر عقود.

نعم هناك ثله ممن تحولوا صوب الدفاع عن مواقف سلطة تحولت شيئاً فشيئاً إلى سلطة غارقة بالانتماء الطائفي والفساد، وكم أتمنى أن يعيد هؤلاء الكتاب دراسة مواقفهم الجديدة بدلاً من تحشيد جيوش الكترونية والهجوم على من يتبنى موقف الناقد للحكومة بعد كل الذي حصل ويحصل في العراق.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم