آراء

محمود محمد علي: "عماليق غزة" كما تصورها أسفار العهد القديم

في السبت الماضي الموافق الرابع من نوفمبر 2023 أثار رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، الجدل بسبب خطابه الأخير عن آخر التطورات لما يجري في غزة، بعد أن ذكر بعض الفقرات من التوراة مستشهدا بها كغطاء لأفعاله الإجرامية ضد سكان القطاع المحاصر.

وتحدث نتنياهو، عن أن الجيش افتتح "مرحلة ثانية" في العدوان على قطاع غزة من خلال إرسال قوات برية إلى غزة، وتوسيع الهجمات من البر والجو والبحر، ووصف الحرب بأنها معركة من أجل بقاء بلاده. وحذر من أن الهجوم سيتكثف قبل غزو بري واسع النطاق في المنطقة. وقال: "هناك لحظات تواجه فيها الأمة احتمالين: أن تفعل أو تموت، ونحن الآن نواجه هذا الاختبار وليس لدي أدنى شك في كيفية نهايته: سنكون المنتصرين".

وأضاف: "يقول كتابنا المقدس سفر صموئيل الأول 15: 3، الآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعف عنهم، بل اذبحوا رجلا وامرأة طفلا ورضيعا بقرا وغنما جملاً وحمارا"..

والسؤال الآن: من هم عماليق؟، ولماذا يكرههم الإسرائيليون؟، ولماذا شبههم نتنياهو بأهل غزة؟، وما الوصية المتعلقة بهم في الكتاب المقدس؟، وما التفسير المسيحي لهذه النصوص الكتابية؟، ولماذا يصمم الكيان الصهيوني على الاستشهاد بنصوص من الكتاب المقدس؟، وما موقف المسلمين تجاه هذا الموقف الديني المتعمد من الكيان الصهيوني؟

ونبدأ بالإجابة عن السؤال الأول، حيث نجد أن عماليق هم أعداء اليهود الأزليين، وهم أول الشعوب التي تحدثت العربية، من أقدم وأكبر الأمم التي سكنت الجزيرة العربية، حيث خرج من بينهم ملوك ذو شأن عظيم، ونجحوا بإقامة مجتمعات اقتصادية مزدهرة، حتى أصبحوا من الأثرياء.

أما لماذا يكرههم الإسرائيليون!، ولماذا شبههم نتنياهو بأهل غزة!، فكما قلنا عقب الحرب على غزة خرج نتنياهو في خطاب شديد اللهجة، واستحضر نصا دينيا، وهو يخاطب جنوده، وقال لهم:" عليكم أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم، مؤكدا أن جيشه وجنوده جزء من إرث جيش وشعب نون بن يوشع الذي قاتل العماليق، ولو رجعنا لابن الكلبي فنجده يقول:" إن أول من تكلم العربية هو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، واسمه كان عربيا، وقالت العرب في أمثالها القديمة: من يطع عريبا يمسي غريبا "، وذلك لأنه تسبب بطردهم من بابل، حيث تحدث العربية.

وقد اختلف المؤرخون في أصل كلمة عماليق !، فمنهم من أرجعها إلى ضخامة أجسام هذه الشعوب، وآخرون قالوا أن أصلها يعود لاسم قبيلة عربية سكنت في العقبة، وكان البابليون يسمونها بـ" ماليق" أو " مالوق"، فجاء اليهود، وأضافوا إليها كلمة " عم"، والتي تعني " الأمة" أو " الشعب"، وبهذا الشكل تكونت كلمة " عماليق".

هناك إشارة سابقة إلى العمالقة، عندما ضرب كدر لعومر ملك عيلام وحلفاؤه (حوالي 1900 ق. م.) " كل بلاد العمالقة، وأيضاً الأموريين الساكنين في حصون تامار " (تك 14: 7)، وهي إشارة يمكن أن تكون إلى شعب آخر غير نسل عماليق حفيد عيسو، وفي الأصحاح الرابع والعشرين من سفر العدد نقرأ أنه لما رأي بلعام عماليق، " نطق بمثله وقال عماليق أول الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك " (عد 24: 20).

