آراء

قادة جليد: في الحاجة إلى الميثاق الوطني

في الحاجة إلى الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة

تمر الجزائر اليوم في حياتها المعاصرة، دولة وشعبًا بمنعطف تاريخي مهم وهي تستعيد هويتها الحضارية وحيويتها الإبداعية بعد سبات طويل من خلال تحرير الطاقات والمبادرات التي كانت كامنة ومقموعة وتحرير العقل الجزائري الجديد بصفة عامة، إن  هذا المنعطف  التاريخي هو منعطف نهضوي بامتياز يعبر عن حركة إيجابية فاعلة في المجتمع تمس حياته الروحية والعقلية والمادية وتعكس طموحاته وتطلعاته في الحياة وتنقله من  مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة مع ضرورة الوعي بذلك، وبمعنى آخر تحول إجتماعي وحضاري من خلال بناء  إنسان   جزائري جديد، تحول يشمل فكره وعقله ومحيطه الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وبيئته المجتمعية ويكون لوجوده وحضوره الجديد في التاريخ انعكاس  متميز على المستوى الإقليمي والدولي .

إن هذا التحول الجديد والمسار الجديد الذي نتوخى منه اليوم الجزائر الجديدة أي الجزائر في حالة يقظة ونهضة أصبح يسنده ويشكله ويؤسس له وعي شعبي جديد  ذو طابع تاريخي لأنه يحمل حلم النهضة ومشروع النهضة الجزائرية الجديدة ويقطع نهائيا من حيث المبدأ على مستوى الفكر والسلوك مع قيم وممارسات  هذا الماضي، الذي أورثنا وخلف لنا تركة ثقيلة ومتشعبة  داخل المجتمع ذات طابع بنيوي.

إن هذه القطيعة مع فكر الماضي وتمظهراته السلوكية في شتى مناحي الحياة، الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية إلخ... لم تكن لتتحقق لولا الحراك الشعبي المبارك الذي كان بمثابة الروح التاريخي الجزائري الأصيل والملهم وأصبح يمثل اليوم بكل قوة معنوية وروحية البوصلة الفكرية والحضارية ونظاما أخلاقيا لليقظة والوعي وتلاحما عضويا بين الشعب والجيش ضد كل أشكال الإنحرافات التي قد تحدث في المستقبل، هذه الإنحرافات التي أخرجت الشعب الجزائري كله إلى الشارع في 22 فيفري 2019 للمطالبة بالتغيير وتصحيح المسار وتصويب الوجهة والعودة مجددا إلى حلبة التاريخ وأن  نكون من صناعه  لا من المتفرجين عليه والمتأثرين به.

1. الأسباب التي دفعتنا لتقديم هذه المبادرة:

وإن هذه المبادرة التي نقدمها ونعرضها اليوم للنقاش وهي مبادرة: الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة، هي مبادرة وطنية جزائرية خالصة نابعة من صميم المجتمع المدني المنخرط في معركة الوجود والمصير مُعبِّرًا عن ذلك كقوة اقتراح فكرية بعيدا عن المصالح الفئوية والطبقية والتجاذبات السياسية والاصطفافات الحزبية والإيديولوجية وتأمل هذه المبادرة وتعمل على ذلك بأن تكون على مسافة واحدة من الجميع، بين السلطة والمعارضة من جهة وبين االسلطة  والأغلبية الرئاسية من جهة أخرى وتطمح هذه المبادرة في جوهرها إلى فتح نقاش حر ديمقراطي وتحريك العمل الفكري والثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري وإشاعته عموديا وافقيا، أي على مستوى النخبة والجماهير وكل الفئات والمستويات الشعبية لأنه لا يمكن بناء نهضة جديدة  أو الطموح إلى مستقبل  اجتماعي وحضاري أفضل بدون فكر أساسه الحوار الحر، المسؤول والملتزم لأن  بالفكر وبالفكر وحده نستطيع أن نغير الواقع وندفع به إلى الأمام.

2. لماذا فشلت المبادرات السياسية السابقة؟

قبل شرح الخطوط العريضة والعامة لمبادرتنا، ربما يتساءل الكثيرون وهو تساؤل  مشروع :ما هو الفرق بين هذه المبادرة والمبادرات السابقة التي تعج بها الساحة السياسية الوطنية؟ ألا يمكن أن يكون مصيرها الفشل أو النسيان وفي أحسن الظروف عدم تحقيق الأهداف التي كانت مرجوة ومنتظرة منها؟

بالفعل، لقد أطلقت حركة البناء الوطني مؤخرا مبادرة سياسية بعنوان: المبادرة الوطنية لتعزيز التلاحم وتأمين المستقبل. ولقد انخرطت عدة أحزاب ومنظمات وجمعيات في إطار هذا المسعى وحاولت إثراء هذه المبادرة مع تجنيد الطاقات والإمكانيات لتجسيدها على أرض الواقع وعقدت في سبيل ذلك لقاءات وطنية ومحلية.

ولا شك أن هذه المبادرة صحيحة من حيث المبدأ الذي تقوم عليه والتطلعات والأهداف التي تحملها ولكنها فشلت في تحقيق ما كانت تنتظره، وما كان منتظرا منها وهذا يعود في نظرنا للأسباب الرئيسية التالية:

أ‌- لم تكن السلطة، أي أجهزة الدولة ومؤسساتها طرفا في هذه المبادرة وهذا ما يفقدها طابع المصداقية والإلتزام والمسؤولية والطابع العمومي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأن السلطة هي التي تمتلك وسائل وأدوات التغيير الإجتماعي ( الثروة والبرامج التنموية وأدوات التنفيذ).

ب‌- تعرضت المبادرة لتجاذبات سياسية وحزبية بسبب مشكلة القيادة والتنافس (من يقود من؟) بين قادة الأحزاب السياسية وكذلك الحساسية التي تثيرها مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية وهذا ما أفضى نوعا من الضبابية والغموض على هذه المبادرة والنتيجة عدم الاهتمام وعزوف الجماهير عنها.

ج- لم تحمل المبادرة أهدافا عملية تطبيقية يمكن متابعتها وتقييمها ومحاسبة المسؤولين عنها بل طرحت أهدافا نظرية عامة هي أقرب للشعارات السياسية والاديولوجيه التي لا يخلو منها كل نظام سياسي مثل تحصين الجبهة الداخلية  و مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية.

إننا لا نقول أن مبادرتنا هي المبادرة الوحيدة والممكنة ولكنها ولا شك مبادرة من بين مبادرات كثيرة، مبادرات مضت ومبادرات قد تأتي في المستقبل لأن المجتمع الجزائري بحاجته اليوم وفورا إلى نقاش يعمق رؤيته للقبض على أسباب نهضته وهو منغرس في ماضيه ومنتبه  لحاضره ومتوقع ومتهيئ لمستقبله.

3- في معنى هذه المبادرة وأبعادها الإستراتيجية:

إن هذه المبادرة هي مبادرة سياسية وحضارية ذات بعد استراتيجي لأنها مرتبطة بقضايا النهضة والتقدم وهي لا تقتصر على طرف دون طرف آخر بل  تهم  المجتمع ككل ودرجة الوعي التاريخي لديه في مرحلة تاريخية من تطوره.

إن النهضة الجزائرية التي ننشدها ترتكز على مصطلحين أساسيين وهما الميثاق الوطني والكتلة التاريخية وكلا المصطلحين  لهما  مرجعية فكرية وسياسية   في تاريخ الجزائر الحديث  و من هنا  قدرتهما على التوصيف والتحليل والتعبئة فالميثاق  الوطني  هو تلك النصوص الأساسية التي صادق عليها الشعب الجزائري لتنظيم شؤونه  وشؤون الدولة والمجتمع سنة 1976.

أما الكتلة التاريخية فتذكرنا بثورة أول نوفمبر الخالدة حيث  تحرر  الشعب الجزائري من أحزابه السياسية  التقليدية التي كان  يناضل فيها  وانخرط في جبهة جديدة (جبهة التحرير الوطني) مشكلا  بذلك كتلة تاريخية لتحقيق الأهداف المعلنة وهي أهداف الحرية والاستقلال واستعادة السيادة الوطنية واقامة الدولة الجزائرية المستقلة.

إن مبادرتنا إذا تعتمد على مجموعة مبادئ وأهداف يكون حولها إجماع  (ميثاق وطني)  وهذه الأهداف ذات طابع نهضوي ينخرط الجميع في تحقيقها وتقييمها  من خلال كتلة تاريخية جزائرية جديدة  والتي تمثل الطاقات الحية في المجتمع  بكل أشكاله وألوانه وأنواعه وتياراته ومشاربه.

4- ميثاق وطني من أجل النهضة:

يتذكر الجزائريون الميثاق الوطني الذي اقترحه الرئيس الراحل الهواري بومدين سنة 1976 وهو مجموعة من النصوص تؤطر النظرة التاريخية للمجتمع الجزائري وتبين طرق  تطوره و رقيه و نحن   ، كذلك في هذه المبادرة ولو يشكل مختلف تقترح مجموعة من الأفكار والمبادئ والأهداف تتمتع بالقبول العام والإجماع الوطني ولكن هذه الأهداف والمبادئ ذات طابع عملي ومرتبطة بنظام الزمن وهي بمثابة أهداف مستقبلية تشمل نهضة جديدة وتنمية  وطنية شاملة تغير مصير الإنسان الجزائري والمجتمع الجزائري في مرحلة معينة من التاريخ.

إن هذا الميثاق هو بمثابة عقد اجتماعي جديد يشمل  السلطة  والمجتمع بكل مكوناته وطاقاته ويؤسس لمرحلة تاريخية  جديدة مرتبطة بالمكانة الجديدة للمجتمع الجزائري في التاريخ المعاصر ويمكن تلخيص الخطوط العريضة والعامة لهذا الميثاق في النقاط التالية:

أ- الإتفاق على أهداف مستقبلية وحتى لا تبقى هذه الأهداف نظرية ومثالية يجب تفعيلها في الميدان واختبارها في الواقع بواسطة البرامج  التنموية  المختلفة في شتى المجالات المرتبطة بحياة الجزائري وواقعه وتطلعاته ،كما  يجب ربط كل هدف بتاريخ زمني معين حتى نتجاوز  ثقافة الكلام وحتى لا نهرب  من  المسؤولية  أو نتهرب منها .

ب- ضرورة تسطير أهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة مثل تحقيق الإكتفاء الذاتي في مجال الفلاحة (هدف قصير) وخلق اقتصاد انتاجي خارج المحروقات (هدف متوسط) وتبوأ  الجزائر مكانة  معتبرة في الإقتصاد العالمي على أن تكون ضمن العشر الدول على مستوى العالم في مجال الإقتصاد (هدف بعيد).

ج- التقييم السنوي والمرحلي  لهذه الأهداف مراجعة ومراقبة  وتقييما، ما تحقق منها وما لم يتحقق من خلال المؤسسات االدستورية  والمدنية و الشعبية.

د- الخروج من الوعود الميتافيزيقية أو بالأحرى، اللغة الميتافيزيقية مثل قول المسؤولين سنحقق هذا المشروع في السنين القادمة أو الأشهر أو  الأسابيع أو الأيام القادمة    وهي كلها مواعيد لا تأتي أبدا وهي لغة تخلف بامتياز تتميز بغياب المسؤولية وصوت الضمير ولعل مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة في التأسيس  لخطاب سنوي  رئاسي أمام ممثلي الشعب والأمة يندرج في إطار هذا المسعى وهذه النظرة الرقابية والتقييمية للأوضاع الاقتصادية والإجتماعية  والسياسية للبلاد وهي نظرة إستراتيجية  تحمل مشروع نهضة حقيقية تربط الفكر بالعمل وتعطي مصداقية للغة (الواقع الموضوعي) أي ما تحقق بالفعل بعيدا عن الوعود والرغبات والتمنيات والتهويمات التي تبقى مجرد أفكار في ذهن أصحابها وأحلام مجنحة بدون ضوابط.

إن تخصيص الدولة الجزائرية ميزانية  ضخمة  لسنة 2024 وهي أكبر ميزانية  منذ استرجاع السيادة الوطنية بمبلغ قدره 113 مليار دولار من شأنه أن يكون انطلاقة لنهضة جزائرية حقيقية تكون محل اعتزاز وافتخار لكل الجزائريين والجزائريات.

5- كتلة تاريخية جزائرية جديدة:

إذا كان الميثاق الوطني للنهضة هو مجموعة من المبادئ والأهداف المشتركة والمكرسة وذات طابع استراتيجي فإن مفهوم الكتلة التاريخية هو مفهوم سياسي وفكري شائع في الأدبيات السياسية الحديثة والمعاصرة، مثل الكتلة التاريخية العربية  أو الكتلة التاريخية لأي قطر من أقطار العالم العربي وعلى العموم فإن مفهوم الكتلة التاريخية يعني أن تحقيق الأهداف المأمولة لا يمكن تحقيقها بواسطة طرف دون طرف آخر، في غيابه أو في تهميشه وإقصائه وإنما يقتضي  تحقيقها مساهمة جميع الأطراف مشتركين ومتحدين  حول أهداف محددة دون أن يذوب أحدهما في الآخر.

وفي هذا الإطار وداخل هذه الرؤية، ماذا نعني بالكتلة  التاريخية الجزائرية الجديدة؟

إن الكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هي ائتلاف فكري وتوافق وطني وإجماع داخلي محكوم برؤية إستراتيجية وفق أهداف محددة، معلنة وواضحة وتتكون  و تتشكل هذه الكتلة التاريخية من السلطة والمعارضة معا ومن كل القوى والطاقات الحية التي لها حضور داخل المجتمع كالأحزاب السياسية والنقابات والمهنيين والمجتمع المدني والشخصيات الفكرية والثقافية والدينية والفنية.

إن الكتلة التاريخية ليست بديلا عن الأحزاب السياسية  أو المنظمات الأخرى ولا يعني أن تتخلى هذه الأحزاب عن برامجها أو تجمد نشاطها أو تحل نفسها ولكنها تكتل تاريخي وطني لتحقيق أهداف النهضة الجزائرية المأمولة والتي تنقل المجتمع الجزائري من مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة تاريخية جديدة نلمس فيها ومن خلالها مؤشرات التقدم والسير إلى الأمام.

والكتلة التاريخية الجزائرية هي جديدة ومتجددة لأن  الشعب الجزائري شكل  وأسس كتلة تاريخية في  تاريخه المعاصر إبان ثورة التحرير المباركة من خلال جبهة التحرير الوطني التي استوعبت جميع التيارات والأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية وانجزت بواسطة هذه الكتلة  التاريخية  أهداف الحرية والاستقلال وبالتالي فإن مفهوم الكتلة التاريخية ليس غريبا عن المجتمع الجزائري ومن هنا يمكن تشكيله وتأسيسه في أي مرحلة من مراحل تاريخنا المعاصر خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا النهضة والتقدم.

إن مبادرة الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة هو مشروع وطني حضاري أصيل تؤطره رؤية إستراتيجية للمستقبل  وحس   تاريخي نابع من تطلعات شعبنا الجزائري إلى تبوأ  مكانة  مهمة في التاريخ العالمي ولا شك أن المحطة  السياسية  التاريخية التي تربط بين 2024 و 2030 ستكون بلا شك محطة ملهمة وحاسمة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية .إنه مشروع وطني كبير ويستحق منا كل جهد وتضحية.

***

الدكتور قادة جليد - استاذ جامعي وباحث وكاتب ونائب سابق

 

في المثقف اليوم