آراء

علاء البغداديّ: ويسألونك عن الشّعبويّة

الشّعبويّة وصف يطلق على نمط التّفكير السّياسيّ الذي يميل لتقديس الشّعب باعتباره يمثّل الحقّيقة المطلقة، وتشتقّ كلمة الشّعبويّة من الشّعب، والقدرة على إقناع أوسع قدر ممكن منه؛ ومثل هذا الوصف يعتمد على الدّيماغوجيا التي تقوم على دغدغة عواطف أكثريّة النّاس والتّأثير في مشاعرهم بخطابٍ موجّه إليهم مباشرة ويدّعي تمثيلهم والنُّطق باسمهم. وبشكلٍ عامّ تميل الشّعبويّة إلى الانعزاليّة وذلك للحفاظ على تماسكها وعلى أتباعها.

ولا يمكن تحديد تاريخ دقيق لنشوء الشّعبويّة، ولعلّها كانت موجودة في كُلّ العصور، لكنّ ظهورها يختلف من مجتمعٍ إلى آخر، وأمّا التعبير المعاصر عنها، فإنه يمكن إرجاعه إلى نشوء حركة شعبويّة في روسيا والولايات المتّحدة في أواخر القرن التّاسع عشر، وإنْ كان كلّ خطاب يوجَّه إلى "العامّة" ويدّعي النطق باسمها هو خطاب شعبويّ، لكنّها بالأصل عُرفَت في روسيا حين نشأت حركة فلّاحيّة رفعت بعض التوجُّهات ذات الصّلة بالعدالة الاجتماعيّة ونشطت هذه الحركة في عهد القياصرة الرّوس، ولا سيّما في عام 1870، وهي الفترة ذاتها التي شهدت فيها الولايات المتّحدة حركات احتجاج في الرّيف ضدّ المصارف وشركات سكك الحديد. ويحيل "جان فيرنر مولر" مصطلح "الشّعبويّة" إلى العواطف والأمزجة أكثر ممّا يمثّله أيّ مضمون (1).

وعلى الرّغم من ارتباطها بالعمل السّياسيّ، ولكنّنا لا ننكر أنّ الشّعبويّة تسرّبت إلى كلّ أنماط السّلوك والعمل الاجتماعيّ، ويلعب وعي الجماهير دوراً كبيراً أيضاً في توجيه السّياسيين والدّينيين وغيرهم من المعنيّين في السّاحات الاجتماعيّة.

ولو انتقلنا بالفكرة من بُعدها السّياسيّ إلى بُعدها الدّيني والثّقافيّ، لوجدنا أنّ الشّعبويّة هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطوّر الفكر الدّينيّ والثّقافيّ.

في العراق، ولا سيّما بعد عام 2003، نزعت بعض الخطابات والبرامج إلى محاباة رأي العامّة بأسلوبٍ يُحاكي ما يحبُّ الجمهور أن يسمعه ويقرأ عنه، وكذلك التّنفيس عن همومه على طريقة بيع الأحلام، دون أيّة محاولةٍ جدّية للدّخول في مناطق النّقد والتّحليل وإعادة النّظر في الإشكالات الأساسيّة التي تتجذّر منها أكثر المشكلات القائمة اليوم، كإدخال النّاس في متاهات الهويّات والطّائفيّة والإبقاء على النّزعة القبليّة والتّعصّبية.

وبسبب الخطاب الشّعبويّ وتعاطيه مع الكثير من الأحداث، فَقَدَ أكثر النّاس القدرة على التّمييز بين السّبب والنّتيجة، والتّفريق بين الأمور الجوهريّة والثّانويّة والسّبب في تسطيح بعض جوانب الخطاب الثّقافيّ وفق مبدأ "ما يريده الجمهور"، حيث أن بعض الفئات المُثقّفة أخذت تتبنّى الآراء الشّعبويّة في شكلٍ مُستنسخ عن ثقافة الفئات المهيمنة على الرّؤى الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة وأساليب خطابها، لكنّ الفارق بينهما في طريقة التّقديم المبنية على الأساليب المنهجيّة والفلسفيّة والأدبيّة ذات الطّراز الرّفيع، وبذلك أصبح الخطاب الثّقافيّ في بعض جوانبه يخدم أطروحات وقضايا الثّقافة الشّعبيّة، ما يعني انحسار دور بعض المثقّفين اليوم في تبرير آراء تلك الأطروحات والقضايا ومجاملة الوعي العامّ ذي التّناقض الفكريّ من الأساس.

في كُلّ الأحوال تتكوّن الشّعبويّة من عنصرين شبه متساويين في القوّة، يتمثّل أوّلها في استعادة وتكرار الشعارات التي تدغدغ أحلام الجماهير من قبل المثقّف الشعبوي، كالدفاع عن الفقير، والمطالبة بحقوقه والسّيادة الوطنيّة، وغيرها من الشّعارات الرّنانة وفق المرحلة التّاريخيّة ومقتضياتها. ويتمثّل ثانيها في الإصرار على الكثير من اللّغو الذي يفقد الخطاب أو النّهج من أيّ مضمونٍ فكريّ، أيّ يتمُّ إفراغ الشّعارات من معانيها ومقاصدها.

خلاصة القول أنّ الشّعبويّة هي حالة تهبّ كـ(الموضات) في لباس المراهقين، لكنّها تتلاشى مع أوّل موضة جديدة. والجماهيرية: هي متطلّبات شعبية عميقة في وجدان الناس. وإنّ إنتاج الوعي الثّقافيّ الجماهيريّ - وليس الشّعبويّ -، ضرورة لبناء أيّ مجتمعٍ ترسخ فيه الثّقافة والإبداع، كما يرسّخ الفلكلور الشّعبيّ والعرف الاجتماعيّ في الوجدان، لمئات السّنين وأكثر.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

....................

1- جان فيرنر مولر": ما الشّعبويّة؟ ترجمة: رشيد بو طيب، منشورات منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، ط1 2014 وط2 2017، ص 43.

 

في المثقف اليوم