وعبارة "أول الشعوب" قد تعني أنه أول شعب هاجم بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر (خر 17: 8، عد 14: 45)، أو أنهم أول شعب سكن تلك المنطقة (1 صم 27: 8). وكان العماليق يطلقون أسماءهم على المناطق التي كانوا ينزلون فيها، وأشهرها مدينة" "ايلا" التي نُسبت إلى " ايلا بن هوبر بن عمليق"، وهو أول من نزل فيها، وينحدر العماليق من ذرية " لاوذ بن ارم"، وسكنوا الجزيرة العربية، ثم رحلوا إلى بلاد الرافدين، وهي العراق حاليا، وعندما تكاثروا وأصبحوا أعدادا كبيرة، عاد جزء منهم إلى الجزيرة العربية، وتمركزت قبائلهم في البحرين، واليمن، وعمان، ومن قبائلهم كما ذكر ابن خلدون " بنو ليف"، وبنو سعد" و" بنو مطر" و" بنو الأزرق"، و" بنو الأرقم"، وغيرهم كثير.

وقد نجح العماليق في إنشاء مجتمع زراعي في يثرب، والتي سكنها حسب رواية الطبري "قبيلة جاسم"، وقاموا بتصدير محاصيلهم إلى المناطق المجاورة ـ ودرت عليهم تجارتهم أموالا طائلة، وجاءت إليهم الأقوام من جميع الأماكن، نظرا لازدهار أعمالهم، وكونوا فيما بعد مجتمعا موحدا.

أما عن موطنهم فقد كان العماليق شعباً بدوياً، يتجولون في المنطقة ما بين شمالي سيناء والنقب جنوبي كنعان، إلى الجنوب من بئر سبع بما في ذلك منطقة العربة إلى الشمال من إيلات وعصيون جابر، وربما إلى بعض الأجزاء الشمالية من شبه جزيرة العرب. ونقرأ أن شاول الملك ضرب " عماليق من حويلة حتي مجيئك إلى شور التي مقابل مصر " (1 صم 15: 7). ويبدو أنها نفس المنطقة التي كان يسكنها قبلاً بنو إسماعيل الذين " سكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجئ نحو أشور " (تك 25: 18) ؛ كما مد العمالقة نفوذهم شمالاً في فلسطين وأفرايم كما نفهم من وجود جبل باسمهم في أرض أفرايم بالقرب من نابلس الحالية، حيث دفن عبدون بن هليل الفرعثوني قاضي إسرائيل (قض 12: 15).

ونقرأ في سفر صموئيل الأول أن العمالقة " قد غزوا الجنوب وصقلغ " (1 صم 30: 1, 2). وما جاء في سفر القضاة (6: 3 و 33) عن تحالف العمالقة مع المديانيين وملوك الشرق في غاراتهم على بني إسرائيل، قد يكون دليلاً على أن العمالقة كانوا في وقت من الأوقات قد زحفوا شرقاً واختلطوا بالقبائل العربية في شمالي شبه جزيرة العرب.

لهذا رجعنا لكتاب " المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم "، لخوري بولس الفغاني، يقول إن عماليق هم مجموعة من القبائل البدوية التي تنتمي إلى الأدوميين (حسب تك 36: 12-15)، وقد عاشوا في الصحراء بين سيناء وجنوبي غربي فلسطين "، وفي كتاب "قاموس الكتاب المقدس" (والذي ألفه نخبة من الأساتذة ذوي الاختصاص ومن اللاهوتيين، والذي حرره الدكتور بطرس عبد الملك والدكتور جون الكساندر طمسن والأستاذ إبراهيم مطر)، قال عن العماليق أنهم شعب من أقدم سكان سورية الجنوبية، وكانوا يقيمون في البدء قرب قادش في جنوب فلسطين، وكانوا مصدر ازعاج لبني إسرائيل في البرية، لأن العبرانيين اعتدوا على ممتلكاتهم "، ثم يستطرد القاموس:" ولكنهم وقفوا في وجه العبرانيين مرة أخرى لما أراد هؤلاء التوسع في اتجاه الشمال "، ثم يقول كذلك:" وكان العماليق يتجولون من مكان لآخر، وكان مجال تجولهم وسيعا، من حدود مصر إلى شمال العربية إلى بادية فلسطين".

