آراء

عبد السلام فاروق: 2023 .. العام الدامي

استحوذ الصراع فى فلسطين المحتلة على الاهتمام الإعلامي عالمياً فى نهايات عام 2023، وإن لم يكن الصراع الوحيد، بل سبقه الصراع فى السودان، وقبلهما الصراع الروسي الأوكراني. ثم هناك ما حدث فى الغرب الإفريقي من تداعِي للهيمنة الفرنسية على عدة دول انحازت للمعسكر الروسي سياسياً. وهو ما يجعل كل تلك الصراعات تصب فى المعركة الكبري القديمة والمستمرة بين القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والقطب الشرقي بقيادة روسيا والصين. وليبدأ عام جديد وفصل مختلف من فصول الصراع الممتد بين الفريقين فى مستهل عام 2024.

9 شهور سوداء

كأنها ولادة متعسرة لجنين سوداني مشوه خارج من بوتقة حرب لم يخسر فيها إلا الشعب السوداني.

تقترب الحرب السودانية من إكمال شهرها التاسع، وقد تحول أكثر من 60% مما تبقي من السودان إلى ساحات حروب، وبدأت المناطق الآمنة للنازحين من ويلات المعارك تتقلص. وبات نحو ثلثي الشعب السوداني معرضين لأخطار المجاعة والمرض، ناهيك عن تعرضهم لمخاطر القتل والنهب والسلب والخطف والاغتصاب. ولتعلن الأمم المتحدة عن تعرض الشعب السوداني لمأساة إنسانية وشيكة، وأن هناك سبعة ملايين نازح سوداني غادروا بيوتهم متجهين إلى المجهول.

آخر الأخبار تتحدث عن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة (ود مدني) فى الجنوب الشرقي من مدينة الخرطوم بعد انسحاب الجيش منها. وهو الأمر الذي يوسع رقعة الصراع ، ويزيد الانقسامات بين عناصر النسيج الداخلي للمجتمع السوداني. ذلك المجتمع القبلي الذي وصل فيه عدد الحركات المسلحة به إلى نحو 92 حركة، أكثر من 90% منها فى دارفور وكردفان. وبعد نحو 300 يوم من الحرب، اختلفت انحيازات تلك الحركات إما نحو الجيش أو نحو الجنجويد، وإن أعلن أكثر تلك الحركات وقوفه على الحياد.

القطاع الصحي فى السودان يتداعَي، وحتى منظمات الهلال والصليب الأحمر توشك أن ترفع راية الاستسلام بسبب انعدام قدرتها على مواصلة خدماتها فى ظل صراع دموي بغيض ينتهك الأعراف. والمناطق التي اجتاحتها قوات الدعم السريع شهدت عمليات نهب وسرقة واسعة النطاق، وانتشرت مشاهد لسيارات محملة بأكوام من النقود يتم تداولها بين جنود الجنجويد. كما انتشرت أخبار النازحين والمفقودين والقتلي فى الطرقات. كما انتشرت فظائع الاغتصاب وانتهاك الأعراض لدرجة حدوث نقص حاد فى أدوية منع الحمل بسبب الطلب الشديد عليها من جانب ضحايا الجنجويد من نساء السودان!

وما تزال عمليات تدفق السلاح تمثل الخطر الأكبر على تمدد واتساع نطاق الصراع، فحتى لو جلست أطرافه على مائدة المفاوضات كما هو مرتقب خلال أيام أو أسابيع. سوف تبقي شعلة الخلاف متأججة بين مجتمع انقسم على ذاته وتحولت كل مكوناته إلى ميليشيات يحارب بعضها بعضاً، بما ينذر بإعادة تقسيم السودان جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. والأخطر من التقسيم أن يستمر الصراع بين الدويلات المقسمة ويستمر التدمير والتهجير حتى يتم تفريغ السودان تماماً من كل مواردها البشرية والطبيعية، وتصبح مرتعاً للقوى الخارجية تتحكم فيها كيف تشاء!

إن الاتفاقات القادمة بين أطراف النزاع فى السودان لن تكون اتفاقات سلام ووقف للحرب بقدر ما ستكون تفاهمات حول تقسيم الكعكة السودانية، وليذهب كل طرف بما كسب! وليكون الشعب السوداني هو الخاسر الوحيد فى أى اتفاق قادم!

إسرائيل تصرخ!

الإعلام الإسرائيلي تحدث فى الأيام الأخيرة عما أسماه انتصارات نوعية لجيش الاحتلال، تمثلت فى اكتشاف نفق كبير شمال جباليا. ثم نفقين جديدين وجدوا بأحدهما خمسة من الأسري قتلي داخل النفق. كما أعلنت إسرائيل تمكنها من اغتيال أحد قادة الحرس الثورى الإيراني فى سوريا. وكل تلك الأخبار تصب فى حالة تصعيدية تشير لتوسيع الحرب بدلاً من إنهائها. بينما يتحدث الإعلام الأمريكي عن الضغط فى اتجاه إنهاء الحرب وبدء المفاوضات قبيل بداية العام الجديد. فأي السيناريوهات أقرب للحدوث؟