أما فيما يخص الوصية الكتابية المذكورة في الكتاب المقدس وبالذات في العهد القديم، والمتلقة بعماليق، وهذه هي النقطة التي ركز عليها نتنياهو والذي يدرك جيدا أن إخواننا من المسيحيين سيفهمونها، فلو رجعنا إلى سفر التثنية من النص الذي اقتبس منه نتنياهو (25/17):"" اُذكُرْ ما فعَلهُ بكَ عَماليقُ في الطريقِ عِندَ خُروجِكَ مِنْ مِصرَ"، وعندما خرج بني إسرائيل من مصر وجدوا شعوب تعيش في الأراضي التي يريدون أن يدخلوها، فحدثت بينهم حروب والذي رأينا نتنياهو يريد تطبيقه أصلا يقول النص:" "فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ تَنْسَ." (تث 25: 19).

وهنا يعلق نتنياهو في خطابه " إننا لم ننسى الوصية"، وهنا يضع أهل غزة مكان عماليق، وما يجب أن يفعله إزائهم هو محو ذكر عماليق من تحت السماء حسب الرواية، وهذا ما يفعله الكيان الصهيوني الآن، وهو محو الفلسطينيين من تحت السماء.

وأما فيما الإجابة عن الموقف المسيحي تجاه هذا المحو، وهنا أقول علينا أن ندرك جيدا أن معظم المسيحيين لا يستطيعون أن يعترضوا على ما جاء في الكتاب المقدس، وذلك لأن هذا الكلام يؤمن به كل اليهود والمسيحيين على حد سواء لكون أن الله قد أمر بذلك، وتلك مسألة في غاية الأهمية، وهذه هي حقيقة خطورة الموضوع، فالكيان الصهيوني، لا يؤمن بأن تلك واقعة تاريخية لها ظروفها الخاصة، ولا ينبغي أن تتكرر، بمعني أن الله قد أمر بذلك في الماضي السحيق، ومن ثم فهذه تمثل حالة خاصة بشعب خاص بأمر من الله، وليست هذه هي أخلاق الحروب بشكل عام، ولكن في نظر الكيان الصهيوني أنه يجوز له أن يفعل هذا مرة أخرى كما فعل ذلك يشوع بن نون وهو كما نعلم أنه تلميذ سيدنا موسي عليه السلام، وأحد أهم أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام.

وهنا نجد كثير من المفكرين المسيحيين المعاصرين يتساءلون ما موقفنا تجاه نصوص دينية تقول بأنه بإمكاننا أن نبيد شعوب أخرى، ونمحوها من تحت السماء، وهنا نجد " وليم ماكدونالد (التابع لمعهد عمواس للكتاب المقدس)" يقول:" نسل عماليق كان ينبغي أن يُبادروا عن بكرة أبيهم لسبب غدرهم وقسوتهم (خر 17: 8-16). أخبر الرب إسرائيل ألا ينسى محو عماليق".

وأما وليم مارش (السينودس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان):" كان عماليق نتاج عدم الإنسانية، فكان استئصاله من السنن التي تعتز بها الإنسانية "، وهذا الكلام في غاية الخطورة وذلك لكون العماليق في نظر مارش فيجوز إبادتها واستئصالها، وهذا الفعل أن تبيد شعب آخر هو في نظر مارش فعل تعتز به الإنسانية.

ولذلك علينا أن نتعجب حين نستمع لنتنياهو وهو يقول في خطابه أننا نحارب حرب الإنسانية، وحرب الحضارة، وحرب التمدن، ومن ثم يجب علي كل الأمم المتحضرة والمتمدنة أن تقف معنا في حربنا ضد هؤلاء البرابرة المتوحشين.. وللأسف هذا ما يحدث في غزة اليوم.. وللحديث بقية..

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.........................

المراجع:

1- الكتاب المقدس.

2- قصة عماليق التي ذكرها نتنياهو وحقيقة نبوءة حماس في سفر إشعياء.. يوتيوب.

3- نتنياهو يهدد فلسطين بالعماليق أعداء اليهود الأزليين وأول الشعوب التي تحدثت العربية.. يوتيوب.

4- لماذا يحارب الرب عماليق من دور الي دور؟ خروج 17: 16.. مقال.

5- هل يستعين نتنياهو بالتوراة لتبرير الإبادة الجماعية لسكان غزة بعد تشبيههم بالعماليق؟.. مقال.

في المثقف اليوم