هناك أنباء عن ضربات موجعة وجهتها كتائب حزب الله اللبناني ضد مستوطنات ومواقع عسكرية قريبة من جنوب لبنان، بينما الإعلام العسكري الإسرائيلي يتكتم حول حجم الخسائر ومواقع الضربات. وهو ما يشي بمحاولات التحجيم والتعتيم. فى نفس الوقت الذي تسببت فيه تهديدات الحوثيين للسفن الإسرائيلية المارة بمضيق باب المندب ذهاباً وإياباً لوقف الكثير من الرحلات وتحويلها إلى مسارات بحرية وبرية بديلة، وهو ما تسبب فى رفع تكلفة التأمين على جميع الرحلات التجارية المارة بالمضيق. ويبدو أن التحالف الأمريكي الذي تم توجيهه للوقوف فى وجه تهديدات الحوثي لم يفلح فى تحقيق أية نتائج تكتيكية ملموسة، وهو ما يعني تفاقم الوضع  وازدياد التهديدات ضد إسرائيل من جهة اليمن.

لقد أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخراً عن استعداده لبدء المرحلة الثالثة من الحرب على غزة. وبدأ تلك الخطوات بسحب لواء جولاني من منطقة الشجاعية، وربما ألوية أخرى من شمال غزة، ليركز أعماله القتالية فى منطقتي الوسط والجنوب. والحديث الآن يدور حول ترتيبات ما بعد الحرب. وأن المطلوب هو تقويض قدرات حماس فى غزة، وإنشاء منطقة معزولة تقع تحت سيطرة إسرائيل خاصة عند المعابر والمحاور الرئيسية، وهو ما يعنى مزيداً من إحكام الحصار حول غزة والمقاومة. غير أن ما يحدث على الأرض يسير فى عكس الاتجاه الذي تخطط له إسرائيل..

الأرقام تؤكد حدوث خسائر حادة للجيش الإسرائيلي على كل المحاور.. هناك أكثر من خمسة آلاف جندى وضابط إسرائيلي سقطوا فى أرض المعركة بين قتيل ومصاب ومعاق. ونحو مليار شيكل خسائر يومية لاقتصاد إسرائيل. وأهالي الأسري ما زالوا يضغطون على حكومة نتنياهو وقادة الجيش لاستعادة أسري فشل الجيش فى استعادتهم بالعمليات القتالية، ولم يعد أمامه إلا استعادتهم من خلال المفاوضات. وربما كانت استراتيجية "هانيبال" لقتل الأسري قائمة فى أعراف الجيش، بعد أن أعلن الأخير عن قتله لثلاثة من الأسري الإسرائيليين عن طرق الخطأ!

ومهما كانت نتائج الحرب، فإن ما بعدها أسوأ بالنسبة لإسرائيل، فالنازحون والهاربون من جحيم الحرب قد لا يعودوا للمستوطنات، وسوف تتعرض حكومة إسرائيل لهزة سياسية كبيرة وستحدث بها استقالات وانشقاقات بالجملة، بخلاف التحقيقات الرسمية التي ستسفر عن انكشاف فضائح وأسرار كثيرة تم التعتيم عليها طوال فترة الحرب.

المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادمة لا محالة، لأن إسرائيل تنزف بشدة وتبحث لنفسها عن مخرج. وكلما ضغط دعاة الحرب فى حكومة نتنياهو لمزيد من إطالة أمد المعارك، فهم يستنزفون إسرائيل أكثر وأكثر، ويجعلون المفاوضات القادمة أشد صعوبة على المفاوض الإسرائيلي. وليس عندى أدني شك أن إسرائيل هى الخاسر الأكبر من هذه الحرب.

أمريكا وبداية النهاية

أسابيع قليلة وتبدأ أعنف وأسوأ انتخابات رئاسية أمريكية تحدث فى ظل انقسامات داخلية حادة هوت بشعبية بايدن وحزبه الديمقراطي إلى الحضيض. وعلاقات خارجية هى الأسوأ فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. والعداء والكراهية ضد أمريكا وسياساتها فى تصاعد مستمر.

يحدث هذا فى الوقت الذي حققت روسيا عدة انتصارات كان آخرها السيطرة على منطقة محصنة شرق أوكرانيا، فى نفس الوقت الذي يقرر فيه الكونجرس الأمريكي تجميد المساعدات المقدمة لأوكرانيا. وربما جاءت انتخابات أمريكا القادمة بتغيرات دراماتيكية فى المشهد السياسي لا فى أمريكا وحدها بل فى العالم أجمع. إذ أن الحديث يجري عن إمكانية عودة ترامب لسدة الحكم، وهو ما قد يعني إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بالمفاوضات وبدء حلقة جديدة من الصراع الأمريكي الصيني، فى ظل تقلص حجم الحلف الأمريكي الغربي مع تزايد كراهية الدول للعنجهية الأمريكية فى مقابل علاقات اقتصادية أسرع نمواً نحو الحلف الصيني ودول البريكس.

لاشك أن عام 2024 سيحمل الكثير من المفاجآت هنا وهناك. وهو ليس عام الحظ بالنسبة لأمريكا ولا إسرائيل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم